تلك قصيدة ما أشبهها إلا بفتافيت مسك وعنبر,. كأنما روح عبدالله زهرة ياسمين عصرت عصرا ففاح شذاها زكيا، وفتن العاشقين, أو كأنما هي شجرة عود أحرقتها نار الهوى,, فزكم (1) القلوب عرف عودها. لعبدالله الرشيد قدرة طالما وقفت حيالها متأملا، أجيل فيها الفكر، وأمتع بها النفس, قدرة على نقل الجو النفسي الذي كان يعيشه إبان التجربة الشعرية، بحذافيره! كأنه يعيشه تواً, وليس هذا فحسب!. بل له قدرة، بله سلطة على قارىء شعره، فيأخذ بشغاف قلبه, وتلابيب عقله ليعيشه, في ذلك الجو الساحر. تأملوا معي رجلا مثل عبدالله، ظاهره القوة والتجلد والعقلانية، وباطنه/ أعماقه,, يخربها فراق عطرية الأشواق ! تأملوا: ودعت طرفي حينما ودعتني ووقفت في وجه الظلام حزينا أما الشطر الثاني فقد وقفت أنا في وجهه معجبا مشدوها، وتمنيت وما جدوى التمني؟ أن لو كان للشطر الأول قوته وسموه وتحليقه, هل كانت تلك الملهمة هي الشموع والسُرج والنجوم,, بل الشمس والقمر والأفلاك,, حتى ينطفىء الكون كله برحيلها؟,, أنظر كيف جعل الدنيا بأسرها مظلمة، وواقفة في وجهه! كأنما هما الظلام وعبدالله كتيبتان على وشك الالتحام! ومعروف سلفا من القلب الخاسر الكئيب!!. انظر إلى وضعه القوي! إلا مفارقة تستعصي على عالم الرشيد الشعري! فارجع البصر كرتين تر فعل الهوى في نفوس الرجال! ووقفت في وجه الظلام حزينا لم يقل كئيبا ولا باكيا ولا متضايقا ولا ضجرا ولا مالاً من الحياة ولا زاهدا فيها ,, قال فقط: حزينا!! وعلى العشاق إدراك التفاصيل,. استمعوا إليه وأرهفوا,, فقد جاء هذا الشاعر ليشرح لنا كيف يتيم الهوى قلوب الرجال. متلهب النبضات، يعصر مقلتي وهج الليالي الغابرات حنينا صدق والله! صدق من قال: إن الشعراء هم رسل العواطف بين المعاني والقلوب. ما متلهب النبضات ؟! هل عبدالله الرشيد مسؤول عن خفقاتنا, ونبضاتنا، ومكلف بالتعبير عنها لنا؟! كيف يتحصل هذا الوصف لمن لم يذق طعمه؟ سوى الرشيد لا يمكنه أن يقول هذا. نبضات متلهبة! ووهج يعصر المقل حنينا! وابداع يسحر الألباب! نبضات كهذه كيف تمد مخلوقا بالحياة؟ ايقتات عليها أم تقتات عليه؟ كيف لم تُقطع شرايينه ، وتمزق أوردته شر ممزق؟! قلب نبضاته متلهبة,, كيف يكون هو؟ بل ما تراه يكون؟ لهفي عليك! وكل مالك في يدي أضحى بقلبي نادراً وثمينا هل لأضحى هذه دلالة معينة في ذهن الشاعر؟ لا سيما وقد أشهد مقل الصباح على حبه في بيت لاحق؟ كل ما لها في يده ما الذي يحيله نادرا وثمينا؟ آلهوى يزيّن كل ما ينطوي تحت ردائه ولو كان شيئا تافها عاديا؟ أم هو الفراق الذي يشعرنا بندامة حرّى على ما مضى, ويزينه في قلوبنا وان لاقت منه فيما سبق عنتا وشدة؟ عطرية الأشواق أي خميلة فارقتها فاضت أسى وأنينا عطرية الأشواق الهوى خلخل حواس الشاعر، فتداخلت وتراسلت فيما بينها, فللأشواق رائحة عطرية! ليقف البلاغيون هاهنا طويلا! وليتأملوها فثمة معان عميقة لن يقتنصها إلا غواص ماهر,. أي خميلة فارقتها ,, أو كل مكان تحل فيه ملهمتك تحيله خميلة؟ هذا ما لاشك فيه!,, القضية عند عبدالله حينما تفارق ملهمته هذه الخميلة، فكيف سيحول حالها؟ طبعا المقصود حال الخميلة لا الملهمة؛ لأن هذه الأخيرة مستغنية بنفسها عمن سواها, خميلة كانت أو كونا بأكمله. لم تذبل أوراد الخميلة ولا زهورها! فما زالت بقايا عطرها تحيي فيها أنفسا وقلوبا,, ولكنها أي الخميلة فاضت روحها حزنا وأسى لفراقك: ملهمة الشعراء,, والزهور,, والخمائل! خلّفت إيقاع الدقائق فاترا بين الحروف ولم يلاق معينا ثمة في شعر الرشيد حروفا حادة الزوايا، تمس القلوب فتثير فيها معارك وحروبا، وتطحن في طريقها كل معنى كان يعتمل في النفس ولم يلاق مترجما حاذقا كعبدالله. ما هاته البساطة الآسرة؟ والمعاني التي كنا نظنها أبعد من درب التبانة ما له يلتقطها بكلتا يديه، ويتخير أطايبها وينشرها بين أيدينا بكل بساطة,, بكل وضوح,, بكل ثقة واقتدار؟! قلبك أنت يا شاعر حزين متعب! هل تخضع له السنن الكونية؛ لأنه قلب شاعر؟ ما شأن ايقاع الدقائق؟ إنه هو,, هو,, قبل أن تفارقك ملهمتك ومن بعد ما فارقت,, فما الذي تغير؟ كيف تمتلك قدرة هائلة تستطيع بها أن تخضع أحداث اليوم بكل ثقة وتمكن لحالتك النفسية؟ إيقاع الدقائق عاد فاترا! ما أطول ليلك أيها الشاعر! حتى هذا الايقاع الفاتر جاء يبحث عن معين ومنقذ ومنجد! لكنه لسوء حظ العشاق لم يلاق معينا! هلم يا شاعر! أبسط يمينك نبايعك أميرا على العشاق، فقد قلت ما لم يقله أباؤك العاشقون: متوجس اللحظات، يومض بشره حينا وتغشاه الجهامة حينا متوجس اللحظات كما قلت لكم,, كل شيء قابل لسيطرة عبدالله، وقدراته الشعرية!! دقائقه فاترة النبض، وأشواقه معطرة، ولحظاته متوجسة,, متوجسة مم؟ هذا ما أطلقه الشاعر، ولم يقيده؛ ثقة بأن مشاعره هذه لا تخفى على قلوب المتعبين. يومض بشره إيماضا واهنا، كسراج تضاءلت فتيلته لما لم تجد من الوقود معينا ولا مساندا, فقط,, ومضة تنبىء عن حياة القلب ولا تدل عن صحته! ومضة خفيفة سرعان ما يزول أثرها وكأن بشرا لم يكن! أما الجهامة رفيقة المعذبين فهي لا تومض مثل البشر حينا بل تتغشاه، وتحيط به من كل جانب، وتحكم قبضتها عليه إحكاما. وقد يعترض معترض بأن حينا ربما توحي بمساواة الحالتين! ولا يقول هذا مَن يقرأ في المقابل جهامة تغشاه اللتين رجحتا كفة الحالة الثانية، وأبطلتا بقوتهما وهيمنتهما مفعول كلمتين خفيفتين، واهنتين، مسالمتين كتومض وبشر . أنت الحياة نعيمها همست بها عيناي، لا ظنا ولا تخمينا أنتِ الحياة ليس عبدالله الرشيد شاعرا عاديا حتى يقف عند هذه النقطة!,, بل هو من يكمل ويقول:أنتِ الحياة نعيمها ,, فمالكة الوجدان يكرمها عن أن تكون الحياة بشقيها النعيم والبؤس بل هي نعيم الحياة فقط! وأما البؤس والثبور فلسواها!! أنتِ الحياة نعيمها يقول عن النجاة: إنه بدل بعض من كل. واقول عنه أنا: إنه الابداع إذا تَخِذَه الشاعر لغة يعبر بها عن خلجات روحه ونبضات قلبه,, إنه العشق! إذا ما ملك على المرء قلبه وجوارحه. همست بها عيناي هو يملك إذن لغة سوى الشعر,, لغة العيون,, ومن مُلِّك قياد الأولى,, لن يعجزه ورب البيت قياد الأخرى! غير أني والحق أقول لم أجد رابطا بين قوله أنتِ الحياة نعيمها، همست بها عيناي وقوله: لا ظنا ولا تخمينا , وقد لبثت من الزمن برهة أقلب فيها الفكر، فما هو إلا أن ارتد اليّ حائرا وهو كسير! ثم نأتي إلى نهاية المطاف,. إن كنت دارية، أو كنت لا تدرين,. بدياً,, يقرُّ الشاعر بكل جوارحه بأن علمها وجهلها سببان في خلده، لا يغيران من الحب شيئا,, هواه بلغ مداه فلا جهلها سينقصه، ولا علمها سيزيده,, إنه يقول: إن كنتِ دارية بما بي فانظري مقل الصباح وقد رعته جنينا حتى الصباح يا عبدالله أشهدته على حبك! كيف لا؟ وقد كان الميلاد والمحضن؟ لقد باركت تباشير الصباح ميلاد هذا الحب، ورعته جنينا حتى شب عن الطوق، وترعرعت في سماء الروح فروع الجذور متأصلة في أعماق الفؤاد, كل هذا يستحضره الرشيد جيدا وهو يلفت انتباه نعيم الحياة الى النظر في مقل الصباح, ففيهما لغة لا يعيبها فهمها. أو كنت لا تدرين. إن كنتِ دارية فذلك شاهد على ما تدرينه، فما الحال إن كانت ليست بدارية؟ هاهنا,,وقفة، توقع، تحفز، استنفار,, تراه تأخذه العزة بالكبرياء، ويأنف من محبة من لم تشعر بحبه ولم تدر عنه؟ أتراه يغضب لقلبه الولهان، ولروحه الظمأى جاثية أمام هذه الغافلة الساهية؟ ماذا سيقول إن كانت لا تدري؟ أو كنتِ لا تدرين ما فعل الجوى هاه! بأي قاصمة سترميها؟ بأي كلمات ستستأذن لانهاء هذه المحبة غير العادلة؟ ماذا في جعبتك يا ترجمان المشاعر لتلقيه عليها؟ أبداً!! بكل عناد عاشق، وعنفوان هوي، واقرار مجنون,, يقول عبدالله الرشيد: فالحب يكبر حين لا تدرينا! ,,لماذا يُلقي هذا الشاعر بكل ثقله ومواهبه ومواجعه وطاقاته دائما في البيت الأخير؟ هل ظل يقاوم هذا المعنى طيلة الأبيات السابقة فلما عجز عن حمله رمى به هاهنا مبدعا موفقا؟ آلرشيد شاعر أم ساحر؟ وفؤاده الطافح هما وطموحا,, أيقذف شعرا أم ينفث سحرا حلالا زلالا؟