برزت خلال الأسابيع القليلة الماضية أحداث عدة ذات مدلولات مهمة ترتبط بخلفيات تاريخية ومصيرية منها ما شكل غيوماً داكنة في الأفق العربي، ومنها ما فتح ملفات مقلقة، ومنها ما أظهر ايجابيات يمكن البناء عليها لتصحيح مسار العرب والعودة عن الأخطاء المتراكمة منذ مطلع القرن حتى يومنا هذا. هذه الملفات لم يعد من الممكن التغاضي عنها أو تجاهلها في ظل الهجمة الصهيونية الشرسة التي عملت على إثارة الفتن والنعرات الدينية والطائفية والعرقية وشق الصفوف العربية وتخريب النسيج الاجتماعي الفريد الذي تميز به العرب على امتداد العصور، وكان مثالاً يحتذى في التعايش والتساكن ونبذ العنصرية والتفرقة وإشاعة أجواء التسامح خصوصاً في عصور النهضة الذهبية. وعلى رغم افتضاح أمر سياسة التفتيت ومؤامرات التقسيم التي اعتمدها سيئ الذكر هنري كيسنجر وفق الروزنامة أو الأجندة الصهيونية التي قامت على أساسها دولة اسرائيل فإن من الخطأ تعليق كل المشكلات والأزمات والأخطاء العربية على شماعة اسرائيل وحدها... فكثير من هذه الأخطاء، أو الخطايا ارتكبت بأيد عربية، وكثير من الحروب والأزمات رفع فيها السلاح العربي، وكثير من المؤامرات نفذها ابناء جلدتنا، أو على الأقل كانوا أدواتاً أو ألاعيب في أيدي اللاعب الصهيوني، أو الأجنبي. فتحت هذه الأحداث العيون على الواقع وأكدت الحاجة الى فتح الملفات وبدء عملية تقويم للموقف وإفساح المجال أمام حوار بناء وموضوعي بعيداً من الحساسيات وصولاً الى عمل جدي من أجل ايجاد وسائل العلاج الشافي للمشكلات التي تواجه العرب هذه الأيام، وللأمراض المتفشية وبالتالي تحصين الجسم العربي بأسلحة المناعة القادرة على مواجهة المؤامرة الصهيونية الخطيرة ومواكبة المتغيرات العالمية ومخاطر العولمة ومتطلبات العصر اضافة الى حل المشكلات والأزمات الاقتصادية التي أسهمت في تفجير الكثير من الأوضاع بسبب الفقر والإهمال. الأحداث المعنية نلخصها بالآتي: زيارة البابا يوحنا بولس الثاني لسوريا والضجة التي رافقتها والمفاعيل التي ترتبت عليها ونجاحها في إبراز حقيقة التسامح الديني وواقع التعايش الحضاري بين المسلمين والمسيحيين والرد على الحملات المغرضة التي كانت تغفل عمداً الوجود المسيحي المتجذر في قلب المنطقة العربية وموقع المسيحيين في الكيان العربي كأبناء أمة وأوطان ومواطنين لا فرق بينهم وبين غيرهم. وقد أسهمت وسائل الاعلام الأجنبية والعربية في نقل صورة حية خلال الزيارة عن هذا الواقع وهيأت فرصة ذهبية لدحض المزاعم الصهيونية التي كانت تروج لنظرية صراع الحضارات وخطر الإسلام وتصوير ازمة الشرق الأوسط بأنها صراع ديني مع محاولة إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام لتضليل الرأي العام العالمي ومنع افتضاح الجرائم الاسرائيلية ضد المسيحيين الفلسطينيين ومحاولة تهجيرهم من مدنهم وقراهم وتدنيس مقدساتهم ولا سيما في القدس. تزايد الهجمة الصهيونية الشرسة ضد الشعب الفلسطيني في عهد حكومة آرييل شارون المتطرفة الأمر الذي سيؤدي الى إثارة الفتن وهز استقرار المنطقة وتزايد موجات التطرف بأشكاله كافة. اندلاع أعمال العنف في الجزائر ولا سيما في منطقة القبائل وتصاعد وتيرة الحديث عن أوضاع البربر ومطالبهم الخاصة بالهوية والثقافة واللغة الأمازيغية الأمر الذي يشكل تهديداً لوحدة الجزائر في حال عدم تعامل الحكم مع الواقع الجديد بحكمة وجدية وتسامح لمعالجة المطالب بمسؤولية لئلا تنتصر تيارات التطرف وتنجح الأصابع الأجنبية في تفتيت الأمة بعدما وصل البعض الى نفي عروبة الجزائر وفصم عرى الوحدة التاريخية بين العرب والبربر. ظهور حركات مشبوهة في الخارج ولا سيما في الولاياتالمتحدة تردد مزاعم عن حال الاقباط في مصر بهدف اثارة الفتن، وتوجت نشاطاتها بإيفاد لجنة تحقيق اميركية إلا أن حكمة القيادة المصرية أفشلت مهمتها وتم إحباط المؤامرة بفضل الوعي الكبير الذي تمت به معالجة الأمر ولا سيما من قبل بابا الأقباط شنودة المشهود له بالحكمة والوطنية والحنكة والمعترف له بخطوات تاريخية أعلنها مثل رفض التطبيع مع اسرائيل ومنع زيارة القدس ما دامت ترزح تحت نير الاحتلال الصهيوني. استمرار الخطط الدولية لتقسيم العراق الى مناطق طائفية وعرقية وتشجيع الأكراد على الانفصال عن الوطن الأم، فيما يستمر السجال السياسي في لبنان وهو في ظاهره يتعلق بالعلاقات اللبنانية - السورية، إلا أن "مخفيه" له أبعاد سياسية وطائفية تتمثل في اختلال التوازن أو فقدان الامتيازات نتيجة لعدم