تبدأ "الحياة" اليوم نشر حلقات أربع من كتاب جديد لنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، يصدر قريباً في عنوان "النظام العربي المعاصر: قراءة الواقع واستشفاف المستقبل"، وهو يتناول الوعي القومي العربي في بواكيره الأولى وتطوراته، ويناقش مدى تقدير القوميين لوضع الاقليات ولموقع الدين الاسلامي من العروبة، ويتناول النظام العربي الراهن كما يتجسد في جامعة الدول العربية، انطلاقتها ومسارها المتعثر، ويتابع وضع النظام العربي في مرحلة الحرب الباردة وآفاق المشروع القومي العربي في ايامنا الحاضرة. وعلى صعيد الصراع مع اسرائيل يمهد عبدالحليم خدام بشرح المشروع الصهيوني وموقف العرب منه ليفصّل الحديث في الصراع العربي الاسرائيلي، كما ظهر ويظهر في حرب اكتوبر 1973 وفي تحرير جنوبلبنان والانتفاضة الفلسطينية المستمرة. في حلقة اليوم نظرة نقدية على الفكر والنظام العربيين في تجلياتهما المختلفة. أليس مؤلماً أن يكون الوعي القومي في عقد الثلاثينات من القرن العشرين، الذي كانت ظروفه أكثر صعوبة بسبب الاستعمار والتخلف والجهل والفقر، أكثر وضوحاً والتزاماً مما نحن عليه الآن...؟ وهذا الأمر ذو دلالة واضحة على تراجع الوعي القومي ومفاعيله في نهاية القرن العشرين مما كان عليه في الثلث الأول منه، وهذه ظاهرة سلبية تشير الى ضعف عام في البنية السياسية العربية الرسمية والشعبية والى تآكل في بنية الأمة يشكل خطراً قاتلاً عليها كلها. تأسس في عقد الثلاثينات عدد من الأحزاب التي أسهمت في نشر الوعي القومي ومنها حزب النداء القومي وعصبة العمل القومي وغيرها وقد لعبت هذه التشكيلات القومية من دون شك دوراً هاماً في التعبير عن الذات العربية ومنطلقاً لنشر الوعي القومي ومقاومة الاستعمار. ورغم أنها كانت منطلقاً لليقظة العربية لكنها لم تتحول الى يقظة كاملة للأسباب التالية: 1 - كانت الدعوة القومية التي أطلقتها النخبة عبارة عن حركة ثقافية أقرب الى أندية فكرية منها الى تنظيمات سياسية لها قواعدها وتنظيماتها المنتشرة في أوساط الجماهير ولها برامجها وآلية نضالها. 2 - لم تأخذ تلك التشكيلات بالاعتبار متطلبات الواقع والحاجة الى الالتحام مع الناس وتبني قضاياهم والتعامل معها. 3 - لم تأخذ تلك التشكيلات المبادرة لقيادة النضال الشعبي رغم أنها كانت تشكل جزءاً مهماً من التكوين النضالي في بلدانها تاركة قيادة العمل السياسي في مواجهة الاستعمار لشخصيات وتنظيمات كانت تتمتع بقدرة أكثر واقعية في التعامل. 4 - والثغرة الهامة في ما أطلقته هذه التشكيلات من مبادئ ومناهج هي أنها لم تدرس الواقع الإثني في الوطن العربي الذي يتميز بوجود أقليات قومية لا تتكلم العربية شريكة للعرب في تاريخهم وثقافتهم وحضارتهم وقيمهم سواء في مغرب الوطن العربي أو مشرقه، واستمرت التنظيمات القومية العربية الأخرى بعد عقد الأربعينات في تجاهل هذا الوضع. إن الوعي القومي العربي مسألة جوهرية للإحساس بالذات والحفاظ على الهوية ولا ينبغي أن يتناقض مع وجود أقليات قومية أو ثقافية أخرى في الوطن العربي، ومن ثم لا يعيق إمكانية تعميق رابطة المواطنة المرتكزة على الانتماء للوطن وعلى التاريخ والثقافة المشتركة في كثير من جوانبها، وإذا لم نفعل ذلك فإننا نكون من حيث لا نريد قد ساعدنا على تمزيق وحدة الأمة بعربها وبأقلياتها القومية والثقافية الأخرى. 