وأضاف التقرير أن هذه الدولة الحديثة، والتي اتخذت من أكبر مدنها جوبا عاصمة لها، تبلغ من المساحة أكثر من 640. 000 كم مربع. يحدها من الشمال الدولة التي انفصلت عنها، ومن الجنوب الشرقي أثيوبيا وكينيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن الغرب إفريقيا الوسطى. ويبلغ تعداد سكانها حوالي 8. 5 مليون نسمة معظمهم يتوزعون في العاصمة جوبا، ومختلف المدن الرئيسية مثل «واو « و»ملكال» و»رومبيك»، و»أويل» و»ياي» وغيرها من المدن الأخرى. وعلى مستوى الأديان والمعتقدات فإن هناك 65% من الجنوبيين يدينون بالوثنية وعبادة السحر والأساطير، ونحو 17% منهم مسيحيون، والباقي هم من المسلمين (المعلومات مستقاة من الكتاب السنوي للتبشير والذي يصدره مجلس الكنائس العالمي - إحصاءات 1981). ويقول الباحث السوداني الخليفة الساعوري ان عدد المسلمين في جنوب السودان زاد بالتأكيد على هذا العدد ويحتمل أن تكون النسبة الجديدة قد وصلت إلى 20%)، حيث أم صلاة الجمعة «الأخيرة» ببعضهم في مسجد جوبا العتيق، رئيس حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، وذلك على هامش تلبيته دعوة حكومة الجمهورية الحديثة العهد للمشاركة باحتفال إعلان استقلالها والذي توافق تاريخه في 9/ 7/ 2011. وبعد الصلاة، صرح الصادق المهدي للإعلام السوداني الجنوبي بأنه «جاء بقلب مثقل بالتناقضات، والسبب فشل السودانيين في إدارة التنوع في البلاد». وأردف: «قدمنا إلى الجنوب للمرة الثالثة منذ اتفاقية السلام تلبية لدعوة من حكومة الجنوب للمشاركة في إعلان دولة جنوب السودان، التي نتمنى لها النجاح في حكم يوفر الأمن والعدل والحرية والسلام لأهلنا في الجنوب». مصير اللغة والهوية ويواصل التقرير حديثه عن دولة جنوب السودان حيث يقول إنها تضم مئات القبائل، الكبير منها والصغير، ومن أبرزها: الدينكا، والنوير، والشيرلوك، والشلك، وباري، والأشولي، والجور، والباريا، والزاندي، والفرتيت، وتوقو، وكارا، وشالا، وبلندا... وتشكل هذه القبائل على مستوى الهوية، وحدات عرقية بلهجات مختلفة يُقدر عددها ب (400) لهجة، لا تزال اللغة العربية هي التي تشكل لغة التواصل والتفاهم فيما بينها جميعًا.. حتى آل تصنيف المجموعات القبائلية ذات الازدواج اللغوي إلى ما بات يُتداول باسمه ويُعرف في السودان كله، ب «مجموعة عربي جوبا» و»مجموعة عربي واو» و»عربي ملكال»... إلخ. جدير بالذكر أن اللغة العربية دخلت السودان مع الفتح الإسلامي من الشمال والشرق، حيث بدأت مجموعات من العرب في الهجرة إلى السودان من مصر والحجاز.. ولاحقًا من المغرب وشمال إفريقيا. والإسلام ساعد في انتشار اللغة العربية في كل أرجاء البلاد السودانية، حتى احتوت هذه اللغة كل اللهجات التي يتشافه فيها المسلمون والمسيحيون والوثنيون واللا دينيون على حد سواء. كما أن الصلوات والترانيم الدينية المصاحبة لها في كنائس الجنوبيين، فضلًا عن خطب الكهنة في الآحاد والمناسبات والأعياد، تتم كلها باللغة العربية، الأمر الذي يدل على تجذر لغة الضاد في وجدان القبائل والمجموعات الجنوبية غير العربية وغير الإسلامية في السودان. وأضاف التقرير أنه على مدار الاحتلال المباشر وغير المباشر للسودان، فشل الاستعمار البريطاني، في كل محاولاته لإقصاء اللغة العربية عن ثقافة أهل الجنوب وتاريخهم، على الرغم من بذله جهودًا جبارة لتحقيق ذلك، ومنها فرضه ما