نوف بنت عبدالرحمن: "طموحنا كجبل طويق".. وسنأخذ المعاقين للقمة    حكومة نتنياهو تناقش التسوية.. و20 غارة إسرائيلية على بيروت    يايسله يطلب تعاقدات شتوية في الأهلي    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على الغرافة    العراق يشهد اجتماعًا ثلاثيًا حول أهمية الحفاظ على استقرار وتوازن أسواق البترول العالمية    مجلس الوزراء يقر ميزانية 2025 ب 1.184 تريليون ريال    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقر الميزانية العامة للدولة لعام 2025    التعليم تسلط الضوء على تمكين الموهوبين في المؤتمر العالمي للموهبة والإبداع    تنفيذ 248 زيارة ميدانية على المباني تحت الإنشاء بالظهران    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    السعودية تتصدر العالم بأكبر تجمع غذائي من نوعه في موسوعة غينيس    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    بوريل يطالب إسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان    مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    سجن سعد الصغير 3 سنوات    حرفية سعودية    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    خسارة الهلال وانتعاش الدوري    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    ألوان الطيف    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مجرد تجارب.. شخصية..!!    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    خادم الحرمين يوجه بتمديد العمل ب"حساب المواطن" والدعم الإضافي لعام كامل    التظاهر بإمتلاك العادات    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عقيلات هذا العصر أعادوا اكتشاف النفود الكبير لاسترجاع الماضي وتلمس التاريخ وماضي الأجداد
في رحلة مثيرة على ظهور الجمال الأمير متعب بن فهد قاد القافلة عبر بحر من الرمال من القصيم إلى الجوف
نشر في الرياض يوم 07 - 01 - 2005

عندما كنت صغيراً اصطحبني والدي معه على ذلول ضمن ركب مسافر من بلدة «الشعراء» إلى «شقراء» قاعدة الوشم، وعندما كان هذا الركب يقطع رمال نفود السِّر في ليلة مقمرة كأن الابل ناءت بأحمالها فتكاسلت في مشيها على تلك الرمال، فما كان من راكبيها إلا ان اطلقوا لحناجرهم العنان بالانشاد والهيجنة واطلقوا لركائبهم أعنتها لتغذ في سيرها على وقع انشادهم.
وهذا العمل من الأمور المباحة؛ فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم ينشدون وهم على ظهور الابل في طريقهم إلى مكة، فأسرعت الابل فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «رفقاً بالقوارير» شفقة منه بالنساء المصاحبات للركب.
لم أنس تلك الليلة وما خامرني من شعور ونشوة رغم صغر سني، فكنت بعد ذلك أتطفل على ركوب كل جمل أو ناقة كلما سنحت لي الفرصة.
وأثناء قراءتي لكتب الرحلات التي قام بها الأجانب على ظهور الابل عبر جزيرة العرب كنت أتعجب من جلدهم ومصابرتهم على مشاق السفر.
وكنت اتساءل لماذا عندما استعاض الناس عن الابل في أسفارهم بوسائل النقل الحديثة لا تنظم رحلات سياحية على ظهور الابل احياءً لما كان عليه الآباء والأجداد، وللتذكير بما كانوا يعانونه في أسفارهم من مشقة، وذلك لكي يعرف أبناؤنا أنه إلى عهد قريب كانت وسائط النقل هي سفن الصحراء الناقة والجمل.
وفي أول شهر شوال 1425ه اتصل بي الأخ الفاضل الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميد وقال: ان سمو الأمير متعب بن فهد الفيصل الفرحان يعتزم القيام برحلة على ظهور الابل من «القصيم» إلى «الجوف» وقد ذكرت له أنك من محبي الرحلات، فهل لديك رغبة في مصاحبته في هذه الرحلة؟.
فقلت له: هذه رغبة كنت أتمناها وليس لدي مانع، وقد شكرته على هذه المبادرة وبعد نصف ساعة اتصل بي سمو الأمير متعب، وقال: أفادني الدكتور عبداللطيف بموافقتك على مصاحبتنا في الرحلة. وخيرني - سلمه الله - بين ركوب السيارة أو الذلول، فاخترت الأخيرة. فقال: إذاً نؤمن لك واحدة. وقد حدد سموه موعد السفر صبيحة يوم السبت 28/10/1425ه وأن الانطلاق سيكون من بلد «البُطيْن» بمنطقة القصيم.
