بما أننا في عصر المبادرات، فلماذا تفاجئنا مبادرة بريئة من شابات لديهن رغبة في الانعتاق من قيد انعتقت منه كل نساء الكرة الأرضية، بينما يشدد قبضته على رسغ الحياة اليومية للنساء السعوديات اللاتي لم يعد مكانهن البيت، بل يذهبن إلى مدارسهن وجامعاتهن وأعمالهن وقضاء حاجات ضرورية وأخرى عاجلة تستدعي التعامل معها بسرعة وكياسة وفطنة! السائق أيا ما كانت منزلته قربا او بعدا يظل قيدا لا يشعر بقسوة اشتداد قبضته على رسغ الحياة اليومية إلا المرأة حتى من تعارض الفكرة لا بد أنها بينها وبين نفسها - في سرها - تتمنى لو أنها تمكنت يوما من التخلص من هذا القيد الثقيل المؤلم، فقصص النساء أو مآسيهن نتيجة هذا القيد لم تحك بعد! المعارضون لفك هذا القيد، رغم المآسي التي لم تحكَ بعد، يتوهمون أنه قيد ذهبي يصون المرأة ويحمى المجتمع وهو في الحقيقة قيد اشتد ثقله على عنق المرأة والحياة تتعقد من حولها والمسافات تمتد وتتمدد والحركة داخل المدن أصبحت جحيما، ولا شئ يصون المرأة غير دينها وخلقها وعلمها والثقة المطلقة فيها وتيسير الحياة لها كي تقوم بما هو مطلوب منها داخل الأسرة وخارجها. ربما لذلك تحولت ممارسة شجاعة إلى دهشة ممزوجة بالفرح وترددت أصداؤها في العالمين امرأة تقود سيارتها في شوارع جدة هي هذه القضية الطافية على كل القضايا، مع أن الفعل بحد ذاته ( قيادة المرأة للسيارة ) ليست قضية، بل ممارسة عادية، تمارسها المرأة السعودية بمجرد أن تجتاز جسر البحرين، أو تحط في أرض الكنانة، أو بمجرد خروجها من مطار بيروت، وفي أوربا، وأمريكا. ابنتي كانت تقود سيارتها في القاهرة طيلة فترة دراستها، كنت مطمئنة عليها لأنها هي المتحكمة في قياد سيارتها، لم تكن مضطرة للاستعانة بسائق يمكن أن يكون متهورا أو لا يجيد القيادة بشكل جيد، أو يكون سيئ الخلق، كل هذه ليست احتمالات نادرة الحدوث بل نحن النساء من يعاني منها بتعاملنا المتواصل مع السائقين من مختلف الجنسيات والثقافات ولا أبالغ إذا قلت أني عانيت الأمرين في التعامل مع السائقين في القاهرة بعد أن أنجزت ابنتي دراستها وعادت إلى جدة. لأنى آثرت عدم القيادة، فنالني مانالني من صنوف المعاناة، لكن المعاناة في القاهرة لا تشبه معاناة النساء هنا. هناك تستطيع المرأة أن تمشي في الشارع، فالشارع ليس ملكا للرجل، ومحرما على المرأة، بل تسير المرأة فيه كالرجل، كذلك يمكنها طلب سيارة أجرة مكيفة ونظيفة وتصل على الموعد، أو ركوب أي وسيلة مواصلات دون خوف او حرج. عندما كنت في أمريكا قبل شهر من الآن رأيت كيف تكتفي الأسرة بسيارة واحدة دون تكاليف إضافية للسائق ولسكن السائق ولمشاكل السائق سواء كانت مخالفات أو حوادث تصادم أو هروبا أو سرقة وهي معاناة دائمة لكن مجبر أخاك لا بطل وعلى رأي المثل: ( مين اللي صبرك على المر قال اللي أمر منه) هو هذا الاحتياج ، أو افتقاد حرية الأختيار، بين أن أقود سيارتي، أو أستعين بسائق، أو أختار وسيلة مواصلات آمنة هو الذي حرض هذه الفتاة ومن معها على تبني الدعوة لممارسة القيادة، لا ثورة، ولا خروجا على قانون أو تمردا على سياسة الدولة، فقط رغبة دعمتها وسائل التواصل، والحراك الاجتماعي والمبادرات المختلفة التي تبناها كثيرون وكثيرات والنجاح يغري بالتقليد! لا يوجد قانون يمنع المرأة من قيادة السيارة في مدن وقرى المملكة، بدليل قيادة النساء في البادية وأطراف المدن. تحولت قصة الأم التي قادت السيارة في جدة إلى دهشة ممزوجة بالفرح على وجوه النساء وهن يحكينها، رغم أنها كانت قيادة إضطرارية انقاذا لموقف مرت به آلاف النساء ولكل منهن حكاية ( تقطع القلب) للموقف المحبط والمهين أو المأساوي الذي وجدن فيه انفسهن في أوقات ومناسبات كثيرة ولم تكن لديهن الجرأة او الامكانية لقيادة السيارة والتجول بها في مدينة مزدحمة ومكتظة كجدة. هناك قصص أخرى كثيرة لم تحكَ بعد لنساء قدن السيارة إنقاذا لموقف، أو للتجربة أو مجرد تمرين على الممارسة. حكت لي صديقة منذ أكثر من عشر سنوات تقريبا، أنها أضطرت لقيادة سيارة ابن أختها الذي أصيب في قدمه وهو يلعب الكرة وكانوا في زيارة أخيها ولم يكن باستطاعته قيادة السيارة فقادتها من رابغ إلى جدة وهي مرتدية عباءتها وهو بجوارها ومر الأمر بسلام. ليست هذه القصة الوحيدة التي أعرفها لكن ليس هذا مجال سردها بل هي للتدليل على أهمية أن تمنح المرأة الحق في قيادة المرأة للسيارة كما أعطيت الحق في التعليم والعمل والمساهمة في خطط التنمية والعمل الاجتماعي! مبادرة (أقود سيارتي بنفسي) ليست ثورة على أنظمة المرور وقوانين الدولة بل هي رغبة مكتنزة في صدور النساء، استطاعت منال أن تخرجها بطريقة مهذبة. من اطلع على رسالتها على اليوتيوب يكتشف بسهولة أنها لا تريد أكثر من ممارسة حق لا يوجد قانون يمنعه أو دين يحرمه، مجرد رغبة في ممارسة حق إنساني حرمت من ممارسته النساء بينما يمارسه الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة بكل سهولة! [email protected]