سماه «قانون المناطق المقفولة» في العشرينيات من القرن الماضي، أي عزل اللغة العربية عن محيطها التداولي اليومي في الجنوب ومنع الجنوبيين، خصوصًا الوثنيين منهم، من الانتقال إلى شمال البلاد خشية اعتناقهم الإسلام وتعلم اللغة العربية. كما مُنع الشماليون من دخول جنوب وطنهم، ولم يسمح إلا للبعثات التبشيرية المسيحية التنقل في مختلف مناطق السودان وخصوصًا في جنوبه، وأغلب هذه البعثات السياسية/ الدينية كانت من أوروبا، وتحديدًا من إيطاليا وفرنسا وهولندا والسويد. وباختصار، فقد اقتضى قانون «المناطق المقفولة» عمليًا إقامة شريط خال من السكان بين عموم مناطق شمال السودان وجنوبه كي لا يستمر التواصل، أو الاختلاط الثقافي الطبيعي السائد منذ قرون في هذا البلد. لكن الاستعمار الإنكليزي فشل في سحق الهوية الثقافية للبلد شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وتمكنت ثقافة رسوخ الإسلام واللغة العربية، خصوصًا في الجنوب، من دحر مخططات بريطانيا وقوانينها الالتفافية كافة. من جهة أخرى، تنبأ مدير معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية في جامعة الخرطوم، البروفسور محمد الأمين أبو منقة بتآكل وانقراض كل اللغات الصغيرة أو المحدودة الانتشار في السودان. وفي رأيه أنه، حتى ولو حصل انفصال الجنوب عن الشمال (وقد حصل بالفعل) فإن اللغة العربية ستبقى هي لغة التخاطب والتواصل فيه. ويؤيد وجهة نظر البروفسور الأمين أبو منقة هذه، وزير الشؤون الدينية السابق، وأحد أبناء جنوب السودان، د. عبدالله دينق، قائلًا: «إن العربية ستستمر كلغة تخاطب، وتفاهم في مجتمع الجنوب ولعقود طويلة». قد تُقصى من المدارس، كما يقول، «لكنها ستظل قاطنة وجدان الناس وأفئدتهم». أما علي أحمد محمد بابكر رئيس مجمع اللغة العربية في السودان فيرى أن العربية هي لغة التخاطب والتعليم لمدة طويلة في الجنوب، وهي الرابط بين قبائله كلها. وعليه، «ليس من مصلحة الجنوب أن يقطع معها كلغة جامعة نظرًا للمصالح المشتركة بين السودانيين». ومع ذلك، فثمة من يدعو إلى التخلص ونهائيًا، من مناهج تعليم اللغة العربية في جميع مدارس الجنوب وجامعاته، ولحساب تسييد اللغة الإنكليزية؛ ومن هؤلاء وزير التربية والتعليم حسين مايكل ميلي، الذي نصحه كثيرون، كما نُصحت حكومته، حتى بعد الاستقلال، بالتخلي عن هذا الخيار، الذي لا ينتج سوى سياسة عنصرية. لا بأس أن يتعلم أهل الجنوب وأهل الشمال اللغة الإنكليزية، وما أمكنهم من لغات، أما أن يعادوا لغة آبائهم وأجدادهم، والمدون بها تراثهم والتداول به من جيل لجيل، فهذا طبعًا ليس طعنًا بالتراث السوداني المتنوع والعظيم فحسب، وإنما هو «تصرف ينم عن عصبية وعنصرية لا مبرر لهما»، كما يقول الباحث السوداني د. الخليفة بن محمد الساعوري المقيم في فرنسا، والذي صرح لنشرة «آفاق»: «كل مسؤول سياسي ومثقف ومتعلم في الجنوب، من الرئيس سلفاكير إلى مطلق مواطن عادي أمي، أو نصف أمي يسلم بأن لغة «عربي جوبا» هي التي يتفاهم بها السواد الأعظم من الاثنيات والجماعات الدينية في الجنوب، وتتحرك من خلالها ألسنتهم ووجداناتهم وسائر ضمائرهم المتكلمة»... ويردف الساعوري، قائلًا: «من الصعوبة بمكان تجاوز اللغة العربية إنسانًا وثقافةً وروحًا وقلبًا وعقلًا وتراثًا وشارعًا وبيتًا في جنوب السودان، مهما فعلوا، ومهما اتخذوا من قرارات وكرسوها في دساتير آنية