تعقيبًا على العلامة عبدالله بن بيه..2-3 “توقفنا في الحلقة السابقة عند تصنيف موقف العلماء من التجديد في علم أصول الفقه وذكرنا أن موقف العلماء من ذلك ينقسم إلى مدارس ناقشنا منها مدرستين ونواصل في هذه الحلقة ما انقطع من حديث”. أما المدرسة الثالثة فهي تهتم بتجديد الشكل والمضمون دون المساس بالقطعيات: وأصحاب هذا الرأي وقفوا موقف الوسط والاعتدال؛ حيث إنهم أثبتوا التجديد في المجالات التي تحتمله، وذلك بضوابط تبعده عن التسيب والانفلات. حيث قال أصحاب هذا الاتجاه: إن علم أصول الفقه اكتنفه إشكالان: * غموض بعض المفردات. * التنظير المجرد البعيد عن الأثر الفقهي في بعض مسائل هذا العلم. والحق أن مسألة التجديد ترجع إلى مسألة ثار فيها خلاف طويل وهي: هل أصول الفقه قطعية أم لا؟ وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: الأول: قواعد أصول الفقه قطعية كلها، وهذا الرأي نصره الشاطبي في مقدمات موافقاته. القول الثاني: قواعد أصول الفقه منها ما هو قطعي ومنها ما هو ظني، وهذا الرأي للقاضي أبي بكر الباقلاني ومن وافقه، حيث يقول: “على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني”. الترجيح: والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي الباقلاني ومن وافقه هو الراجح، وذلك لما يرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول، والخلاف ينفي القطعية، ذلك أن أمارة القطعي عدم طروء الاختلاف فيه، واتفاق الناس عليه. وعلى ذلك فالاجتهاد في أصول الفقه مجال رحب، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة، فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه اللّه المؤهلات لِوُلُوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل. مبررات القول بالتجديد: لا ينكر هذا الاتجاه أن هناك دواعي دعت إلى المناداة بالتجديد، ومن تلك المبررات: 1- غياب الأدلة في كتب الأصول: يث غلب عليها المسائل المجردة، والتعليلات العقلية، والافتراضات الذهنية، والأصول الكلامية، وتحكيم مثال: أمر السيد لعبده، مع نتف من الأدلة الشرعية. وكتب الأصول المتأخرة في الجملة على قسمين: الأول: متون صناعية معقّدة. القسم الثاني: شروح وحواش. وهي إما شروح تهتم بفك العبارات لا غير، أو شروح تحولت إلى معارك خلافية بين أئمة المذاهب، كل ذلك أدى إلى عدم الاهتمام بذكر الأدلة الشرعية على القواعد الأصولية، كما أدى إلى آثار أخرى سلبية في بناء القواعد على غير أصولها، كمن يذكر القاعدة بناء على أصل كلامي، أو بناء على قول السيد لعبده. ولتوضيح ذلك تدبّر التقرير الآتي: قال الخطابي: “مسألة: إذا توجه الأمر إلى واحد لم يدخل غيره فيه بإطلاقه. قال المصنف: وجه قولنا: إنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الإنسان إذا قال لعبده: افعل كذا وكذا لم يدخل بقية عبيده في ذلك، فكذلك إذا أمر الله تعالى نبيه لم تدخل فيه الأمة”. فهل هذا التقرير صحيح؟ ألم يكن ثمة فرق بين خطاب الله تبارك وتعالى، وخطاب السيد لعبده أو أمته؟ أليس الأصل في خطاب الله العموم؟ فأين ذلك في خطاب السيد لعبده؟ يتحصّل مما سبق أن كتب الأصول قد اشتملت على أمور توجب التجديد منها: * دخول المادة الفلسفية في علم الأصول. وغياب الأدلة عن القواعد الأصولية. ودخول ما لا ثمرة فيه في علم الأصول. وشيوع التقليد المذموم. ووجود الدخيل في أصول الفقه: كثرة المسائل الدخيلة في أصول الفقه تطبيقيًّا أمر أوضح من أن يستدل له، وقد نص على ذلك كثير من الأصوليين، بل كتب بعض المتقدمين والمعاصرين رسائل مستقلة في ذلك، كالمباحث اللغوية، والمسائل الكلامية، ولم يكن إدخال تلك المباحث والمسائل في أصول الفقه بحسب الحاجة بل حصل الإسراف فيها إلى حد الفضول، مما لا يحتاج إليه مستنبط الأحكام، ومقرر المسائل، حتى غدا الاستطراد فيها سيد الموقف، ولعل ذلك راجع إلى تمكنهم في تلك العلوم، مما يجعلهم يطيلون النَّفَسَ فيها غير منتبهين إلى أنهم يتحدثون في علم آخر، لا ينبغي لهم أن يذكروا فيه إلا ما يتعلق به؛ تمييزًا له عن غيره. وقد جرى على ما قرره السابق، دون إضافة أو تحرير إلا ما قلَّ أو ندر، من هنا تبرز حاجة هذا العلم إلى التجديد والمراجعة في كثير من مواده، ولا سيما التي تضمنها هذا المعنى، ويتمثل ذلك التجديد فيما يلي: 1- إبراز القواعد الأصولية للمستفيد، وتأصيلها بالأدلة الشرعية، وتصفيتها من كلّ ما علق بها مما ليس منها، وكل ما اتصل بها ولم يثمر فرعًا. 2- ضرورة الاجتهاد في عصرنا لمواجهة المستجدات. 