وفي الموعد المحدد كنت هناك، وفي الساعة الثامنة والنصف صباحاً اُحضرت الركائب إلى ساحة البلدة أمام القصر فاستلم كل واحد راحلته، وحضر المودعون والمتفرجون حتى طلاب المدرسة الصغار تركوا الذهاب للمدرسة ليشهدوا بداية هذه الرحلة المثيرة، ولم تفلح جهود أحد مدرسيهم عندما أمرهم بالتوجه إلى المدرسة، وبدلاً من اشتراكهم في طابور الصباح انضموا إلى طابور المودعين.
عندما حانت ساعة الانطلاق وأردت الركوب على الذلول وجدت صعوبة ومشقة في اعتلاء الشِّداد. عند ذلك أدركت أني لم أحسب حساباً لتقدم السن وزيادة الوزن، وبعد لأي ركبت وأمسكت بخطام الناقة كان راكبوا الابل ستة أشخاص، وانطلقت بنا في تمام الساعة التاسعة بين هتاف المودعين.
لقد كانت الابل جافلة وبدأت سيرها درهاماً، وعندما سرنا قرابة نصف كيل شاء الله أن يسقط أحد الركاب من فوق الذلول، ونقل إلى المستشفى ولكنه بحمد الله لم يصب بأذى، وبعد أن اطمأن أمير الركب على حالته استمر السير، وبعد مفارقة عامر القرية لاحظت أن شداد راحلتي قد أصبح في مؤخرة ظهرها كما أحسست بألم في ظهري نتيجة الايجاف فأنخت الذلول وأمسكت بخطامها ومشيت أقودها قرابة نصف كيل. وخلال هذه المسافة القصيرة ادركت انني ارتقيت مرتقاً صعباً لا يتناسب مع سني وزيادة وزني، وفي هذه اللحظة قارنت بين الركوب على شداد الذلول الجافلة وبين مرتبة السيارة اليابانية فرَجَحتْ كفة الأخيرة فأبديت للأمير متعب هذه الرغبة، فقال: أنت بالخيار. فقلت في نفسي «النزول من أسفل الدرج أفضل من أعلاه»!!
فانضممت إلى راكبي السيارات، وسارت الابل براكبيها تحوطها عناية الله.
كان سمو الأمير متعب - والذي سأعبر عنه لاحقاً باسم «أمير الركب» - قد أطلعني في أول لقاء معه على خط سير الرحلة، وبما أني سبق أن سلكت هذا المسار ووقفت على كثير من الأماكن التي سيمر بها، لذا أدركت انه عارف بالأرض ولهذا حدد الطريق الذي سيسلكه عن دراية وخبرة، ومن خلال النقاش حول المسار الذي سنسلكه عرفت انه رحالة من الدرجة الاولى فهو متقن لقراءة الخرائط والاستفادة منها ومستخدماً للأجهزة الحديثة.
كان بداية الرحلة متعبة لراكبي الابل نظراً لتعرج الطريق بسبب سياجات المشاريع الزراعية حيث تستمر تلك السياجات المتعرجة لمسافات طويلة الأمر الذي يضطر معه عابرو السبيل إلى الالتفاف حولها.
ولست أدري من المتسبب في هذا الوضع المضني لأصحاب المواشي والمسافرين هل هي الجهة المانحة أم أصحاب المزارع؟
إنني اقترح على أصحاب تلك المزارع الكبيرة ذات المساحات الواسعة أن يوجدوا من خلالها ممرات ينفذ من خلالها عابرو السبيل ففي هذا تسهيل ومنفعة للمسلمين، ويمكن ايجاد بوابتين متقابلتين تربط بين المساحتين اللتين عبر بينهما الطريق، فهل هم فاعلون؟!