ومستقبلية». وفي رده على وزير الثقافة في حكومة جنوب السودان جبريل تشانغ، والذي كان قال للإعلام «بأن الإنكليزية ستصبح لغة رسمية في الجنوب، وسنعلم هذه اللغة بكثافة حتى تتلاشى اللغة العربية»... كما قال الوزير تشانغ أيضًا: «سنضع لغة سودانية متفردة في الجنوب عن طريق دمجٍ للغات التي تستخدمها مختلف القبائل السودانية». (وكالة يونهاب- من حوار أجراه معه المراسل كو وونغ سوك).. في رده على الوزير تشانغ، قال الساعوري: «يبدو أن وزيرنا في حالة حرب مستمرة، ويريد اجتثاث لغات، أو لهجات آبائه وأجداده. هو حر في قول ما يريد، لكن كلامه ليس علميًا، ولا ثقافيًا هنا، خصوصًا حين يقول إنه سيولد لغة سودانية متفردة عن طريق دمج اللغات التي تستخدمها مختلف القبائل السودانية؟ أي لغة هذه التي ستولد هنا؟ وكيف سيجتث التأثيرات العربية الغلابة فيها؟.... هذا ليس كلامًا ثقافيًا، ولا علميًا.. ليسمح لنا السيد وزير الثقافة... إن كلامه هذا أشبه بقصف عسكري عنيف بقنابل السياسة». ويطلب الساعوري من الوزير تشانغ «التمهل علينا قليلًا، فجون غرنق الزعيم والرمز الجنوبي السابق، كان يخاطب جنوده من القبائل الجنوبية كلها باللغة العربية. ومثله فعل ويفعل رئيس الدولة سلفاكير ميارديت، هذا الذي لا يجيد أيضًا معظم لغات القبائل السودانية الجنوبية الأخرى، والتي تشكل ما مجموعه 16% من المجموع العام للقبائل في السودان كله. سلفاكير يخاطب الجنوبيين بالعربية، أو على الأصح يخاطبهم بلغة «عربي جوبا».. فهل يعتقد البعض حقًا بإمكان إلغاء ال «عربي جوبا؟!» إذن، بات من الصحيح القول إن الأزمة في جمهورية جنوب السودان الجديدة هي أزمة هوية، وأزمة كيان لغوي (إضافةً طبعًا إلى أزمة الهويات الاثنية) وشخصية ثقافية لمجتمع مركب من الصعب سلخه عن تراثه ولسانه ومناهج تفكيره ومنطلقاته، هكذا بقرار متسرع أو تحليل عابر. وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول أعداد المسلمين والمسيحيين في دولة جنوب السودان وأن النسبة الأكبر من المواطنين السودانيين الجنوبيين هي فيما يبدو من اللا دينيين والوثنيين (بحسب إحصاء مجلس الكنائس العالمي). فالأرجح أن التعددية الثقافية واللسانية في هذا المجتمع، ستكون لا محالة جزءًا من تكوينه التاريخي، وأن الثقافة العربية بعنوانها وآليتها اللغوية لن تشطب من الذاكرة الجمعية السودانية الجنوبية، ولا من جريرة لسانها وروحها. ويجب أن نعاين بإيجابية هنا ما كان يصرح به سلفاكير أيام كان رئيسًا للحكومة قبل إعلان دولة الانفصال: «لن يكون المسلمون في جنوب السودان مواطنين من الدرجة الرابعة أو الثانية. وإنني كمسؤول رسمي سوف أحمي جميع المواطنين الجنوبيين، وفي مقدمهم المسلمين». يقول الباحث في العاميات السودانية د. عون الشريف قاسم في كتابه: «قاموس العامية السودانية»: «إن اللغة العربية كانت في حراك دائم وتلاحم متجدد مع لغات أهل السودان. فهي استعارت من لغاتهم، وأعارتهم، حتى تكون ما يسمى بالعامية السودانية التي لم تكن إلا كشكولًا للعربية الفصحى ولغات أهل السودان». ويقول باحث سوداني آخر هو د. أوشيك آدم: «منذ الاستقلال، وإلى عهد قريب، كان الاتجاه العام في السودان هو تغليب الثقافة العربية على ثقافات أهل السودان الأخرى من ذوي الأصول غير العربية. وهذا الاتجاه كان يجد دعمًا غير محدود من الدولة التي كانت تُسخر كل إمكاناتها ومؤسساتها