* سوف أُدلي دلوي مع دلاء القوم..! هكذا حدثت نفسي آخر الأسبوع الفارط، وأنا أواجه شاشة الحاسب، لكتابة مقالي لهذا الأسبوع، فقد استسلمت (طوعاً)، لضغوط من قراء أصدقاء أعزاء، جاءتني في أثواب من (عتاب)، فما قويت على العتاب، ولكني تقويت على ما بدا لي من إملاءات في ثناياه، وتوجيهات في حناياه. * حسناً.. هذه صحيفة (بولاند بوستن) الدنمركية، تشعل فتيل فتنة دينية، فتنشر رسوماً (كاركاتورية) مسيئة لخاتم أنبياء الله ورسله، وسيد البشر كافة، محمد بن عبد الله، عليه وآله وصحابته، أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وهي بهذا، تعتقد أنها تمارس حرية تعبير يكفلها القانون، في حين أن القانون الذي تتحدث عنه، والذي يسمح بمثل هذه الإساءات المشينة، يراعي بكل أخلاقية واحترام، مسائل كثيرة في الدنمرك وفي أوروبا كلها، على رأسها مسألة السامية، ومشاعر اليهود في العالم، وحساسيتهم المفرطة من المحرقة، وهذا أمر لا اعتراض عليه، لكن الكيل بأكثر من مكيال في مسائل تتعلق بالحريات الشخصية والقانونية والأخلاقية، أمر معيب في حد ذاته، ولو أن صحيفة ما في أي بلد إسلامي أو شرقي، مست قضية السامية، أو الديانة المسيحية بسوء، فهل سوف تقول صحيفة (بولاند بوستن) إن هذا يأتي في إطار حرية التعبير المكفولة قانوناً..؟! وهل نسي المسيئون للمسلمين في نبيهم وديانتهم، أن مثلهم المأثور في بلادهم يقول: (حيث يفتقد القانون، ينبغي أن ينوب الشرف منابه)، فأين الشرف في هذه الممارسة غير الأخلاقية..؟! * لاحظنا كيف اُجترحت الأخلاق من قلب (كوبنهاجن)، أو لم يقولوا في أمثالهم كذلك: (القلم يجرح غالباً أكثر من السيف)..؟! ثم ها هي الأخلاق تُجترح ثانية، في أكثر من عاصمة أوروبية، فقد دخلت على الخط، صحيفة (فرانس سوار) الفرنسية، وهي كما قيل، مفلسة تبحث عن مخرج من مأزق، ثم جاءت صحيفة ألمانية هي (دي تيليت)، قيل إنها تابعة لدوائر صهيونية، وتبعتها صحيفة (استامبا) الإيطالية، متذرعة بالتغطية ليس إلا، فصحيفة (بريدكو) الإسبانية، التي هي عبارة عن صحيفة محلية محدودة في منطقة كتالونيا، ليس لها رواج في بقية إسبانيا، وأخيراً وليس آخراً، صحيفة (دومورجن) البلجيكية، التي راحت تنتقد وزراء الداخلية العرب، وتشجب شجبهم لما وقع في العاصمة الدنمركية. * في المشهد الأوروبي نفسه، أذيع عن موقف رسمي يمثل الحكومة الدنمركية، عالجه رئيس وزرائها فيما بعد، وكان يظهر بتعليل غريب، يقدم قدسية الرأي، وحرية التعبير، التي يكفلها الدستور في الدنمرك.. هذه اللهجة مفهومة في بلدهم ربما، لكنها بطبيعة الحال، غير واضحة لدينا في الشرق، والأمر يمكن أن يكون واضحاً أكثر للكل، فيما لو أن مثل هذه الإساءات الموجهة للنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، كانت موجهة إلى النبي المرسل عيسى عليه السلام، أو إلى النبي المرسل موسى عليه السلام، وديانتيهما المسيحية واليهودية، ومن دان بالمسيحية واليهودية في هذا العالم، فهل يدخل هذا في إطار قدسية الرأي وحرية التعبير..؟! * والقضية في إطارها هذا، يمكن أن تأخذ أكثر من بعد، فالدول الأوروبية والغربية كافة، تلقي باللائمة عادة على السلطات الرسمية، وحتى المجتمعات المدنية، إذا ما جاءت حماقة مسيئة من جماعات إسلامية متطرفة أو إرهابية، ويصل الأمر إلى حد المطالبة بالمحاسبة، كما يجري اليوم في الولاياتالمتحدة، فهل يحق لحكوماتنا ومؤسساتنا المدنية، وفقاً لهذا، المطالبة بالمثل..؟ * في الطرف الآخر - الإسلامي - وقعت انتقادات شديدة لهذا الهزوء البالغ، والسخرية الجارحة، من نبي ورسول، يدين بدينه أكثر من مليار إنسان في قارات هذا العالم. بل هو الذي جاء رحمة للعالمين كافة، إلى يوم يبعثون، وما أبدته الشعوب الإسلامية من مقاطعة لبعض المنتجات الدنمركية، هو حق لها في مثل هذا الظرف غير الجيد، وردات الفعل هذه، على ما فيها من أخطاء، وتكرار لأخطاء قديمة، مقدرة ومفهومة، وينبغي أن ينظر إليها من جهة، أن إساءة صريحة مست خُمس سكان العالم، وعلى الطرف المسيء، الاعتذار العلني، وإجراء المحاسبة القانونية للمتسبب، سواء كان فرداً أو مؤسسة. * إلى هنا.. والأمر طبيعي، فهذه ليست أول مرة توجه فيها إساءة من قبل متطرفين دينيين، أو متشددين علمانيين في الغرب، إلى المسلمين وديانتهم، فمثلما أن بين ظهراني المسلمين متطرفين يضمرون الشر للآخر، ويذكون نار الفتنة، ويكرسون العداء والكراهية، ويدعون إلى الصدام مع غير المسلمين، فهناك في الغرب متطرفون كذلك، من يمين ديني متطرف، أو يسار علماني متشدد، أو موجات فكرية واجتماعية، أفرزتها ردات فعل مفهومة أحياناً، لما يقوم به الحمقى من المتطرفين المحسوبين على المسلمين، من أفعال إرهابية في ديار الغرب. * أعود إلى مسألة المقاطعة الشعبية، التي تبنتها المجتمعات الإسلامية ضد المنتجات الدنمركية، إنها حق لهذه الشعوب الغاضبة لنبيها، ثم إنها تشكل أسلوباً في حد ذاته حضارياً، إذا لم يتجاوز حدوده، ولم يتم استغلاله من قبل أطراف انتهازية، تسعى للاصطياد في هذا الماء العكر. إن هذه حالة جدّ خطرة، ألمح إليها مفتي عام المملكة الشيخ (عبد العزيز آل الشيخ)، وهو يعلق على الحادثة، ويطلب من المسلمين تقوى الله والهدوء. حيث حذر من: (أولئك الذين يندسون بين صفوف الأمة، ليثيروا أمراً خطيراً، وهم لا يدرون)، ومن هؤلاء متطرفون انتهازيون، نراهم أخذوا يستغلون هذه القضية، لخدمة مشروع القاعدة المعلن في الحرب على العالم كله، وتصوير الأمر، وكأنه انتصار على الخصوم في الداخل من غير أنصارهم. * إن بذاءات المتطرفين من الدينيين والعلمانيين في بعض دول الغرب، لن تنال من سيد خاتم أنبياء الله ورسله، وسيد بشره، هذه حقيقة؛ فهو الذي خاطبه الخالق - عز وجل - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4). وقد أخبرنا - عز وجل - أن من يأتي بذنب، فإنما هو على نفسه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ)}(النور: 11)، و: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164). وقد علمنا صلوات الله وسلامه عليه، كيف نقابل الإساءة بالإحسان، وليس الإساءة بمثلها. قال لقريش وقد تمكن منهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال لثقيف وهو يغادر طائفهم، وقد فقد اثني عشر من أصحابه: اللهم اهد ثقيفاً وأتي بها. * ينبغي أن نكون عادلين في تعاطينا مع مثل هذه الحوادث والوقائع، فلا نعمم، ولا نخلط الأوراق، ولا نؤجج العداء ضدنا، وأن نسمي كل شيء باسمه، وأن نفرق بين السياسي والاقتصادي والثقافي والديني، وأن نحصر الواقعة في مؤسسات إعلامية، وليس في مجتمعات أو حكومات أو شركات أوروبية، ولا ننسى أن عشرات الملايين من المسلمين، هم مواطنون في أوروبا وأميركا، وأنهم يبحثون عن الأمن والاستقرار والعدالة، في ظل القوانين التي تحكمهم، في أوطانهم ومهاجرهم، وسط المجتمعات الغربية، وهم اليوم في حاجة أكثر إلى تخفيف حدة الخطاب المتطرف، القادم من جماعات إسلامية خارج بلدانهم، ما انفكت تؤلب ضدهم، وتستعدي عليهم، وتنغص حياتهم، وما وقع في كوبنهاجن تحديداً، لا يمكن بحال من الأحوال، عزله عن حوادث العنف والإرهاب، التي نفذها محسوبون على الإسلام، من (مجاهدي) القاعدة، سواء في أميركا أو لندن أو مدريد، أو بروكسل، أو غيرها من عواصم ومدن الغرب. * إن أبلغ تعليق واقعي قرأته لهذه الحادثة، كان للأمير (نايف بن عبد العزيز)، وزير الداخلية السعودي، وجاء في تعليق له عقب مؤتمر تونس الأخير، الذي جمع وزراء الداخلية العرب، حيث قال: (إذا كان مثل هؤلاء أحراراً في أن يقترفوا مثل هذا الأمر، فإن الآخرين بالتأكيد، أحرار في أن يرفضوه رفضاً كاملاً). يرفضوه.. فهو لم يقل أن يفعلوا مثل ما فعلوا، إذ إن أخلاق المسلم المستمدة من دينه الحنيف، لا تسمح بالإساءة لأي أحد، أو مقابلة الفعل السيئ بمثله، فكيف إذا تعلق الأمر برسول ونبي وديانة سماوية..؟ * وفي هذا المشهد المتعلق بهذه القضية، نبدو وكأننا نكرر أنفسنا في كل مرة، فردات فعلنا، هي.. هي لم تتغير، وأخطاؤنا هي أخطاؤنا، لم نستفد من تجاربنا السابقة، فقد جاءت حالة سلمان رشدي وآياته الشيطانية، فأرعدنا وأزبدنا وقتذاك، ولم نحقق إلا الشهرة والكسب للمسيء، ثم دخلنا على خط قضية الحجاب في فرنسا، فأمَّنَّا من جديد، على غبائنا المتأصل، وحمقنا المتجذر، وبدا الأمر وكأنه تدخل سافر، في شأن داخلي لدولة لها دستورها وقانونها، الذي يخضع له كافة مواطنيها، بما فيهم الجالية المسلمة، ومضت فرنسا الدولة والشعب، في طريقها دون اكتراث، مع شيء من إزعاج جلبناه لمسلميها. * هذه قضية كان ينبغي تركها للمسلمين هناك مع دعمهم، والأمر نفسه ينطبق على مسلمي الدنمرك وأوروبا في هذه القضية الآنية، بحيث تعالج في إطار قانوني، فقد نهج مسلمو أميركا هذا النهج الحضاري في السابق، ونجحوا في كسب أكثر من قضية، من أشهرها، زلة لسان الرئيس الأميركي بوش، في وصف حربه على الإرهاب ب(حرب صليبية)، فاعتذر علناً. * إن بلاء الإسلام والمسلمين في دول الغرب، يأتي من أطراف متشددة، أو متطرفة وإرهابية، فهي ترى أنها قيِّمة على الإسلام وأهله، فتقدم نفسها إلى الشعوب الأوروبية على هذا الأساس؛ فتسيء إلى كل الدين وكل المسلمين، سواء داخل دول الغرب أو خارجها، فهذا أسامة بن لادن، وقرينه الظواهري، في غزواتهما المخزية، في منهاتن ولندن ثم مدريد، لا يرى فيها الإنسان الغربي، أكثر من إرهاب قادم من الشرق..! يهدد كيانات وحضارات بلاده. أما صور أبو قتادة وأبو حمزة والزرقاوي وأشباههم، فهي التي يعرفها الغربيون من بين المسلمين، وقد اعتادوا على رؤيتها صباح مساء، في وسائلهم الإعلامية. * الحملة الشعبية لمناصرة النبي المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، هي حضارية وجيدة، ولكن كان ينبغي أن ترشد، وأن لا تخرج عن حدود المعقول؛ لأن مقاطعة كل ما هو دنمركي، قد لا يسلم منه شركاء سعوديون في شركات، وموظفون سعوديون في مؤسسات، وهناك عواقب وخيمة، هي غير منظورة وغير محسوبة اليوم، ربما تكون واقعة غداً، فردود الأفعال على مستوى السوق الأوروبية لو تمت، سوف تكون مضرة، لأن كافة هذه الدول، تمثل سوقاً كبيرة لنفط المملكة ومنتجاتها الصناعية البتروكيماوية، فإذا كانت (الكراهية.. هي غضب يتحين مناسبة الانتقام) كما قال بذلك (شيرون 45 ق. م) فلماذا لا نتقي الغضب، ونتجنب الكراهية، حتى لو كنا الهدف منها، وحتى لا ينقلب السحر على الساحر، لا بد إذن من الهدوء، مثلما قال بذلك مفتي عام المملكة، وتغليب العقل والحكمة. فقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: (الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام باتر، فاستر خَِلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك). * هل حان الوقت، لتقديم مشروع إسلامي (إنساني أخلاقي)، تتبناه المملكة العربية السعودية، التي هي راعية القمة الإسلامية الأخيرة في مكة، إلى هيئة الأممالمتحدة وكافة منظماتها، يُحرم السخرية والهزوء بالأنبياء والرسل، ويُجرم الإساءة للأديان السماوية كافة..؟ * لعل الأمر كذلك. [email protected]