لم نتخلص من سياجات المزارع وتعرجاتها إلا عندما اعتلينا «جال الغراء» وهو امتداد لمرتفع «صفراء الأسياح» فعند ذاك اعتدل الطريق. وبما أن سير القافلة سيمر قريباً من بلدة «طلحة» فقد استقبل أهلها راكبي الابل مشجعين لهم وموجهين الدعوة لاستضافة الركب فاشترط أمير الركب أن تقتصر هذه الدعوة على شرب القهوة عندهم كسباً للوقت.
وبعد المغرب أناخت الابل في مكان الاستقبال بجوار البلدة، وقد تخلل هذا الاستقبال سرد كثير من الحكايات تدور حول السفر على ظهور الابل، كما ألقيت قصيدة وطنية.
بعد ذلك استأنف الركب مسيرته وقبل الوصول إلى عرق «ناظرة» اُختير مكان المبيت في وادي «بليعيم».
لقد قطعت الابل هذا اليوم مسافة خمسين كيلاً من بداية انطلاقها من البطين حتى مكان المبيت وذلك على السَّمت، أما إذا حسبنا تعرجات الطريق بسبب سياجات المزارع فقد تصل المسافة قرابة ستين كيلاً. في بداية هذه الرحلة قدرت أن الابل تقطع خمسة أكيال في الساعة، أما إذا كان سيرها زرفلة فتقطع قرابة ثمانية أكيال.
وعندما نزل راكبو الابل عن ركائبهم لاحظت أن أحدهم واسمه «مُطْني بن مطير العنزي» كان يمشي مجهداً ويسارع إلى النار التي أوقدت ليصطلي عليها، وقد بدا عليه التعب والاعياء من الركوب على ظهر الذلول طيلة هذا اليوم، واستمر يدلك عضلات ظهره.
مطني: رجل قليل الكلام ولكنه إذا تكلم أو قام بحركة أضحك الآخرين وأدخل عليهم السرور، ومع استمرار الرحلة تبين لي أنه لمثل هذه الرحلة الشاقة كالملح للطعام بادخاله السرور على أعضاء هذا الركب.
في صبيحة يوم الاحد قرر أمير الركب تأخير الرحيل من المراح إلى الساعة الثامنة والنصف، وذلك نظراً لبرودة الجو، وحتى لا تتعب الركائب ومن عليها، وعندما اجتاز الركب عرق «ناظرة» والعرق الذي يليه اعتدل المسار باتجاه مورد ماء «زرود» المشهور. وكان المبيت ليلة الاثنين في «عرق الأشعلي» وفي هذه الليلة استقبلتنا ريح شمالية باردة.
ومع أن هذه الرحلة على ظهور الابل لم يسبق الاعلان عنها؛ الا أن الخبر سار بسرعة بين سكان القرى القريبة وكذا مضارب البادية حيث كثرت الزيارات الاعتراضية ففي هذا اليوم حضركل من الأستاذ غانم بن عبدالله بن مضيان الحربي» من بلدة «مٌدرّج» والأستاذ «بندر بن شبيب بن هديب الحربي» من بلدة «القوارة» بقصد توديع الركب وتشجيعه، وقد شاركا في سمر تلك الليلة الذي تخلله سرد كثير من القصص والحكايات عن السفر على ظهور الابل وعن الشجاعة والكرم والوفاء مع الشواهد الشعرية.
في صباح يوم الاثنين غادر راكبو الابل المراح الساعة الثامنة وخمسين دقيقة وفي الساعة التاسعة وعشرين دقيقة وردت الابل وركابها فوق ظهورها على حوض الماء التابع لمزارع صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن عبدالعزيز، وهذا أول مورد ترده هذه الركائب.
كما تزودت القافلة من حنفيات الماء التي سبلها سموه ليردها سكان تلك الناحية.
وليت أصحاب المزارع في الأماكن النائية يحذون هذا الصنيع. وقد أدركنا أصحاب النخيل والمزارع في القرى يتسابقون على ايجاد أحواض بجوار أملاكهم ليشرب منها عابرو السبيل رغم أنهم يرفعون الماء من الآبار بواسطة السواني وما ذاك إلا ابتغاء الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى.