التعليمية لتجذير هذا المفهموم. والادعاء بأن هذه السياسة هي صنعة استعمارية، إنما هو قول مردود وغير دقيق لواقع معاش، فالمعروف عن الاستعمار الإنكليزي تحديدًا، أنه كان دائمًا في حرب شرسة ودؤوبة لتقليص تمدد الثقافة الإسلامية- العربية، ليس في السودان وحده، وإنما في جميع مستعمراته التي توجد فيها مثل هذه الشرائح الثقافية والدينية». تجربة جيبوتي ويستشهد التقرير بالتجربة الجيبوتية في التعامل مع اللغة حيث يقول: إن اللغة في جيبوتي (الدولة المنتسبة إلى عضوية الجامعة العربية) هي الفرنسية، ولكن حكامها والقبائل فيها لم يعادوا يومًا لغة الضاد، ولا اللهجات الطالعة من رحمها. وباتت السلطة الرسمية الجيبوتية تدرسها اليوم وبكثافة ملحوظة، من باب الحفاظ على الهوية والكيان، وتمهيدًا لتحل محل الفرنسية في الشؤون الرسمية والإدارية لاحقًا، من غير إقصاء طبعًا للفرنسية كلغة ينبغي أن يتعلمها من يريد من الجميع. والمعروف أن جيبوتي مؤلفة من قبيلتين عربيتين مركزيتين هما العفر والصومالية، وفي البلد أيضًا مواطنون من أصول فرنسية وإيطالية وألمانية، فضلًا عن أفارقة أثيوبيين واريتريين... والكل لا يتخذ موقفًا عنصريًا من اللغة العربية ولا من اللهجات القبائلية المحلية... ويعرف الجميع في جيبوتي اليوم أن الاستعمار الفرنسي حاول ضرب الشخصية الثقافية والدينية واللغوية للجيبوتيين، لكنه لم يفشل فقط، بل جعل من سياسته الكيدية تلك سببًا إضافيًا لكي تنتشر أكثر «لغة» العربية الصومالية ومعها تاليًا «لغة» عفار. ولربما كان على كل مسؤول جنوبي سوداني أن يقتدي بتجربة جيبوتي في هذا المقام. فلا يستعدي جزءًا كبيرًا من مواطنيه بإقدامه على الإلغاء الممنهج للغة العربية في بلاده، أو يتجاهل حقوق المسلمين من مواطنيه في شعائرهم وشخصيتهم الدينية والثقافية والحضارية، خصوصًا أن قادة «الحركة الشعبية لتحرير السودان» كانوا أعلنوا للجميع، انهم رجال دولة ديمقراطية علمانية ستتيح لجميع المواطنين حرية التعبير والرأي والمعتقد... إلخ. وعلى الدولة السودانية الحديثة العهد إذا أرادت أن تنهض بقوة وثبات وسلاسة، أن تتعامل مع جيرانها، وفي المقدمة منهم الدولة الأم، بقدر من التفاهم على الملفات العالقة وتلك التي ستستجد بالتأكيد.. ومنها الملف الثقافي الذي لا يستهان به. سياسات ضارة ولعلَ التحدي الذي تواجهه جمهورية جنوب السودان الجديدة هو كيفية تفادي النزاعات الانقلابية والانفصالية في البلد الأم الذي انفصلت عنه. ويقصد هنا بالتحديد متمردو دارفور، حيث يقال صراحة إن رموزًا في «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، ما زالت تنسق حتى اللحظة مع زعماء متمردي دارفور من أمثال عبدالواحد نور، وخليل إبراهيم، وغيرهما من الذين لا يجاهرون بسعيهم لتقويض بلدهم السودان الشمالي فقط، بل يتعاونون بذلك مع ألد أعداء السودان والعرب: إسرائيل. يقول عبدالواحد نور: «زرت إسرائيل بهدف مقابلة المئات من أعضاء حركة تحرير السودان هناك وشاركناهم في حوار مهم حول التنظيم والمكتب في إسرائيل والقضية السودانية». وعندما سُئل عن التطبيع مع إسرائيل أجاب بالحرف الواحد: «التطبيع نوعان، ثمة تطبيع اجتماعي، وللعلم فالسودانيون الموجودون في إسرائيل هناك منهم من تعلم اللغة العبرية ومن دخل الجامعات والبعض فتح المطاعم والمتاجر، وتزوج من إسرائيليات، بمن فيهم القادمون من