يبرز لهذا العام اسم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس أناريتو، كمخرج لفيلم "بيردمان" "Birdman"، أحد أهم أفلام هذا العام ومن أعلاها ترشيحاً في موسم الجوائز (9 ترشيحات أوسكار)؛ وإن لم يكن من الضروري أن يعكس هذا الرقم الجوائز التي سيحصل عليها، خاصة مع منافسة فيلم ابتكر شكلاً جديداً لمفهوم الواقعية، ألا وهو فيلم "الصبا" "Boyhood". كما أن هناك منافسة قوية نوعاً ما من فيلم ويس أندرسون "The Grand Budapest Hotel"، والذي اختطف جائزة أفضل فيلم كوميدي بدلاً من "بيردمان" في جوائز الغولدن غلوب، كما أنه ينافس "بيردمان" أيضاً في عدد ترشيحات الأوسكار. ولكن الاحتمال يظل قائماً بفوز أناريتو بجائزة أفضل مخرج وفوز "بيردمان" بجائزة أفضل فيلم. وإن نال أناريتو أوسكار أفضل مخرج، فلن يكون المكسيكي الأول في الحصول على الجائزة، فقد اختطفها العام الماضي، المكسيكي ألفونسو كوران. ولكن أناريتو كان أول مكسيكي يحصل على الترشح لجائزة أوسكار، وكان هذا عن فيلمه الأول "Amores Perros"، وهو أول أفلام ثلاثية الموت التي أخرجها أناريتو، وكتبها له الروائي غيليرمو أرياغا أما الفيلم الثاني من الثلاثية فهو "21 Grams" والثالث هو "بابل-Babel". تتشارك الأفلام الثلاثة في وجود حدث رئيسي تتقاطع فيه شخصيات تعيش قصصاً مختلفة، ولكن أقدارهم تتداخل بشكل أو بآخر. وهي كلها مكتوبة بشكل يناقض الحبكة الرئيسية المعتادة في الأفلام ويفتتها إلى حبكات صغيرة متشابكة. وإذا كان الفيلم الأول يدور في مدينة مكسيكو سيتي، فالثاني في أمريكا، أما الثالث فأحداث قصصه تعبر أربعة دول هي المغرب والولايات المتحدةالأمريكية والمكسيك واليابان. أليخاندرو غونزاليس أناريتو وقد عرّفت الثلاثية بأناريتو بشكل كبير، فبعد أن حاز الأول منها على جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان عام 2000 وترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، نال شون بين بطل الفيلم الثاني على جائزة أفضل ممثل من مهرجان فينيسيا عام 2004، وتم ترشيح نعومي واتس وديل تورو للأوسكار عن نفس الفيلم. أما الفيلم الثالث والأخير من الثلاثية، فقد حاز عنه أناريتو على جائزة أفضل مخرج من مهرجان كان عام 2006، وترشح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم وأفضل مخرج، كما فاز بجائزة الغولدن غلوب كأفضل فيلم. ولا شك أن الأفلام الثلاثة تميزت بإتقان في الصناعة، لكن "بابل" نقل أناريتو إلى الأضواء بشكل أكبر، خاصة مع ثيمة الفيلم المؤثرة في حسها الإنساني عن تداخل أقدار الشعوب وتشابه آلامهم. بعدها افترق الثنائي أناريتو والروائي أرياغا ليكمل الأول مشواره بالعودة إلى الأفلام ذات القصة الواحدة والتي منحته مجالاً أوسع في التعبير عن رؤيته وإظهار تمكنه من أدواته الإخراجية، وأهمها بكل تأكيد هو إدارة ممثليه. فكان الفيلم الرابع هو "Biutiful" والذي أعطى فيه أناريتو مساحة لممثل من طراز خاص، قادر على الأداء بشكل ساحر ومؤثر، وهو الممثل الأسباني خافيير بارديم. وقد أكد الفيلم أن لأناريتو أسلوباً خاصاً يمزج بين الواقعية والجماليات البسيطة التي لا تسرق الضوء إلى نفسها