وعلى بعد عشرين كيلا جنوب بئر «زرود» توقف ركب السيارات للغداء، أما راكبو الابل فمروا يدرهمون ركائبهم ويهيجنون واستمروا على منوالهم باتجاه زرود مكتفين بالمتعشى عن المتغدى .
وفي رمال يكثر فيها شجر الأرطى تقع مطلع الشمس من بئر زرود على بعد كيل ونصف كان محل المراح لليلة الثلاثاء. وفي الساعة الثامنة والنصف صباحاً سار الركب ومر على بئر زرود ولكن لم تشرب الابل من حوضها نظراً لهجرها والتنكر لماضيها منذ عصور متقدمة، ولعلي أتكلم عن «زرود» بشكل مطول في الكتاب الذي سأعده إن شاء الله عن هذه الرحلة الشيقة.
عندما كان راكبو الابل يسيرون في «شامة زرود» نفجت أمامهم أرنب فطاردها «السلوقي» المصاحب لهم مطاردة مثيرة حتى اصطادها بعد لأي. اجتهد منظم هذه الرحلة على أن تكون مطابقة إلى حد ما لما سار عليه الآباء والأجداد في أسفارهم؛ لذا كان مع هذا الركب السائر بالإضافة إلى السلوقي ثلاثة صقور. وفي شامة زرود حامت فوقهم «حبارى» وهذا الطائر تُشد الرحال لصيده في وقتنا الحاضر، وعندما تنادى القوم بمحاولة اصطيادها وهَدِّ الطير عليها تبين لأمير الركب أن هذه الحبارى أثيرت ابتداءً من قبل بعض القناصة، فأمر بالتوقف عن ملاحقتها وذلك تلبية للاعراف المرعية في مجال الصيد.
لقد اُختير مراح ليلة الاربعاء 3/11/1425ه في نقرة بين طعوس تبعد جنوباً عن بلدة «تربة» ثلاثة عشر كيلاً، وقد وصل راكبو الابل إلى هذا المكان الساعة الخامسة مساءً، وفي ما كان راكبو الابل يتهيئون في الساعة الثامنة والنصف للمراح صباحاً وصل إلى المكان الشيخ «إبراهيم العلي الجديعي» ومعه مرافق له ولا أدري كيف اهتدى إلى هذا المنزل في هذا الصباح الباكر المشبع بالصقيع، وقد جاء مودعاً وليطمئن على سير الرحلة، وقد سرنا باتجاه بلدة تربة حيث كان الركب على موعد مع رئيس مركز تربة الأستاذ «النشمي بن محمد الشمري» لتناول القهوة بجوار البلدة والاجتماع بأهل تربة، ففي تمام الساعة العاشرة والنصف وصل الركب إلى مكان الاستقبال وكان استقبالاً رائعاً.
وتربة حباها الله بحسن الموقع فهي واقعة في مكان تحفه الرمال الذهبية ولم يبخل عليها أهلها الطيبون فقد زادوا حسن الموقع بما أضفوه على مدخلها من حدائق منسقة تنسيقاً جميلاً، لقد كنت في العام الماضي في رحلة ميدانية وكان بصحبتي أحد الاخوان، ونظراً للتعب الذي نالنا أمرحنا غرباً من البلدة، وفي الصباح واصلنا السير باتجاه «تربة» وعلى الطريق المزفت توقفنا بجوار احدى الحدائق، وقد تناولنا قهوة الصباح داخل الحديقة، وذهلنا من تلك المسطحات الخضراء وأحواض الزهور المنسقة تنسيقاً جميلاً ولقد أنستنا هذه المناظر الجميلة ما عانيناه من تعب طوال الأمس، وبحق أسميها «عروس النفود».
تحركنا من مكان الاستقبال وفي الساعة الحادية عشرة كانت الابل تشرب من أحد أمدية الماء المترعة الواقعة شمال البلدة في براح من الأرض بين تلك الرمال المتلألئة.
وقد اُختير المراح في قصائم نباتها الأرطى والعاذر جنوب قرية «جبلة» على بعد 15 كم وفي هذه الليلة تجمد الماء من شدة البرد.