3- تفصيل المباحث التي لم تفصلها المؤلفات القديمة، كالمقاصد، والاجتهاد الجماعي والتطبيقي، ودلالة السياق. 4- اختصار المباحث التي أطال فيها المتقدمون، فأدت إلى توهان المستفيد، ومن ذلك ما دار حول شروط: خبر الآحاد، والإجماع وغيرهما. مجالات التجديد: للتجديد مجالات عدة، منها: أولًا: الرجوع التام إلى الأصول والمصادر التي تَكون منها هذا العلم، فتجديد علم الأصول لا يكون مثمرًا إلا برجوعه لمصادره الأصلية، وانعتاقه مما خالطه من العلوم الأجنبية عنه، ومصادر أصول الفقه اثنان: 1- الأدلة الشرعية بفهم السلف. 2- اللغة العربية. وما سوى ذلك من الفروع فهو مساعد لضبط الأصول لا ناتج لها. ثانيًا: تنقيح علم الأصول من فضول المسائل التي لا علاقة له بها وذلك يكون بطريقين: 1- بإفراد هذه المسائل عن العلم؛ مع ذكر السبب، وبيان أثرها على العلم. 2- بتصفية قواعد علم الأصول التي لها أثر ظاهر في الاستنباط مع أدلتها وأمثلتها. ثالثًا: تفعيل جانب التطبيق على جانب التنظير في الدراسات الأصولية، وهذا له عدة جوانب: 1- ربط القواعد الأصولية بالأدلة، وذلك في محافل التدريس، والرسائل الجامعية، لبيان أصلها ومصدرها. 2- الاهتمام بذكر الأمثلة الفقهية لكل قاعدة، لبيان ثمرتها وإنتاجها. 3- الاهتمام بتطبيق القواعد الأصولية على النوازل الفقهية المعاصرة، وبيان فاعليتها. رابعًا: التحديث والإضافة للتراث الأصولي، وذلك بأمور: 1- صياغة التراث الأصولي وتحديثه بأسلوب عصري مدعوم بالأمثلة والترجيح، وتحرير المصطلحات ما أمكن خاصة في المناهج الدراسية الأصولية. 2- إضافة ما لا بد منه كالمقاصد الشرعية، ولا سيما في المناهج. 3- تقليل الاعتماد على المتون الصناعية ما أمكن، خاصة المنظومات؛ لما فيها من التعقيد وقلة الفائدة. 4- الاهتمام بالموضوعات الأصولية التي كثر الكلام حولها، كالمصالح، والنسخ، وغيرها. خامسًا: التجديد من جهة الصياغة وطريقة التأليف، وهذا له طرق: 1- مؤلَف يهتم بإعادة الصياغة لبعض القواعد الأصولية. 2- مؤلَف يهتم بأخطاء الأصوليين في طريقة التأليف. ضوابط التجديد: 1- صياغة المباحث الأصولية بأسلوب سهل قريب 2- تصفية الأصول من الدخيل: صفيته من خلاف غير المسلمين. - تصفيته من خلاف المذاهب المنقرضة المخالفة. - تصفيته بحذف الأمثلة الفرضية. - تصفيته من الخلاف اللفظي. - تصفيته من الأقوال والمذاهب التي لا قائل لها. - حذف ما لا تأثير له في الفروع. 3- الربط بين الأصول والفروع لأن هذه هي غاية هذا العلم. 4- الاهتمام بدراسة مقاصد الشريعة. 5- المتابعة التاريخية الدقيقة لمسيرة هذا العلم. 6- إعادة هيكلة المادة الأصولية بما يتيح للباحث التوسع في الدراسة بما يواكب العصر. 7- تطوير بعض المفاهيم، كمسألة الشروط والضوابط الموضوعة للإجماع. 8- استخدام أدوات المنهج التجريبي في بعض المسائل، كالعرف، والعادة، والضرورة. شروط التجديد: 1- التحيز للإسلام: المقصود بالتحيز هنا: وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب معها التخلص منها. 2- الإيمان بفكرة التجديد: تكتسب الدعوة التجديدية مصداقيتها وفاعليتها من الإيمان بها على نحو يجعل من عملية التجديد ضرورة دينية وعلمية، ويكون ذلك بأن يستحضر حامل الدعوة التجديدية أن ما يقول به واجب شرعي يفرضه عليه التزامه بالمشروع الحضاري الإسلامي، الرامي إلى التمكين لدين الله في الأرض. 3- الأهلية العلمية، وتتمثل في شروط المجتهد المبسوطة في كتب الأصول. 4- الملكة الأصولية الناشئة عن مزاولة تلك القواعد، والتدرب عليها. تنبيهات: 1- تجديد أصول الفقه لا يعني هدم جهود السابقين وإنما هو محاولة تطوير تلك الجهود. 2- تجديد أصول الفقه لا يعني التنكر لفضل علماء الأصول، بل يعني احترام فضلهم، والاهتمام بعملهم. 3- القواعد والمسلمات العقلية أو اللغوية أو الشرعية قطعية لا مجال للتطوير فيها.