أكد الدكتور شوكت عليان أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود سابقاً والباحث الشرعي أن علاج التطرف يحتاج إلى تخطيط سليم، وجهد طويل، ومتابعة مستمرة وهادفة، لا الاعتماد على ردود الأفعال والحلول الوقتية. وقال: إن الإسلام منهج وسط في كل شيء؛ في الاعتقاد والتعبُّد، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع، وإن وسطية الإسلام تعدُّ المعلم الأساسي الذي مُيِّزت به أمة الإسلام عن غيرها. وقال د. شوكت: إن ظاهرة التطرف ظاهرة عالمية تشمل العالم كله لا العالم الإسلامي فقط، ولا تقتصر على دين أو نوعية أو جنسية أو منطقة جغرافية معينة.جاء ذلك في الحوار الذي أجرته (الجزيرة) مع الدكتور شوكت محمد عليان.. وفيما يلي نصُّه: * بداية قلنا له: اختلفت المفاهيم حول تعريف ظاهرة التطرف، سواء كانت لغة أو اصطلاحاً، وصارت هناك تعريفات متعددة لظاهرة واحدة نراها تشكل خطراً على المجتمع، فهل من تعريف محدَّد للظاهرة؟ - التطرف في لغة العرب: مجاوزة الحد والخروج عن القصد في كل شيء، وهو مصدر الفعل: تطرَّف، وتطرَّف الشيء: صار طرفاً، وطرف الشيء: جانبه. ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرها، وعادة يكون الطرف بعيداً عن الحماية بخلاف الوسط. والتطرف والتنطع والغلو والتشديد هي كلمات ذات مدلول واحد، وإذا كان التطرف مجاوزة الحد في الشيء فهو نقيض التقصير، وقد نهى الله تعالى عن الأمرين، قال تعالى: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ(، وقال تعالى: )وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا.( وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بالغلو في الدين). والغلو في الدين: التكلف والتشديد فيه، ومجاوزة الحد، والبحث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها. وقال ابن تيمية: قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين) عام في جميع أنواع الغلو؛ في الاعتقاد والأعمال. وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على مَن أراد من الصحابة أن ينقطع عن أعمال الحياة بمبالغته في التقشُّف، وقال سبحانه: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. (فالوسطية صفة المسلمين، ومن مظاهر آثار الوسطية أن ملازمة الطيبات مثلاً يؤدي إلى الترف والبطر، ولا يأمن من الوقوع في الشبهات، فإن مَن اعتاد ذلك قد لا يجده أحياناً، ولا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحظور. * ولكن هناك مفهوم معاصر للظاهرة؟! - إن المفهوم المعاصر للتطرف لا يخرج عن كونه مجاوزة الاعتدال في الفكر والسلوك من خلال تبنِّي أفكار دينية واجتماعية وسياسية يتجاوز مداها الحدود التي ارتضاها المجتمع، واتخاذ موقف عدائي منه ومن مؤسساته وحكومته، بدعوى الحرص على الإسلام الذي انحرف عنه المجتمع، وخرجت عليه حكومته. * البعض يرى أن التطرف ظاهرة حديثة، فماذا تقولون؟ - التطرف ظاهرة قديمة موصولة الحلقات، وليست حديثة كما قد يتصور البعض. وإن ما تعاني منه مجتمعات اليوم ما هو إلا حلقة من حلقات التطرف الذي عانت منه مجتمعات الأمس، ولكن موضع الخطورة في التطرف المعاصر يكمن في أن القاعدة الفكرية التي ينطلق منها بالغة الاتساع، وأن التعاطف والتشجيع الذي يلقاه هؤلاء المتطرفون أو السكوت عنهم أو تجاهلهم أدى إلى استفحال الظاهرة. * ظاهرة التطرف ظاهرة مركَّبة، لها بواعثها الدينية، ولها فوق ذلك بواعثها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولكن الدوافع الدينية قد تكون السبب في الظاهرة؟ - لا أحد ينكر أن الفهم الخاطئ للدين هو السبب، وكذلك المنهج الحرفي في تفسير النصوص الذي يعتمد على انتقاء آيات وأحاديث معينة والتمسك المطلق بحرفيتها، دون التفات للمقاصد العامة للإسلام في عقيدته وشريعته، ودون ملاحظة لوظيفة الواجبات الدينية في تحقيق أهداف عملية فردية واجتماعية، بل ودون التفات لأسباب النزول، أو معرفة بأصول الاستدلال اللغوي والفقهي؛ كإطلاق لفظ الحرام على المكروه، وإطلاق لفظ الأمر على الوجوب دائماً، ودون تمييز بين القاعدة العامة والاستثناء المرتبط بسببه. ومن هذا القبيل جنح فريق من المتطرفين إلى العنف وتخريب مؤسسات المجتمع؛ استناداً إلى قوله تعالى: ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِي الْفَاسِقِينَ). إضافة إلى العزلة عن المجتمع من جرَّاء الحكم عليه بالردة والكفر. والعزلة في منهج بعض الحركات المتطرفة تؤدي وظيفتين في آنٍ واحد؛ الوظيفة الأولى: تجنيب أعضاء الحركة ارتكاب المنكرات التي يعج بها المجتمع، الوظيفة الثانية: تكوين مجتمع خاص بهم تُطبَّق فيه مبادئ الإسلام وتعاليمه، وتتسع دائرته شيئاً فشيئاً حتى تستطيع في النهاية غزو المجتمع (الجاهلي) من خارجه. ومما لا يخفى على كل ذي لب أن فكرة اعتزال المجتمع - سواء كان هذا الاعتزال بالشعور وبالفعل أو كان بالشعور فقط - تعتبر من أخطر مكونات المنهج الفكري والحركي للجماعات المتطرفة؛ فالعزلة بطبيعتها هي البيئة السوداء التي تتفتح فيها أبواب العقل والقلب لتستقبل كل صور الانحراف. * يستند هؤلاء إلى تفسير خاطئ للحاكمية الإلهية، فماذا يعني ذلك؟ - إن فكرة الحاكمية لله وحده، وما رتَّبه المتطرفون عليها من تجريد الأمة من كل سلطات التشريع والحكم والتنفيذ في سياسة المجتمع والدولة، التي تبنَّاها بعض المفكرين الإسلاميين أفضت إلى ضرر عظيم بحق المجتمع والأمة. ومفهوم الحاكمية هذا هو الذي قال به الخوارج وحكموا بمقتضاه على الإمام علي عليه السلام بالكفر بعدما قبل التحكيم بينه وبين معاوية، وهو المفهوم الذي رفضه الإمام علي وانتقده عندما علَّق على صيحة الخوارج: (لا حكم إلا لله) بقوله: (كلمة حق يُراد بها باطل). نعم، لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: (لا إمرة إلا لله)، على أنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر. * وماذا عن الأسباب الاجتماعية للتطرُّف؟ - يذكر بعض المحللين والمفكرين كثيراً من البواعث والأبعاد الاجتماعية والسياسية للتطرف، فمن ذلك العنف؛ حيث يرى البعض من الناس أن التطرف كان بمثابة ردِّ فعل في صورة تمرُّد عنيف استخدمت العنف. ويشير هذا البعض إلى عودة ظهور حركة التطرف فترات معينة في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن في كثير من الأقطار العربية. وأيضاً غياب الإنصاف والعدالة التي تستقيم في ظلها موازين الثواب والعقاب، ومعايير الفشل والنجاح من أهم بواعث إحياء ظاهرة التطرف الديني وغير الديني، وانتشار موجات التمرد والرفض بين أفراد المجتمع، وبخاصة الشباب منهم. وعليه، فإن ظاهرة التطرف الديني عبارة عن صورة من صور الرفض الاجتماعي والاحتجاج على غياب العدالة التوزيعية بصورها في نظام المجتمع، وهناك الفشل؛ حيث تبنَّى البعض نظماً شيوعية وماركسية فشلت في تحقيق طموحات الناس. * هناك مَن يلقي اللوم على أجهزة الإعلام في تغذية التطرُّف؟ - إن أجهزة الإعلام ودور الثقافة لها دور فعال في خلق مشكلات الشباب؛ حيث إن كثيراً من برامج الإذاعة والتلفزيون لا تربِّي المشاهد على العفة والفضيلة، فضلاً عن أن كثيراً من الكتَّاب اعتادوا الكتابة والإفادة برياء ونفاق ومداهنة وبالغش والخداع ولوْي الحقائق وتسخيرها تارة لتأييد فكرة ما أو شخصية ما، وأخرى لتأييد نقيض تلك الفكرة. مثل هذا الموقف يجعل الناس يفقدون الثقة في هذا الكاتب أو ذاك. * وماذا عن أبرز مظاهر التطرُّف؟ - للتطرف معالم متعددة، ومظاهرة كثيرة، أهمها: أولاً: التعصُّب للرأي. إن أول مظاهر التطرف هو التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح المجتمع، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً. ثانياً: التزام التشديد. ومن أهم مظاهر التطرف التزام التشديد في العمل والسلوك وإلزام الآخرين به، ورفض التيسير والتسامح. ولا شك في أن التطرف في العمل نظير التطرف في الفهم والرأي، فكلاهما تحد لسماحة الإسلام ويُسر شريعته، وكلاهما تزيُّد في الدين، واتهام له بالتقصير، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ رسالة منقوصة يجيء هؤلاء المتطرفون ليكملوها ويتمُّوها. ثالثاً: إثارة المسائل الجانبية والأمور غير الضرورية ومناقشتها والتعصب لها؛ كرفع اليدين في الصلاة ووضعها على السرة أو تحتها أو فوقها، والإشارة بالسبابة في التشهد، والافتراش والتورُّك والقنوت ونحو ذلك؛ كالملابس طولها وقصرها وألوانها، وتطويل الشعر وتقصيره، تاركين ما هو أهم من ذلك؛ كالإلحاد والغزو الفكري والاستعمار وظلم العباد للعباد ونحو ذلك. رابعاً: الرؤية السطحية للإسلام في ميدان الحياة المعاصرة؛ كالاعتقاد أن الإسلام مهزوم أمام الأفكار والآراء الوافدة التي لها الحرية الكاملة في مبادئ الحياة، فيحاول الداعي أن يتَّخذ من الوسائل التي يراها كفيلة لنصرة الإسلام، فيقع التطرف في الفكر والعمل. خامساً: التكفير. مما لا شك فيه أن التطرف يصبح في منتهى الخطورة عندما يخوض لجة (التكفير) ويتهم جمهور المسلمين بالخروج عن الإسلام، ويصف المجتمعات المعاصرة بالجاهلية وإن صلَّى أفرادها وصاموا؛ فإن (التكفير) كوصف عام للمجتمعات المعاصرة أفضى إلى ضرر عظيم وبلاء شديد. سادساً: الإرهاب. يعدُّ الإرهاب بأنواعه المتعددة وأساليبه المتنوعة أبرز مظاهر التطرف الديني قديماً وحديثاً؛ فقد كان منذ اغتيال الخلفاء الراشدين الثلاثة (عمر، وعثمان، وعلي) صفة ملازمة لحركات التطرف والغلو في الإسلام. * الحديث عن علاج الظاهرة لا ينقطع ويزداد حيناً ويفتر حيناً، فكيف يمكن علاجها جذرياً؟ - ليس من اليسير معالجة ظاهرة كهذه لها امتداداتها التاريخية، ودوافعها المتعددة، ومظاهرها المتنوعة، وقاعدتها العريضة. هناك عدة اعتبارات عامة أرى ضرورة ملاحظتها عند وضع خطة المعالجة، ثم أردفها بأهم مؤشرات المعالجة مع التنبيه إلى أن الأمر يتطلب جهداً استثنائياً، ووقتاً طويلاً، ومتابعة مستمرة، منها: أولاً: إن ظاهرة التطرف ظاهرة عالمية تشمل العالم الإسلامي كله، ولا تقتصر على قطر دون قطر. ومن هنا فإن محاولة تشخيصها ومعالجتها على أساس من الظروف القطرية المحلية لا بدَّ أن تفضي إلى خطأ في التشخيص وخلل في العلاج. وعليه، لا بدَّ في التشخيص والمعالجة مراعاة الظروف والأبعاد القطرية والإقليمية والامتدادات الدولية للظاهرة. ثانياً: إنها ظاهرة مركبة، لها أبعادها الفكرية، ولها أبعادها الاجتماعية والسياسية، ومن ثَمَّ لا ينبغي أن يكون تشخيصها وعلاجها منحصراً في إطار رؤية واحدة مهما بدا لها من أهمية واعتبار. ثالثاً: التشخيص الدقيق بهدف التمييز بين التدين المعتدل والتدين المتطرف؛ حتى لا يظلم بريء، وحتى لا نوسِّع من قاعدة الحركات المتطرفة في المجتمع من حيث نريد تقليصها والقضاء عليها. * وماذا عن دور الهيئات والمؤسسات الدينية في علاج الظاهرة؟ - المؤسسات والهيئات الدينية في المجتمع مطالبة بتشخيص مواضع الانحراف والخلل في أفكار حركات التطرف وفي مناهجها، وتبيان المفاهيم الصحيحة والمناهج الحقة للإسلام عقيدة وشريعة، مع التركيز على المبادئ والقيم التي تم تأويلها وصرفها عن معانيها، من ذلك: تسليط الأضواء على أحكام (الجهاد) في دين الإسلام وتراثه الفقهي والواقعي لاستجلاء حقيقته الموضوعية الثابتة وظروفه المتغيرة؛ حتى لا يندفع مسلم في عدوان عن جهل أو خطأ في التأويل، وبيان مفهوم (الاستشهاد) وغايته، وهدف الإسلام منه ومن القتال، وحكم الشهيد ومكانته في الإسلام؛ حتى لا يقتل مسلم نفسه أو غيره في عملية انتحارية عن جهل أو سوء فهم، وتوضيح مفهوم الحكومة وموقع نظام الحكم بالنسبة للإسلام والإيمان، وبيان المقصود من (الجماعة) التي دعت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى لزومها وعدم الشذوذ عنها؛ وذلك لأن كل حركة ادَّعت أنها هي وحدها (جماعة المسلمين)، وأن مَن بلغته دعوتها ولم ينضم إليها فقد كفر، ومن لزمها حيناً ثم تركها فقد ارتد. إضافة إلى العمل على الحد من الفرص المتاحة للمتكلمين من المتعصبين للتأثير في جمهور الناس إذا أصرُّوا على بث التفرقة والانقسام بين طوائف المجتمع، ولا سيما بين الشعوب وحكامها، ومنع المؤثرات والمؤتمرات الخارجية والداخلية التي تعمل على النيل من تعاضد مجتمعاتنا وتماسكها وسلامتها ووحدتها، حتى تنصرف الأمة بكامل طاقاتها إلى الإنتاج والإبداع وبناء القوة العسكرية والاقتصادية، وحتى لا تلهو في معارك جانبية تبدد طاقتها فيتحقق بذلك أهداف المتطرفين. كذلك لا بدَّ من إدخال مادة الأخلاق (التربية الدينية) ضمن المناهج والمقررات الدراسية بالجامعات والمعاهد والمدارس؛ حتى يستقي الشباب المعلومات الدينية الصحيحة، مع التركيز على الجوانب الخلقية والسلوكية في ذلك كله، وتوفير جو العدالة والحرية والمساواة أمام القانون والنظام في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص والإخاء؛ فإن ذلك من أعظم قيم الإسلام وتعاليمه، والاهتمام بمناهج التعليم، وتحديد أهدافه عامة، والديني منه بخاصة، وإعادة النظر فيها بما ينسجم وفلسفة المجتمع وتطوره، ومسايرة ركب الحضارة، ودراسة دوافع الرفض الاجتماعي وانتشار موجات الرفض والتمرد بين الشباب بخاصة، وتقديم مقترحات تساعد على اختفاء الاستفزاز الاجتماعي أو التقليل من حدَّته على الأقل؛ تمهيداً لعلاج مشكلة التطرف الديني وغير الديني.