في صبيحة يوم الخميس 4/11 سار راكبو الابل باتجاه «جبلة» و«الحيانية» وذكر لي أمير الركب انهم تناولوا القهوة عند أحد مضارب البادية قرب «جبلة» وفي الطريق قابلهم الدكتور «بدر بن عردان الشمري» ومن معه للترحيب بالركب القادم ودعوتهم لتناول طعام العشاء في النفود قرب الحيانية، وقبل غروب الشمس وصل الركب إلى مكان الاستقبال حيث وجدنا الدكتور بدر وكذا رئيس مركز تربة النشمي وجمع غفير من سكان تلك الناحية في الاستقبال. كان اجتماع هذه الليلة كناد أدبي القيت فيه العديد من القصائد والقصص والروايات مع شواهدها الشعرية، وقد تجلى في هذا الاجتماع الشاعر والراوية «رضا بن طارف الشمري» الذي انضم إلى ركبنا من بلدة «تربة» فالقى عدداً من القصائد والروايات والقصص مع شواهدها الشعرية، الشاعر والراوية رضا معروف لدى الجميع بصوته المتميز، فمن لم يقابله من قبل يعرفه عندما يتكلم كنت أركب في سيارة يقودها سمو الأمير مشعل بن فهد وعندما انضم رضا إلى الركب ركب معنا فأمتعنا طيلة الطريق. سمو الأمير مشعل موكل له قيادة راكبي السيارات واختيار الأماكن التي ننزل فيها في المضحى أو المراح، وهو ناجح في قيادته، ويتمتع بالأناة وقوة الاحتمال، رغم مواصلة السير وشدة البرد.
بعد العشاء كان هناك عرضة اشترك فيها الجميع، وتخلل البرنامج مسابقة بين فريقين من الشباب في عملية اصلاح «قرص الجمر» وهم يسمونه «جمرية» كان حفلاً بهيجاً ومنظماً.
بعد ذلك سار الركب بضعة كيلو مترات عن مكان الاستقبال، واختير مكان المراح في موقع يبعد عن «الحيانية» ثمانية أكيال وفي هذه الليلة كانت الريح شرقية باردة جداً.
في صباح الجمعة سار الركب قاصداً «الحيانية» وكان الأخ «راضي بن عيادة الشمري» في الانتظار حيث تناول الجميع عنده القهوة، وبعد ذلك ورد راكبو الابل حوض الماء ثم استداروا على قصر الحيانية القديم المقام بجوار البئر القديمة كمركز حراسة في أزمنة مضت. ثم واصل الركب سيره مع جادة الطريق المرسومة سلفاً.
عندما وصلنا إلى «خب المندس» شاهدنا خمس ركائب فوقها ركابها، وكأني بركبنا ذكّر قاطني النفود بشيء كانوا قد تركوه وهو ركوب الابل.
والواقع انه في وقتنا الحاضر لا تكاد ترى إنساناً راكباً ذلوله ماعدا راعي الابل عندما يركب فوق رُكْبيِّه خلف ابله وهي ترعى أو تسير إلى مرعاها، وفي نقرة في «سادة خب المندس» أختير مكان المراح ليلة السبت.
كان البرد قارساً في هذه الليلة فأمر بنصب الخيمة الكبيرة وقد حضر عدد من الزوار من بينهم الأخ «بشير بن فايز الشمري» من سكان «أشيقر» الذي يبعد عن مكان المراح ثمانية عشر كيلاً حيث تركناه ذات اليسار، وأثناء السَّمر سألت الأخ بشير عما إذا كان رأى في الجوار رجوماً أو دوائر حجرية قديمة فذكر لي أكثر من موقع، من هذه المواقع جبل منظور، ورجم الثريا، ورجم الفرس، وغيرها.
في هذه الليلة وصلت درجة الحرارة إلى خمس تحت الصفر، وقد تجمد الماء وغطى الصقيع رمال النفود، وعند أذان الفجر كان الاخ «عيسى بن بخيت الحربي» يوقد النار استعداداً للصلاة واصلاح القهوة، وهو امام الركب في الصلاة، عند موقد النار تحسست الفناجيل في انائها فاذا هي في قالب من ثلج.