ولكنها تخلق أجواء خاصة بالفيلم وشخصياته، والتي كانت في ذلك الفيلم تحديداً أجواء مرض وموت. وقد نال بارديم العديد من الجوائز، عن دوره في هذا الفيلم، كشخص مصاب بالسرطان يعيش مع طفليه بعد انفصاله عن زوجته التي تعاني من مرض ثنائي القطبية ومدمنة، أما هو فيعتاش على إيجاد عمل للمهاجرين غير القانونيين. لا يقدم بارديم في الفيلم أي فعل بطولي، وتعامله مع المهاجرين لا يبدو إنسانياً تماماً، بل هناك منطقة رمادية كبيرة فيما يقوم به، ولكنه كان قادراً على استدرار عطف المشاهد بشكل كامل. وهو بهذا يؤكد نوعية شخصيات أناريتو التي نشعر دائماً بتعاطف معها في سياق حياتها الخاص، ولا نملك أن نكرهها رغم عدم مثاليتها، فليس في قصص أفلامه سقوط أو بطولة وإنما تأكيد على الجانب الإنساني في أوضاع اجتماعية مختلفة. أما فيلم أناريتو الأخير"Birdman" فيكشف الكواليس الداخلية لشخصية خيالية لممثل يدعى ريجان تومسون، كان قد اشتهر بأداء دور بطل خارق في سلسلة من أفلام بيردمان، منذ عدة عقود، وهو ينوي أن يستعيد مجده، من خلال كتابة وإخراج مسرحية، في إحدى مسارح برودواي الشهيرة في نيويورك، مقتبسة عن قصة قصيرة للكاتب والشاعر الأمريكي الشهير ريموند كارفر بعنوان "عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الحب". يقوم تومسون بدور في المسرحية إلى جانب صديقته وممثلة تمثل في البرودواي للمرة الأولى وممثل شهير يحاول أن يسرق منه الأضواء، كما تساعده في الجوانب الإدارية ابنته التي تعافت حديثاً من الإدمان. يتعرض تومسون لكل أنواع الضغوط والهزائم الداخلية والمواجهات الصعبة، وقد بدا في الفيلم كشخصية دون كيخوتيه مفصولة عن الواقع، تحارب طواحين الهواء. يتداخل المسرح بكواليسه مع الممثل الذي يبدو لامعاً من الخارج مع كل الشكوك الداخلية في نفسه، ويبرز صوت "الإيغو" الداخلي في صورة "بيردمان" التي مثلها سابقاً، كجزء من ماض يطارده ولا يكف عن انتقاد حاضره. ولإعطاء هذا المزج بين تداخل الخارج بالداخل، قام المخرج بسرد بصري يحمل رؤية واعية وناضحة، متعاوناً في صنعها مع المصور السينمائي المكسيكي الفذ إيمانويل لوبيزكي (الحاصل على أوسكار أفضل تصوير سينمائي عن فيلم "جاذبية"). وقد ظهر الفيلم متدفقاً في سرده البصري بما يبدو وكأنه مصور كلقطة واحدة بدون قطع، كما في فيلم هيتشكوك "Rope"، وذلك بتحريك الكاميرا بطريقة خاصة ومن زوايا معينة تتداخل فيها أحداث المشاهد، وهذا يتطلب جهداً كبيراً في توحيد الإضاءة وحركة الممثلين وتحريك الكاميرا التي كانت تتنقل داخل المسرح بسلاسة شديدة جداً، وهو أيضاً يتطلب جهداً مضاعفاً في المونتاج لإخراجه بالشكل الذي ظهر عليه الفيلم، فمن يشاهده لا يتخيل أنه قد تم تصويره كلقطات متقطعة وإنما كوحدة واحدة في لقطة طويلة جداً هي مدة الفيلم. من الصعب أن يخرج هذا الفيلم خالي الوفاض في موسم الجوائز، وخاصة في مجال التمثيل والسيناريو والتصوير، ولكن السؤال الأهم هو: هل يمكن أن يكون "بيردمان" أفضل أفلام العام؟. وهل يمكن أن يحصل أناريتو أخيراً على جائزة أفضل مخرج بدلاً من لينكلاتر مخرج فيلم "الصبا"؟. غونزاليس لفت الأنظار بفيلمه الطويل الأول