الشمال النيلي... أما التطبيع الثاني فهو سياسي، ونحن معه، وسوف نفتح سفارة إسرائيلية في الخرطوم مقابل فتح سفارة لنا في تل أبيب، لأن السياسة والواقع يفرضان علينا ذلك». ثم إن سلفاكير ميرديت نفسه رئيس دولة جنوب السودان كان قد قال كلامًا صريحًا في خطاب احتفاله بالاستقلال، أكد فيه دعمه لمتمردي دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، الأمر الذي استفز حزب المؤتمر الحاكم في الخرطوم، وجعله يُصدِر ردًا ينم عن امتعاض شديد من الرئيس الجنوبي الذي بدأ يتدخل في شؤون دولة شمال السودان من أول الطريق. كما أكد سلفاكير دعم دولة جنوب السودان لجبهة البوليساريو ممثلةً بعبدالعزيز المراكشي في أثناء وجود هذا الأخير في احتفالات إعلان استقلال جمهورية جنوب السودان، ما أغضب الجانب الرسمي المغربي. واعتبره تدخلًا غير مقبول أيضًا بالشؤون الداخلية للمملكة المغربية. مثل هذه السياسات صراحة لا تخدم حاضرًا ولا مستقبلًا دولة جنوب السودان، خصوصًا أنها لم تبدأ بعد بتدشين آليات عملها كدولة حديثة، ينبغي أن تراكم تجارب حيادية في العلاقات مع الخارج، وأن تنصرف إلى بناء الداخل وتحدياته.. على الأقل من باب إثبات الوجود وحل الملفات العالقة مع الشمال، وفي مقدمها النزاع على النفط في منطقة «أبيي». جدير بالذكر أن أهل الجنوب ليسوا كلهم مع الانفصال، بل ان قطاعًا واسعًا من المواطنين الجنوبيين لا يزال يؤيد استمرار الوحدة مع الشمال، الأمر الذي يؤدي، فيما إذا أقدمت دولتهم الجديدة على توطيد علاقاتها السياسية والثقافية مع الدول الأفريقية الأخرى غير العربية، من ضمن ما يسمى سياسة الأفرقة الخالصة، فإن هذا يحمل خطر قيام صراعات سياسية وثقافية وحروب أهلية بين القبائل الجنوبية لا حصر لها، وخصوصًا هنا بين قبيلة «الدينكا»، أكبر قبائل السودان (3 ملايين نسمة وتسيطر على مقاليد الحكم في الجنوب)، وبين قبائل أخرى متعددة الانتماءات العرقية والدينية من مثل الجور والرونق واللاتوكا والتبوسا والباريا وغيرها من قبائل كثيرًا ما دخلت في صراعات وحروب سابقة مع قبيلة «الدينكا». صراع هويات ويختتم التقرير قوله: ان الوضع الداخلي في دولة جنوب السودان ليس ورديًا كما قد يتصور البعض، وليس هو بالتالي مرشحًا للاستقرار إذا لم تكرس حكومة سلفاكير نفسها لخوض سياسات متوازنة بين قبائل الداخل ودول الخارج. فسياسة الأفرقة الخالصة على حساب دولة شمال السودان ذات التوجهات العربية- الإسلامية مثلًا (وسائر الدول العربية والإسلامية في إفريقيا وخارجها مثلًا) سوف لن تفيدها بالتأكيد، وستتركها دولة جديدة عرضة لنزاعات وحروب لا نهاية لها. باختصار إذًا، وعلى الرغم من قيام دولة الجنوب، فإن الصراع بين الشمال والجنوب مرشحٌ للتفاقم في السودان. وهو في جوهره صراع «هويات» اثنية ودينية يغذيه الخارج الاستعماري الغربي، ومعه إسرائيل بالطبع، بهدف تقسيم السودان، ليس إلى دولتين فقط، بل إلى ست دول متناحرة متنابذة فيما بينها، وبما يهدد ذلك كله بالطبع، الأمن الاستراتيجي العربي، وبخاصة لمصر المجاورة، ومعها دول الشمال الإفريقي العربي.. والسؤال الآن: هل ستنضم جمهورية جنوب السودان إلى عضوية دول الجامعة العربية؟ عن هذا السؤال يجيب بالتأكيد المواطنون الجنوبيون السودانيون من خلال ممثليهم في السلطة.. كما تجيب عنه طبعًا الجامعة العربية نفسها، والتي تمر بظروف كيانية صعبة.