كما أن الشمس لا يُمكن إدراكها دون ضوء، واختفاؤه اختفاء لوجودها؛ فالعقل تماماً مثلها لا يُدرك دون حُرية، واختفاء «الحُرية» اختفاء للعقل، ولكن كما أن»الوعي»هو من مكّن علماء الفلك من إدراك حقيقة أن الضوء نتيجة كوكب»مُلتهب»كالجحيم تدور حوله الأرض في مدار ثابت وفق قوانين إلهية كونية دقيقة لو اهتزت واقتربت الأرض مسافة سنتيمتر واحد فقط من «الشمس» فهذا «الضوء» يتحول من مصدر للحياة إلى لهيب حارق لها ولكائناتها؛ فكذلك الحال مع»العقل»المنتج ل»الحُرية في ظلّ أنه «مُلتهب» بمؤثرات الوهم والمخاوف والوسوسة والشك والظنون والعواطف، لكن «الوعي» بقوانين المنطق والمسؤولية الإنسانية تجاه تعمير الأرض هي من تُنظم»عملية التفكير»وتجعل»الحُرية» مصدراً من مصادر الحياة، وأي اهتزاز في هذه القوانين يحولها إلى «عبث» و»هلاك» للحياة. قد يقول القائل الآن؛ وهل يستقيم»إعمال العقل» بقوانين تُقيده وتحده وتعيق»الحُرية» التي دونها لن يكون للعقل وجود!؟ سؤال منطقي؛ والإجابة أن هذه القوانين المقصودة هنا ليست قوانين «الوهم الجماعي» المقيدة ل»عملية التفكير» إنما القوانين المقصودة منطلقة من الذات «المفكرة» في تنظيم»عملية التفكير» كي تجعله منتجاً منظماً فعالاً، لا عبثياً فوضوياً! ف«العقل» لا يعمل دون «حُرية» ولكن بقوانين المسؤولية الأخلاقية والمنهجية المنطقية والمعايير العلمية لا عبثية غريزية وفوضوية كارثية قد تُنتج «وحشية فكرية» تكون ضد الذات أو الجماعة، وهي قطعاً مرفوضة لأنها لا تؤدي إلى بناء حضاري وتعمير للأرض الهدف الأسمى من «عملية التفكير». وتبقى شرارة «إعمال العقل» هي «التساؤل» بحُريّة الفرضية، وهذه مهمة «العقل المُفكر» وفق معايير وقوانين المسؤولية الأخلاقية والإنسانية المُنظمة منهجياً في التأمل والتدبر والقياس والاجتهاد وضرب الأمور بعضها ببعض مما يتوفر مع غزارة العلم والتجربة وصولاً إلى إنتاج «إجابة» موصلة للهدف المنشود من «الفرضية» أو تؤدي إلى ولادة سؤال آخر يبحث عن إجابة أخرى، وهكذا من سؤال لآخر حتى الإجابة المعالجة للفرضية، وهي مهمة «العقل الفيلسوف» الذي يتعمق أكثر في مهمته «التفكير في التفكير» وهي عملية معقدة جداً تحتاج حُرية عالية بحس أكثر عقلانية مسؤولة وبدقة يحكمها «ضمير يقظ» لا يحيد عن المبادئ والأخلاق تجاه الأرض والكون والإنسان؛ ولذلك يعتبر»العقل الفيلسوف» أكثر ندرة وأقل حظاً في المجتمعات البشرية خلال الأزمنة، على عكس «العقل المُفكر» الذي يتواجد ويُحتفى به وقد يتوازى مع الجماعة عاطفياً، وإن كان أقل وفرة من «العقل المثقف» الذي يكثر وجوده ويختلف باختلاف أطياف الجماعة؛ فليس كل «مُثقف» هو مُفكر، كما أنه ليس كل «مُفكر» هو فيلسوف، والفرق يكمن في التجلي بين «العقل الفيلسوف» المُشتغل في عملية «التفكير في التفكير» وبين «العقل المُفكر» الذي يشتغل في «عملية التفكير ذاتها» وبين «العقل المُثقف» الذي يعيد إنتاج ما أنتجه «المُفكر» وتسويق أفكار»الفيلسوف» عبر أطياف الإبداع والفنون. وكما أن في الفضاء الكوني كثيراً من أجرام وكواكب ملتهبة ومضيئة في حيزها وأخرى ميتة إلا أن الشمس من تضيء الأرض وفق قوانين كونية ومدار ثابت، فإن العقل «المُفكر» أيضاً يعيش وسط فضاء بشري مليء ب»العقول» مضيئة وملتهبة قابلة للانفجار وميتة؛ ولا تتأتى الحكمة إلا لمن طبق قوانين «التفكير» وأوتي فضلها، تصديقا لقوله تعالى :»يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ». أخيرا، أختم ببيت شعر لبشار بن برد: ومن كان ذا فهم بليد وعقله... به علة عاب الكلام المنقحا