5 - لم تستوعب تلك التشكيلات القومية دور الدين في حياة الشعوب متأثرة بمفاهيم النهضة القومية في أوروبا من جهة، وبقراءة خاطئة للدين والتراث والتاريخ وبمفاهيم وسلوك بعض رجال الدين أو بعض التنظيمات الدينية من جهة أخرى. وكان يجب التمييز بين الدين وما يحمل من قيم ومبادئ وبين التعصب الناتج عن انغلاق العقل ونقص الوعي الديني وفقدان التوازن والجهل بإدراك حقائق الحياة. ولا شك أن استخدام الدين وسيلة في الصراعات السياسية أمر بالغ الخطورة، نظراً لأن الناس في بلادنا متدينون، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين ومن ثم فإن إثارة المشاعر الدينية في سبيل تحقيق هدف سياسي أمر بالغ الخطورة وقد ألحق بالعرب والمسلمين أضراراً كبيرة خلال قرون من الزمن. كان الإنكليز سباقين لإثارة المشاعر الدينية في شبه القارة الهندية ليسهل تمكنهم من تلك البلاد، كما استخدم الغرب الإسلام في مواجهة الشيوعية بعد ثورة اكتوبر تشرين الأول /1917/ بذريعة ان الشيوعية كفر وإلحاد. وإذا كانت بعض القوى السياسية العربية استخدمت الدين لأغراض سياسية، وأن بعض القوى الدولية لجأت الى الأسلوب ذاته، فإن ما يعاب على القوى القومية ردة فعلها التي أظهرتها وكأن صراعها ضد الدين وليس ضد الذين أساؤوا استخدامه، وتجاهلت أن الأمة العربية جسد روحها الدين الإسلامي كما عبر عن ذلك ميشيل عفلق أحد مؤسسي حزب البعث. إذاً كان ينبغي أن يكون نهج القوى القومية والوطنية التركيز على تعارض الدين مع أولئك الذين أساؤوا استخدامه، وفي الوقت نفسه، كان ينبغي أن تدرك دور الإسلام الأساس، في نهوض العرب وتأسيس حضارتهم وثقافتهم، وأن تنطلق من أن الدين الإسلامي أو المسيحي عقيدة للمؤمنين. فالإسلام ثقافة للمسيحي العربي، والمسيحية ثقافة للمسلم العربي، وأن المشكلة ليست في الإيمان وإنما في الجهل الذي يغلق العقل ويلغيه ويولد التعصب وعندئذ يسهل استخدام المتعصبين. كان على النخب القومية التعامل مع مسألة الدين لا من منطق التعارض وإنما من منطق فهم الواقع الإجتماعي والثقافي والتاريخي وإدراك عمق الروابط بين المواطنين وبين الدين وبين العرب والإسلام، وعندما يتعلق الأمر بالإيمان فإن التعامل يجب ألا يكون بسلوك السبل التي تبعد الجماهير عن مصالحها. عندما وقع التعارض بين بعض النخب القومية وبين أولئك الذين عملوا على توظيف الدين في الصراعات والنزاعات السياسية، كانت القوى القومية تتحمل عبء مواجهة الاستعمار من جهة ومشاريعه من جهة ثانية فضلاً عن أعباء التخلف، وكانت أكثر حاجة لأن تحشد جماهيرها المتدينة في صفوف مناضليها لا أن تتعارض معها. وهذا ما عبر عنه الأستاذ ميشيل عفلق في محاضرته بمناسبة ذكرى الرسول العربي التي بلورت فهماً موضوعياً للإسلام وموقعه ودوره في حياة العرب ونهضتهم. وكان على بعض القوى القومية أن تدرك الدور الذي لعبه الإسلام في مقاومة الاستعمار الغربي في جميع أرجاء الوطن العربي. إن عدم وضع مسألة الدين في موقعها الصحيح أدى الى خسارة كبرى للقوى القومية والتقدمية من خلال خسارة أهم وسيلة إعلام في تلك المرحلة وهي المسجد الذي ترك في معظم الأحيان لأشخاص أو قوى وظفته بنشر مفاهيم وفقاً لمصالحها السياسية، سيّست من خلالها الدين وحولته الى وسيلة للوصول الى السلطة وتحقيق المصالح.... في مطلع عقد السبعينات، وبعد الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس حافظ الأسد تبنت سورية سياسة قومية مبنية على قاعدتين، الأولى ربط الصراع العربي - الإسرائيلي بالمصير العربي، والثانية العمل لتحقيق مناخ عربي ينمو في ظله التعاون والتضامن لبناء وضع عربي جديد... وخلال الأشهر الأولى من عام /1971/ أعادت سورية علاقاتها الطبيعية مع جميع الدول العربية وفي ذهن قيادتها أن الحرب مع إسرائيل بحاجة جوهرية الى تضامن العرب ومساندتهم. كان التوجه الرئيس باتجاه مصر فهي الشريك المباشر في الحرب ونجحت قيادتا البلدين في الإعداد لحرب تشرين. وفي الوقت الذي ركزت فيه سورية جهدها نحو مصر كانت قيادتها تدرك أهمية كل من العراق والسعودية باعتبارهما من دول الطوق العربي حول فلسطين. بدأت في تلك المرحلة يقظة عربية جديدة غذتها حرب تشرين ولكن سرعان ما تبين أن تلك اليقظة كانت ومضة سرعان ما انطفأت مع اندلاع الاختلاف السوري - المصري بسبب لجوء مصر الى اتفاقية فصل القوات مع إسرائيل، ما لبث هذا الاختلاف أن اتسع بين حكومتي البلدين الى درجة ما قبل القطيعة. لا شك أن الاختلاف المصري - السوري أدى الى إحباط النهوض العربي ولا سيما في المشرق العربي نظراً لأهمية تعاون القطرين في مراحل التاريخ العربي والإسلامي المختلفة دفاعاً عن الأمة. بعد انطفاء تلك الومضة في مطلع عقد السبعينات سار العرب بخطا متسارعة عكس اتجاه التاريخ وعكس مصالحهم، ولا شك أن السمة الأبرز في هذا المسار هي أنه كان يعكس طبيعة النظام العربي السياسي وطبيعة الأنظمة الحاكمة العربية التي اختارت العزلة القطرية والانكفاء منهجاً لها متوهمة أنها بذلك تستطيع أن تحمي نظمها وأن توفر الأمن والاستقرار. ومن اللافت أن بواكير الوعي القومي التي انطلقت في مطلع القرن العشرين وازداد توهجها في النصف الأول من ذلك القرن قد تراجعت منذ سقوط الجمهورية العربية المتحدة في أيلول سبتمبر عام /1961/ وتسارع هذا التراجع بعد نكسة حزيران يونيو. عندما تتعرض الأمم للنكبات والتحديات تتماسك لتواجه نكباتها وتصمد في وجه الأخطار، إلا أن العرب مارسوا عكس ذلك في النصف الثاني من القرن العشرين. وكان لسياسات معظم الأقطار العربية وممارساتها والإمعان في عزل شعوبها عن المشاركة في الحياة السياسية وفي الرقابة والقرار دور خطير في الانحدار الى حالة الإحباط لدى الرأي العام العربي. لم يجد المواطن العربي مبررات مقنعة للسياسات الرسمية في ما يتعلق بطبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي، وحالة التفكك في مواجهة إسرائيل وقوى الهيمنة الكبرى التي تهدد أمته. ولم يعرف لماذا تعقد حكومة عربية سلاماً مع إسرائيل في الوقت الذي تواصل فيه احتلالها أراض عربية أخرى وتمارس أسوأ أنواع العنف ضد الفلسطينيين وتغلق الأبواب أمام السلام؟ لماذا تبحث حكومة هذا القطر عن الخلاص في ظل الارتماء في جحيم القوى الكبرى؟ ولماذا نجحت الدول الأوروبية في إقامة الاتحاد بين أمم خاضت حروباً عديدة في ما بينها بينما لم يفلح العرب في السير خطوة نحو تطبيق اتفاقية الوحدة الاقتصادية التي وقعت قبل الاتفاقية الأوروبية بعام؟ لماذا هذا الخلل في الإدارات القطرية وفي النظام العربي العام؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير كان يطرحها المواطن في كل أصقاع الوطن دون أن يحصل على جواب مقنع. ساهمت مثل هذه الأسئلة التي عجزت الحكومات والأحزاب السياسية عن صياغة الردود المقنعة عليها في الإحباط القومي. هل الحالة العربية الراهنة حالة دائمة؟ هل سيستعيد العرب وعيهم القومي فيستعيدوا احترام ذاتهم قبل أن يحترمها الآخرون؟ هل ستشهد الأمة ولادة حالة عربية أكثر وعياً لذاتها ومصالحها وحقوقها؟ أليست التحديات والأخطار التي تهددها كافية لإحداث صدمة كبرى لاستعادة الوعي...؟ إن ما يدعو الى بعض التفاؤل هو ردود الفعل الشعبية في جميع أرجاء الوطن ضد العدوان الإسرائيلي الوحشي على الشعب الفلسطيني بعد أيلول /2000/ والذي تصاعد عندما تحولت الانتفاضة الى حركة تحرير مسلحة. ولكن ردود الفعل هذه لم تخرج عن إطارها الموقت والراهن كرد فعل آني على الأحداث، ولم تتحول الى فعل مؤثر في القرار العربي وفي السياسات العربية. إن تحويل رد الفعل الى فعل مؤثر ومتواصل هو ما تحتاجه الأمة اليوم، ومسؤولية ذلك لا تقع على الحكومات لأن معظمها غير قادر على الفعل في ظل قرارها المسلوب لكن المسؤولية تقع بصورة رئيسية على المفكرين والأحزاب والمنظمات وعلى السياسيين الذين عليهم اختراق جدار الخوف ليصبحوا قادة حقيقيين لشعوبهم كي تستعيد حقوقها وتمارس دورها. لا أستطيع أن أعطي إشارة من التفاؤل بالنظام العربي الراهن الذي ساهم بإفراز ما تعانيه الأمة من آلام، ولكن التفاؤل يأتي من الإيمان بالشعوب التي من المستحيل مصادرة إرادتها. ومن الطبيعي القول: إن حركة عربية تبادر لتحويل ردود الفعل الى فعل ستواجه أول ما تواجه إفرازات النظام العربي الراهن. وفي صراع مثل هذا الصراع ستتمكن الأمة من شق طريقها نحو مستقبل أفضل. ومن النتائج الخطيرة لحالة الإحباط السائدة في الساحة العربية إفراز منظمات متطرفة في عدد من الأقطار العربية، وهذا الإفراز المتطرف هو رد فعل للتطرف في النظام العربي الذي لم يضع قواعد للنهوض والتقدم وتأكيد المصالح القومية المشتركة.... إن طبيعة النظام العربي الراهن هي أحد الأسباب الرئيسة في الحالة العربية الراهنة. وظروف تأسيسه وتطبيقاته تقدم صورة واضحة عن مواقع الخلل وتجيب عن الكثير من التساؤلات وتساعد على رسم طريق جديدة لنظام عربي جديد. والمقصود بالنظام العربي ميثاق جامعة الدول العربية وما انبثق عنه من معاهدات واتفاقات تحكم العلاقات العربية وفق ما ورد في نصوصها.... نصت المادة الثانية من الميثاق على ما يلي: "الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها وكذلك من أغراضها تعاون الدول المشتركة فيها تعاوناً وثيقاً بحسب نظام كل دولة فيها وأحوالها في الشؤون التالية.....". لم ينطلق الميثاق من أهداف وحدوية ولم يؤسس للوصول الى تحقيق شراكة عربية بل قام على تبادل المصالح بين الدول العربية، وقد ركزت المادة الثانية على الثوابت التالية: 1 - الاستقلال والسيادة هما الأساس الثابت وبالتالي فإن أي عمل أو اتفاق يؤدي الى تنازل عن جزء من سيادة الدولة القطرية لمصلحة السيادة القومية أو ما يمكن أن نسميه الشراكة العربية أمر غير وارد. 2 - الهدف كما ورد في نص المادة الثانية هو التنسيق والتعاون ليس بهدف الوصول الى مشروع عربي واحد وإنما خدمة لأغراض الدول ومصالحها التي قد تكون متعارضة، وهذا أمر طبيعي في ظل التمسك بالدولة القطرية ويبقى التعارض هو الأساس الذي يرتكز عليه قرار الدولة لأنه مبني على مصالحها وليس على الوفاق وخاصة إذا كان يتعارض مع مصلحة هذه الدولة أو تلك. 3 - إن التعاون والتنسيق في إطار