قد يخلط البعض بين المكابرة والكِبر، وحتماً هناك فرق بينهما، وإن كانت على كل حال جميعها سيئة.. وما أنا بصدده والحديث عنه هي المكابرة، فكم أهلكت من يتصف بها؛ لأنها ترتبط بشكل مباشر مع سوء التقدير، كأن يمنح الإنسان نفسه قدراً أعلى من قدره سواءً من خلال التصرف أو السلوك المصاحب لهذه الآفة الخطيرة؛ لأن المقايسة بهذا الصدد تفتقر إلى المعايير الدقيقة، فيما يشكل التضليل في هذه الناحية استدراجاً كئيباً وبالتالي الوقوع في الفخ، حينئذٍ فإن الانكسار الناجم عن هذه الحالة لا يمكن تصحيحه، أو بالأحرى تصليحه، فهو أشبه بالكأس إذا انكسر، فاستحالة تجميع الزجاج المتناثر تشبه إلى حد كبير سقطة المكابر، ومن يعتقد نفسه أنه الأقوى وفقاً لتضخيم الآخرين له. وقد يصاحب هذا الشعور غشاوة لا تفتأ أن تزول بمجرد مواجهة الواقع، والأدهى من ذلك هو تصديقه هذه الكذبة بأنه الأقوى، بالرغم ما يراود ذهنه بين الفينة والفينة بأنه ليس كذلك، إلا أن التطبيل والنفخ المتواصل، وليت النفخ يكون في (قربة مشقوقة) في هذه الحالة بالذات لكي يمنح نفسه الموقع الصحيح ما ينتج عن القرار الصحيح، بيد أن القربة سليمة، بل انها لا تنشق إلا حين يقع الفأس في الرأس، وقتئذ يتوارى الأصحاب والخلان، الذين كانوا بالأمس الساعد الأيمن والمحرض الرئيس على هذا الوقوع المزري خلف كواليس الواقع المر، ليبحثوا عن كبش فداء آخر وهلم جرا. والمكابرة بلا ريب مؤذية ومهلكة في نفس الوقت خصوصاً في حالة المواجهات العسكرية، ولا سيما إذا كانت موازين القوى غير متكافئة البتة، وفي هذا إهلاك للنفس، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} إذ أن الأمر يتطلب الإعداد لهذه المسألة وما يرافق هذه المرحلة من الصبر والتحمل لمسألة الإعداد تلك، على أقل تقدير لتقليص الفارق في المستوى بهذا الصدد. وعلى الصعيد نفسه فإن المكابرة تجهض على بوادر التطلع وتأسر الإبداع ليكون التفوق اللفظي مهيمناً، بينما هو على أرض الواقع لا يعدو أن يكون تخديراً أجوف، وقد يسهم في تمرير هذا التخدير من لا يرغب الخير للمكابر، وفي ظل غياب الرؤية الواقعية المتزنة يتضاءل دور الحكمة في هذا السياق معجلاً هذا الغياب في السقوط، ولذلك قيل (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) فحينما يمنح الإنسان نفسه قدراً أقل أو أعلى مما تستحق فإنه يظلمها، إما بالزج بها في أتون المخاطر في حال منحها أعلى من المستحق، أو يبخسها حقها في مسألة التقليل من شأنها، ويقول المثل المصري (يا بخت من بكاني وبكى عليّ، ولا من ضحكني وضحك الناس عليّ) مجسداً هذا المثل واقع الحال من خلال هذا التصنيف، فمن بكاك وبكى عليك فإنه صدقك، وأما من ضحكك وضحك الناس عليك فهو خدعك، واستغلك، واستغفلك، وكلا الأمرين أحلاهما مر، وان كان البكاء مع الصدق خير من الضحك مع الخداع. ولا تقف المكابرة وآثارها المدمرة عند هذا الحد، بل تذهب إلى أبعد من ذلك حينما تمتزج مع النسيج الاجتماعي، عبر إيحاء مخادع، وبهرجة زائفة لكي تعطي صورة مغايرة للواقع، ففي حالة (الفشخرة الزايدة) ومحاولة الظهور بمظهر يختلف عن الوضع الطبيعي والواقعي، فإن هذا (المتفشخر) ليس بأحسن حال من المكابر سالف الذكر، وإن كان يندرج في نطاق المكابرة بشكل أو بآخر، وحين اكتشاف الأمر، وهو لا محالة سيكتشف، لأن حبل الكذب قصير، فإن الوصف أو بمعنى أدق التصنيف سيكون قاسياً؛ لأنه سينعت بالكذب، فضلاً عن الشعور بالخجل المصاحب لهذا الموقف البائس. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما هو الدافع وراء هذه التصرفات غير اللائقة؟ هل هو مركب نقص يعاني منه مَنْ يمارس هذا السلوك؟ وهل يعتقد أن الاحترام مرهون باللبس أو المركب أو نحوه؟ الإجابة قطعاً لا، إنما الإنسان يُحترم لدماثة خلقه وحُسن تعامله والتصاقه بالأدب، وأريحيته، وسمعته الطيبة، وتواضعه وكرمه.. هذه هي المقاييس الحقيقية، وكل إنسان يرغب في أن يلبس أحسن لباس ويركب أحسن مركب، ولكن هذه وسائل وليست صفات، فالوسيلة تختفي وتبقى الصفات الحميدة، تشع نوراً وهي تضيء الطريق لصاحبها، ولا يعني هذا أن يزهد في كل ما هو مرغوب، بل يساير الواقع بمعزل من إفراط يثقل كاهله، فتجده أمام الناس يضحك، وإذا حلَّ الظلام بدأت تباريح الألم تقض مضجعه، من ديون وأقساط لم تكن إلا انتفاخاً أعوج، ووفقاً لمسايرة تنم عن قصور في الوعي، فمَنْ لا يحترمني لذاتي فلا حاجة لي بلقائه، ومَنْ يتشدق بأنه سافر إلى كذا، ولبس كذا، وركب كذا، فإن الثقافة في مفهومه لا تعدو أن تكون صفراً يضاف إلى الأصفار التعيسة التي يمتلكها، وأعني بذلك الوسائل التي أتاحت له العيش برفاهية، فبدلاً من شكر المولى على نعمه، لكي تدوم هذه النعم، يمارس تجريح مشاعر الآخرين، ويؤذي أحاسيسهم، ولسان حاله يقول: انتم لا تملكون ما أملك!! ولا يعلم هذا المتغابي أن دوام الحال من المحال، وهو لم يتعب ويكد ويشقى ليملك ما ملك؛ لذا فإنك في بعض الأحيان تجد الابن هو مَنْ يمارس هذا التهريج، بينما تجد والده قمة في التواضع وحُسن الخلق؛ لأنه عاصر الحياة وعصرته، وهو يُقيّم الآخرين بإدراك واسع، وبصيرة ثاقبة. ومهما يكن من أمر فإن المقياس في تقييم الأشخاص يكمن في ماذا تملك؟ لا كم تملك؟ فإن قلت أنك تمتلك الملايين وتفتقر إلى الأخلاق، فإن ما تملك صفر على الشمال، بل صفر كبير بحجم رأسك المنتفخ. قال الشاعر النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وتقبلوا تحياتي..