وقد رأى أمير الركب أن يكون هذا اليوم اقامة في المكان نفسه، كان من بين من حضر سَمَر البارحة أحد القاطنين بالجوار واسمه «صايل بن سعدي الشمري» وقد استضافنا على الغداء يوم السبت فوافق له أمير الركب.
لفتة أشكرها لأمير الركب فبعد الإفطار قال لي نحن اليوم مقيمون فأرى أن تذهب مع الأخ بشير بن فايز لتتطلع على الآثار التي ذكرها، فذهبنا إلى جبل منظور ورجم الثريا، ورجم الفرس، وبعد مشاهدة تلك الدوائر والمذيلات والركامات الحجرية عرفت أن قافلتنا تسير مع طريق مسلوك منذ عصور متقدمة، وليس هذا موضع الاسهاب في وصف هذه المشاعر الأثرية، وسأتطرق إلى ذكرها ومواقعها وصورها في الكتاب الذي سأعده عن هذه الرحلة إن شاء الله.
ومن هذه الجولة الأثرية توجهنا إلى مضارب الأخ صايل حيث تزودنا في هذه المضارب بغذاء الروح والبدن، في صبيحة يوم الاحد عندما اشرقت الشمس كنت أرى أشجار الأرطى الكبيرة مغطاة بالفرش واللحف التي بللها الطل والصقيع ليلاً، إن من عادة أفراد هذا الركب النوم بدون خيام فعندما يحين موعد نومهم تجد أحدهم يبحث عن شجرة أرطى كبيرة تحميه من ريح الشمال الباردة.
تحرك راكبو الابل من هذه النقرة في الساعة الثامنة والنصف، وفي هذه المرحلة كنت مع الأخ بشير بن فايز نتصيد الدوائر والرجوم الحجرية الواقعة في الطريق، وبينما كنا نتفحص احدى الدوائر المحكمة البنيان صادف مرور راكبي الابل فمروا من وسط هذه الدائرة.
كان سيرنا الآن مع لبة النفود، وكنا نسير هذا اليوم مع مسار أحد الطرق التجارية الموغلة في القدم. وبينما كنا على مرتفع حجري غرب الثريا أقبل راكبو الابل واختاروا منخفضاً رملياً أناخوا فيه ركائبهم وكنت أراهم يجمعون حطباً لاشعال النار وأصلحوا قهوة المضحى وركائبهم تجتر من حولهم. كنا نتحاشى الاختلاط بهم فلهم جوهم الخاص ولنا جونا الحجري من دوائر ومذيلات ورجوم؛ إلا أن أمير الركب بعث لنا من يدعونا لمشاركتهم تناول القهوة.
وباتجاه «عذفاء» واصلنا المسير وقد اختير مكان المراح ليلة الاثنين في «جال غراء» الذي يبعد عن عذفاء 44كم، وكانت درجة الحرارة هذه الليلة اثنتين تحت الصفر. ومما خفف من برودة الطقس حرارة الاتصالات الهاتفية عن طريق الاقمار الاصطناعية من داخل المملكة وخارجها للاطمئنان على سير الرحلة ونحن حول النار. وأذكر من بين المتصلين صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم وأصحاب السمو الأمراء:
1 - تركي بن طلال بن عبدالعزيز.
2 - عبدالله بن فهد الفيصل.
3 - الفريق محمد بن فهد الفيصل.
4 - ناصر بن فهد الفيصل.
5 - خالد بن فهد الفيصل.
6 - عبدالعزيز بن فهد الفيصل.
7 - الفريق طيار عبدالرحمن بن فهد الفيصل.. وغيرهم كثير.
وجميعهم يتصلون ويتابعون تحرك هذه القافلة المتجهة إلى الجوف فلهم من جميع أعضاء الرحلة الشكر الجزيل.