المصالح يمكن أن يقوم بين دول لا تربطها علاقات قومية ولا يكفي لتحقيق الربط بين دول تشكل أمة واحدة. لقد وصف السيد فارس الخوري رئيس الحكومة السورية آنذاك بتاريخ 31/3/1945 في بيانه أمام المجلس النيابي بدقة الميثاق بالكلمة التالية: "إن المباحثات والمشاورات التي تقدمت هذا الميثاق في الإسكندرية وما تلاها من اجتماعات في القاهرة، والتي أنتجت هذا الميثاق، قامت كلها على قواعد، القاعدة الأولى لجمع كلمة البلاد العربية المستقلة على أساس التعاون الوثيق لا على أساس الوحدة المركزية وكلكم يقدر الأسباب التي حملت الذين وضعوا هذا الأساس وهذه القاعدة على قبولها خطوة أولى لهذا العمل فلا حاجة لي للتوسع فيها وذكرها بصورة مطولة. أما القاعدة الثانية التي بنوا عليها مشاوراتهم وهذا الميثاق هي قاعدة الحرية واحترام السيادة والاستقلال لكل دولة داخل هذا الميثاق وقد تفرع عن هذه الناحية كل ما رأيتم في هذا الميثاق من وسائل النقد والتضعيف لترك الحرية واحترامها لكل من الدول المشتركة في هذا الميثاق. والذي جعلنا وجعلهم قبلنا أن يقبلوا هذه القاعدة هو أن الإجبار والإكراه لا تقوم له قائمة في اتحاد البلاد العربية بل يجب أن تقوم على الحرية والمنفعة فقط. فالدولة التي تجد لنفسها مصلحة ومنفعة في الاشتراك بهذا الميثاق هي التي تقبله. والقاعدة الثالثة قبول الدول المستقلة، وقد جعل الاستقلال شرطاً، وهذا الشرط طبيعي ومقبول جداً لأن الدولة التي تدخل مع غيرها بمعاهدات وتعهدات يجب أن تكون لديها القدرة الكافية على تنفيذ ما تعهدت به...". ولا بد من الإشارة الى أن جميع القرارات العربية والمعاهدات والاتفاقات التي تم توقيعها وتصديقها في إطار الجامعة كانت مشلولة بسبب ما أعطاه الميثاق للدولة القطرية من حق تعطيل أي قرار تحت ذريعة السيادة. وأستشهد بمادتين من معاهدة الدفاع المشترك لنرى كيف يجري التعامل مع الأمور الجدية باستخفاف من قبل الحكومات العربية دون الأخذ بالاعتبار التزاماتها ولا المصالح القومية لجميع الأطراف العربية. نصت المادة الثانية من معاهدة الدفاع المشترك على ما يلي: "تعتبر الدول العربية المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قواتها المسلحة اعتداء عليها جميعاً، ولذلك فإنها عملاً بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن كيانها تلتزم بأن تبادر الى معونة الدولة أو الدول المعتدى عليها وبأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة جميع التدابير وتستخدم جميع ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء ولإعادة الأمن والسلام الى نصابهما". واذا استعدنا تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي منذ نشوئه وحتى اليوم نتساءل عن مكانة وموقع الالتزام بما ورد في هذه المعاهدة... لقد تعرضت فلسطين للعدوان والاحتلال، وفي حزيران /1967/ تعرضت للعدوان كل من مصر وسورية والأردن، وفي عام /1978/ تعرض له لبنان، وفي حزيران عام /1982/ تعرض لبنان ثانية للاجتياح الإسرائيلي حيث احتلت إسرائيل لأول مرة عاصمة دولة عربية. حاولنا في تلك الفترة الدعوة الى مؤتمر قمة عربية لبحث العدوان على لبنان واتخاذ القرارات الملائمة، فلم تتجاوب أكثرية الحكومات العربية، ثم دعونا الى اجتماع لوزراء الخارجية العرب في تونس وأخفقنا في إصدار بيان ذي مغزى لدعم لبنان. لا يعني الالتزام