ربط الوعي السياسي بالتاريخ هو الوسيلة الوحيدة لتعاطي المعلومة وبناء المفاهيم بالشكل الصحيح، فالعواطف وتحريك جذوة الانتماء او المعتقد لا يمكن ان تحقق نتيجة أمام الواقع التاريخي لكل أمة. لقد حفظ لنا التاريخ ذكريات من المحال ان تتغافل عنها الذهنية السياسية العربية، فمدينة غرناطة انهارت أمام وجود ممالك عربية في شمال إفريقية - وامبراطورية إسلامية في الاستانة هي الدولة العثمانية، ومن قبلها سقطت بغداد في القرن السابع الهجري أمام ممالك عربية من الشام ومصر، وفيما بين هاتين المدينتين ممالك عربية تتهاوى أمام ضربات الحملات الصليبية ولا تتمكن أية دولة مجاورة من مد يد العون لها ليس لعدم المقدرة ولكن لان المصالح تحكم بتلقائية على عدم تقديم أي عون لمنافس وعلى الساحة نفسها. لقد أكد لنا التاريخ صوراً أخرى وهو أن الأمة تنقاد إلى الرمز الذي يمثل القوة، فقد كانت جزيرة العرب مسرحا لصراعات قبلية وكان لكل شيخ قبيلة مطامع ومصالح في ذهاب المجاورين له من خريطة الصراع والتنافس، ففي الوقت الذي تتقاتل فيه القبائل كانت هناك الكثير من صلات الدم بين تلك القبائل المتناحرة، بل المتصاهرة فيما بينها أحياناً. لماذا تتحدث كثيراً عن التعاون العربي او التضامن العربي الذي لا يعتمد على قاعدة يمكن الانطلاق منها لتحقيق هذا التعاون او بناء أسس ذلك التضامن، والتاريخ شاهد على أن سقوط المدن الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى مع وجود قوى عربية قادرة في ذلك الوقت على انهاء الاحتلال في وقت كانت القوة فيه محدودة التأثير او التدمير، وعلى ذلك كانت الارادة معطّلة وغير قادرة على النفاذ الى حيز الوجود، كان هناك غليان يحرك كل قضية لكن ذلك الغليان يخبو في ظل فرض الواقع على الأرض وتناول ماء التناسي الذي يذيب جذوة كل الإرادات. إن الشعب العربي الذي هو عتاد الأمة العربية لا يقوم إلا بوجود الرجل الرمز الذي يكون في هيئته وثقافته وقوة تأثيره شيئاً خارقاً للعادة وجزءاً من حركة المستحيل المتحقق، وهذا النوع من الرموز يحتاج الى اجواء قادرة على تحمل ظهوره، واعتقد ان الإمكانات الآن لا تساعد على ظهور الرموز الذين كانوا في الماضي مصدر عزة للأمم. كان الملك عبدالعزيز رمزاً وكان الى جانبه رموز عدة، فاتفقت تلك الرموز على ألا تتعادى على ذاتها بالرغم من محدودية الزمن لم تكن مسعفة لهم لتحقيق طموحاتهم واكتفوا بتأسيس كيانات عربية متماسكة كانت في الماضي عبارة عن عشائر وقبائل تتطاحن على الماء والكلأ. والآن وقد انتهت الساحة من الرموز لم يعد بالإمكان خلق رموز جديدة كما ان الاوضاع الآن لا تساعد على قيام تلك الرموز، لذا ينبغي على الحكومات العربية ألا تبحث عن المستحيل الممكن التحقيق عبر تلك الاجتماعات والمؤتمرات والمؤسسات الخاملة التي لا تضيف شيئاً في ذاكرة التاريخ. الجامعة العربية مؤسسة تعمل في ظل العواطف وموسيقى الانتماء المختلطة بجلبة حركة الأديان والمذاهب والعقائد التي تحفل بها الرقعة الجغرافية للوطن العربي، وفي جسد الأمة الكثير من الغدد الرافضة لبعض اجزائه والتي تمنعه من التمدد وفقاً لهذا التكوين العشري الجديد. إن كلمة الوطن العربي، كلمة قاصرة من حيث المدلول الجغرافي، والعرب يسكن الى جانبهم في هذا الوطن أمم أخرى مثل الاكراد والبربر والمهرة والتركمان والزنوج.. واذا كانت الغالبية هي تلك السحنة المنخرطة من اصل العرب، إلا أن عقود القرن العشرين المنصرمة اذكت تلك العنصريات والعرقيات فتحدثت كل عرقية او عنصر بلغتها بل إن بعضا من تلك العرقيات حملت السلاح ضد العرب الذين يشملهم اسم الوطن.. أما كلمة الدول العربية.. فهي كلمة جامعة لم يتم بعد التفاهم عليها، فكلمة عربية لا توجد إلا في دول قليلة جداً فيما تكتفي كل دولة بأن تنتمي الى مسمى الارض والبحث في اصولها في تاريخ الشعوب الفنيقية او الفرعونية او الكلدانية او البابلية او غير تلك الأصول التي باتت الآن في حكم الغيبوبة التاريخية. هل العرب أمة ام شعب ام عدة شعوب أم قبائل، اذا لم تكن دولاً فما هي اذاً. إذا كان لدى الحكومات العربية وقت لتحقيق مبدأ ينطبق بمفهوم التاريخ فعليهم تأسيس هيئة متخصصة بالمصالح المالية والاجتماعية.. عند مقدرة الهيئة على خلق أساس للتفاهم بعيداً عن العاطفة فعندئذ لا بد ان تظهر الرابطة التي اكدت وجودها المصلحة الخاصة بواسطة هذه الهيئة يمكن ان يتحقق كل شيء. لماذا نتحدث كثيراً عن الأمة ونتساءل عن وجودها؟ انها غير موجودة ما دامت مصالحها مغيبة في ذلك الوجود ولكن عندما يكون هناك ترابط في المصالح فعندئذ ستقاتل الأمة ضد كل خصم لان هدف هذا الخصم بتر الصلة بين الأمة والحياة. في ظل الحرب القائمة في العراق يطالب الشارع العربي بأن تكون هناك عروبة وان يكون هناك اسلام، والعروبة والإسلام لا يمكن ان يحققا أثراً في هذا الصراع ما دامت هناك إشكاليات تعترض جذوة التعصب لتلك المبادئ يجب أن نتكلم كثيرا عن مؤسسات مالية وتجارية تجمع بيننا ليس لمجرد اننا عرب يجب ان نكون عربا، وانما لكوننا دولا في منظومة جغرافية يمكن استغلال عامل الزمان والمكان لتتحقق لنا الحياة في ظل مصالح مشتركة. الافضل ان ننظر الى التاريخ وان نمعن النظر في صفحاته خاصة تلك الصفحات التي تخصنا لاننا نحن من كتب احداثها، وعندئذ يمكن ان نحقق مع انفسنا ونصدر الحكم عليها.