تحرك الركب من المراح في جال غراء الساعة الثامنة والنصف من صباح الاثنين باتجاه «عذفاء» وقبل وصول مركز عذفاء بقرابة سبعة أكيال اُختير مكان المراح غير بعيد من الغضا حيث كان وقودنا هذه الليلة من حطب هذا الشجر الموصوف بحرارة جمره، وقد زاد من هذه الحرارة استقبال أهل عذفاء لهذا الركب المقبل عليهم من منطقة القصيم على ظهور الابل احياءً لعادات الأسلاف في أسفارهم، وكان في مقدمتهم رئيس المركز ناصر بن سحيم السهلي، وبعد المغرب شربنا القهوة عنده في المركز وحضر هذا المجلس رئيس مركز «خوعا» الأستاذ «عبدالله بن محمد السديري» حيث وجه الدعوة لتناول طعام الغداء عنده في اليوم الذي يصل فيه الركب إلى خوعا.
بعد ذلك انتقل الجميع إلى مكان الاستقبال المعد قرب خوعا بدعوة من أحد منظمي سباقات الهجن «عبيد بن سالم الشمري» وكان استقبالا رائعاً يعبق بطيب أهل عذفاء وكرمهم، وقد ألقيت قصائد وحكايات وروايات، وبعد السَّمر وتناول طعام العشاء عاد الركب إلى مكان المراح. وفي صبيحة يوم الثلاثاء 9/11/1425ه كان الصقيع يغطي الأرض والضباب كثيف حيث بلغت درجة الحرارة في الليل 3 تحت الصفر، وفي تمام الساعة الثامنة والنصف غادر راكبو الابل مكان المراح متجهين إلى خوعا، وأمرحنا في مكان يبعد عن عذفاء53 كم وعن مراح الليلة السابقة 60كم، وهذا يعني أن الابل إذ جد بها السير تقطع في اليوم ستين كيلا أو تزيد بقليل مع الاستراحة في المضحى.
في صباح يوم الاربعاء غادرنا المراح الساعة الثامنة والنصف، وعندما بقي على خوعا 21 كم استقبل راكبو الابل زوارهم رئيس مركز «الثنية» واثنين من أبنائه. وعندما بقي على خوعا أحد عشر كيلاً اُختير مكان المراح.
نهاية الرحلة
في ضحى يوم الخميس 11/11/1425ه كانت المطايا تبرك براكبيها قرب «خوعا» وكان رئيس مركز خوعا في استقبال الركب، وقد اجرى تلفزيون الجوف مقابلة مع أمير الركب وأخذ صوراً للركب القادم.
كان موقفاً مؤثراً عند انزال الأشدة عن ظهور الابل حيث أن الجميع بدأوا بتهنئة بعضهم بسلامة الوصول ونجاح الرحلة، وكأني بالركائب قد أحست بالفراق فأصبحت تحن حنيناً متواصلاً لافتا للنظر، وعندما كنت واقفاً امام رأس ذلول منها ترفع صوتها بالحنين خُيِّل لي أن الدموع تنهمر من عينيها وكنت لا أشعر بمن حولي، ولم أنتبه إلاَّ بقرقعة خرزات سبحة وضعت في يدي، وكأني بسمو الأمير متعب بن فهد - منظم هذه الرحلة - شعر بما كنت أشعر به فنبهني بوضع السبحة في يدي، وعندما أعدتها اليه قال: احتفظ بها فمعي أخرى، وسأحتفظ بهذه السبحة كذكرى لهذه الرحلة الشيقة، وبعد توديعنا لركائبنا وصاحبها المعتني بها يوسف الاردح اتجهنا إلى مقر مركز خوعا حيث الاستقبال الرائع الذي هو عبارة عن حفل أدبي ألقيت فيه قصائد شعرية، وقد أبدع في هذا الاجتماع الشاعر والراوية «رضا بن طارف الشمري» وبعد تناول طعام الغداء ودعنا مضيفنا وأهل «خوعا» شاكرين للجميع حسن الاستقبال.
وبهذا انتهى هذا السرد الموجز لوقائع هذه الرحلة النادرة، وأعد القراء الكرام بأني سأضع إن شاء الله كتاباً يحتوي على تفاصيل أكثر عن مسار هذه الرحلة مدعماً باحداثيات الأماكن وخرائط توضح مسار هذا الطريق، أسأل الله العون على انجازه. وبالله التوفيق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.