فقط المشاركة العسكرية - فهذه كانت معدومة على أي حال إلا في حرب تشرين من خلال مشاركات رمزية عسكرية لبعض الأقطار العربية - وإنما يعني بناء عناصر القوة العربية في كل مجالاتها ولا سيما أن العدوان لم يكن حالة طارئة بل حالة مستديمة. لقد نصت المادة العاشرة من المعاهدة على ما يلي: "تتعهد كل دولة من الدول المتعاقدة بألا تعقد أي اتفاق دولي يناقض هذه المعاهدة وبألا تسلك في علاقاتها الدولية مع الدول الأخرى مسلكاً يتنافى مع أغراض هذه المعاهدة". وبعد بضع سنوات من إقرار معاهدة الدفاع العربي المشترك وقعت الحكومة العراقية على معاهدة الحلف المركزي الذي ضم كلاً من العراق وإيران وتركيا والباكستان وبريطانيا وعرف بحلف بغداد "للدفاع عن المصالح الكونية للغرب في مواجهة الاتحاد السوفياتي وانتشار الشيوعية ولتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة"، كما ورد في المعاهدة. وكانت جميع الأهداف التي نص عليها ميثاق الحلف تتعارض مع مصالح الدول العربية كلها، لأنها وضعت العراق في مواجهة مع الدول العربية التي ترفض الهيمنة الغربية ولأن الحلف عزز المصالح الأجنبية مع احتمال توريط العراق في حروب قد تكون ضد بعض الأقطار العربية أو في حروب مع قوى دولية أخرى، في الوقت ذاته الذي كان الغرب يقدم فيه كل أشكال العون لدعم إسرائيل الناشئة حديثاً. أما الحدث الآخر الأكثر خطورة في هذا السياق فهو توقيع الرئيس المصري أنور السادات معاهدة صلح مع إسرائيل في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تحتل أراضي عربية وفي حالة حرب مع جميع العرب. وكان المبرر المعلن لتوقيع معاهدة مع العدو ونقض معاهدتها مع الأشقاء هو تحقيق سيادة ومصالح مصر على حساب الأشقاء. تبع الأردن مصر عام /1994/ فوقع معاهدة وادي عربة، كما سبقته منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت مع إسرائيل إتفاقية أوسلو عام 1993 متذرعة بالقرار الوطني المستقل. أليس كل ذلك من إفرازات النظام العربي الذي تأسس على رعاية وحماية المصالح القطرية الضيقة على حساب المصالح القومية؟ أليس هذا النظام نفسه اعتبر حق السيادة فوق كل الحقوق فاستخدم ضد العرب ولمصلحة أعدائهم؟ ألم يعطل حق السيادة القطرية جميع القرارات العربية؟ أين معاهدة الدفاع المشترك؟ أين اتفاقية السوق العربية المشتركة؟ أين اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية؟ وهذه جميعاً اتفاقات جرى التصديق عليها في كل دولة وفق أصولها الدستورية ومع ذلك لم تنفذ. يبدو أن السبب في ذلك يعود الى أمرين: الأول: الاغتراب عن الوحدة العربية وعن مصالح الأمة مجتمعة أضعف الدولة القطرية وسهل خضوع حكوماتها للضغوط الأجنبية ولضغوط أصحاب المصالح في القطر، وما من شك أن لا مصلحة للأجنبي في وحدة العرب أو تعاضدهم وتضامنهم، وليس لأصحاب المصالح الضيقة في هذا القطر أو ذاك وهم يتحكمون بموارد البلاد ومؤسساتها أن تسير الدولة نحو إقامة شراكة عربية. الثاني: ميثاق الجامعة لم يضع أفقاً لتطور العلاقات العربية على أساس إزالة التناقضات والعقبات أمام نمو هذه العلاقات، كما أنه لم يأخذ بالاعتبار الأوضاع القائمة في الساحتين الإقليمية والدولية والتطورات المحتملة في الساحة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. بعد سنوات قليلة جرت محاولات لمعالجة بعض الثغرات فتم التوقيع على معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي واتفاقية السوق العربية المشتركة واتفاقية الوحدة الاقتصادية واتفاقية العلوم والتقانة وغيرها، إلا أن هذه الاتفاقات لم ينفذ معظمها وما جرى تنفيذه كان في إطار محدود. وفي تقديري أن الدوافع للقبول بهذه الاتفاقات هي ضغوط الرأي العام العربي والخوف من التطورات الدولية والاقليمية، ومع ذلك فإن ما تم انجازه هو أقل من حاجة الأمة وطموحاتها بكثير لأن ما نفذ لم يكن متعارضاً مع المصالح القطرية من جهة ولا يشكل تهديداً للأطماع الأجنبية من جهة أخرى. ومع ازدياد عدد الدول الأعضاء في الجامعة العربية ضعف الأمل في تحقيق تطور جذري في بنيتها وميثاقها، وذلك لازدياد عدد أصحاب المصالح في استمرار الأوضاع القائمة من جهة وللدور المباشر الذي لعبه الأجنبي في بذر الخلافات والانشقاقات بين هذه الدولة وتلك من جهة أخرى. ولعل ما ساعد في نمو الخلافات وانتشارها نمو حجم المصالح والموارد في عدد من الأقطار العربية وافتقار الجامعة الى آليات لحل الخلافات وتجنب تحولها الى صراع مسلح في بعض الأحيان. هناك سؤال كبير لا بد من التمعن فيه وهو: لماذا توجد في حالة توتر دائم العلاقات الثنائية بين كل دولتين عربيتين متجاورتين؟ والأمثلة على ذلك كثيرة: بين الجزائر والمغرب أدى التوتر الدائم في مرحلة الى صدام مسلح، بين ليبيا وتونس، بين ليبيا ومصر حيث وقع صدام مسلح في عهد الرئيس السادات، بين مصر والسودان، بين سورية والأردن، وسورية والعراق، ولبنان وسورية، بين المملكة العربية السعودية واليمن، وبينها وبين قطر، بين قطر والبحرين، بالإضافة الى الحرب التي وقعت بين شطري اليمن قبل الوحدة، وأخيراً بين العراق والكويت. إن مئات البلايين من الدولارات أنفقت على شراء أسلحة لا من أجل التصدي للعدوان الإسرائيلي وإنما من أجل مواجهة النزاعات بين هذا القطر وذاك؟ إن السبب الرئيس لكل هذه المنازعات العربية - العربية هو عدم تأسيس النظام العربي على قواعد وإنما على أساس تكريس المصالح القطرية، والمصالح الضيقة تشرع الأبواب أمام كل الاحتمالات!... لماذا لم تضع الحكومات العربية آلية للعمل العربي حتى في أضعف حالاته التي نص عليها ميثاق الجامعة العربية والاتفاقات والقرارات العربية الأخرى؟ أشرت الى بعض الأسباب في ما تقدم ولكن السبب الرئيس هو حجم المصالح التي تتحكم في قرارات الحكومات القطرية حيث لا علاقة لقرار الحكومة القطرية أحياناً بمصالح البلاد وإنما بمصالح أفراد يتحكمون بالقرار السياسي، وهكذا يصبح للتداخل بين مصالح الأفراد والقرار السياسي أسوأ الآثار على المسار العربي العام. والى جانب كل ذلك كان الإيمان بوحدة المصير العربي قد غاب عن عقول الذين تحكمت فيهم المصالح الضيقة أو الإملاءات الخارجية، ولذلك كانوا يكثرون من الحديث عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين في الوقت الذي كان سلوكهم يأخذ منحى آخر يتناقض مع الشعارات التي تطلق. إن الإيمان الحقيقي هو الذي يحول الحدث الى قضية، والسلوك الى نضال يومي لخدمة هذه القضية وهذا ما افتقدته الساحة العربية الرسمية في كثير من المواقع. والظاهرة الأخرى اللافتة تتمثل في القراءة الخاطئة للتطورات الدولية وحجم انعكاسها على المصالح العربية الراهنة والمستقبلية والتصرف خارج السياق التاريخي للأحداث مما زاد الهوة بين العرب والأمم الأخرى.