تنفيذ بنود اتفاق الطائف، ولا سيما بالنسبة لإلغاء الطائفية والاصلاح الاداري وسيادة القانون. هذه الأحداث في مجملها وفي تفاصيلها تمثل حال مخاض عسير، أو غليان مكبوت يطفو على السطح بين الآونة والأخرى ليطلق صفارات انذار لا بد من التقاط اشاراتها وفتح باب الحوار الموضوعي حول أبعادها ونتائجها وانعكاساتها من أجل البدء بالمعالجة الجدية وعدم دفن الرؤوس في التراب وسحب صواعق التفجير قبل فوات الأوان. ولا يختلف اثنان على أن الحل الأمثل لهذه الحال يكمن في الاعتراف بها أولاً ثم العودة الى الأصول، أي الى صيغة التسامح والتعايش الديني والطائفي والعرقي التي كانت سائدة قبل توغل الحال الصهيونية الآثمة في الجسد العربي، والتي عبرت عنها الخطة الكيسنجرية الخبيثة التي رسمت خارطة جديدة للمنطقة قوامها الدويلات الطائفية والعرقية الضعيفة والصغيرة والمتناحرة لكي يتم "شرعنة" وجود الكيان الصهيوني ليكون صاحب اليد العليا في المنطقة. ويخطئ من يعتقد ان هذه الخطة قد ماتت مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، فهي لم تكتمل فصولاً بعد وإن كانت تخمد وتختفي أحياناً لتعود وتظهر بأشكال مختلفة وأقنعة متجددة. وما تشهده الساحة العربية حالياً فيه دلائل كثيرة على صحة هذا التحليل، كما ان الحملات الاعلامية الأجنبية والصهيونية تركز على اثارة الفتن وتستجيب لها في بعض الأحيان أجهزة اعلام عربية عن جهل أو عن "تطوع" لغايات في نفس يعقوب. ولهذا لا بد أولاً من توافر أسباب الوعي والادراك لخطورة المرحلة وأهمية الأحداث المتلاحقة ثم العمل على توفير أسباب العلاج بالحكمة والتسامح والمحبة والديموقراطية والمساواة والعدالة حتى يشعر كل انسان على الأرض العربية انه مواطن حر لا فرق ولا تمييز بينه وبين أي مواطن آخر يعيش تحت سقف القانون. وفي العودة الى الأصول نجد أن العرف السائد يعمم هذه القيم وينبذ أية عنصرية أو طائفية أو تعصب تنفيذاً لتعاليم الشريعة السمحة التي لخصتها بقوله تعالى: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم". ولنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أكبر دليل على نهج التسامح والعدالة والمساواة والمحبة والسلام والتعايش الأخوي، ومن بين الأمثلة على القدوة الصالحة في نهج سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند دخوله الى القدس وتعامله الحضاري مع سكانها من خلال "العهدة العمرية" التي أعطت الأمان للمسيحيين ومقدساتهم، وعبر ممارساته العملية التي سار على نهجها القادة العرب عبر العصور. وكم نحتاج هذه الأيام لمؤسسة دراسات تبرز هذه النواحي المشرقة من التاريخ الاسلامي والعربي بموضوعية وصدق وباسلوب علمي يستند على الوثائق والمستندات التاريخية للرد على الحملات المغرضة التي تشوه وجه الاسلام وتاريخ العرب وتسامحهم وبالتالي للعمل على تعزيز الأواصر بين الأشقاء وحماية الوحدة الوطنية في الدول العربية وعلى صعيد الوطن العربي كله. ومن يتعمق في فصول هذا التاريخ يكتشف حقائق كثيرة تثبت وحدة نسيج المجتمع العربي عبر التاريخ ومساهمة أبناء كل الأعراق والطوائف في بناء الدولة من صلاح الدين الكردي الذي حرر القدس وهزم الصليبيين الى طارق بن زياد البربري الذي فتح الأندلس، الى المسيحيين العرب الذين جابهوا الحملات الصليبية جنباً الى جنب مع إخوانهم المسلمين وتعرضوا لحملات اضطهاد وقتل وتشريد من قبل هذه الحملات ونهبت ممتلكاتهم ودنست مقدساتهم تماماً كما يفعل الصهاينة هذه الأيام في القدس وبيت لحم والناصرة وكل شبر من أرض فلسطين الطاهرة، فيما يحاول الإعلام المغرض تغطية هذه الجرائم بإخفاء الوجود المسيحي تارة أو بالحديث عن الإرهاب الاسلامي تارة ثانية أو بإثارة الفتن بين المسلمين والمسيحيين تارة أخرى. وأذكر لهذه المناسبة انني اضطررت للرد على أضاليل صهيونية في ندوة أقيمت في لندن العام الماضي حول اضطهاد المسيحيين بتقديم دلائل وعرض وقائع دامغة عن حقيقة التعايش وأجواء التسامح بين المسلمين والمسيحيين عبر العصور الاسلامية وسألت الحاضرين عن مئات الكنائس والأديرة والمؤسسات المسيحية على امتداد الوطن العربي ولا سيما في بلاد الشام التي تؤدي رسالتها وتمارس شعائرها بكل حرية واحترام ففوجئ البعض بوجودها وحاول البعض المغرض الرد بأضاليل جديدة فقلت لهم: أريد رداً على أسئلة واضحة لا لبس فيها: كل هذه المؤسسات والمقدسات وملايين المسيحيين العرب وهم من المواطنين الأصيلين كيف استطاعوا العيش والاستمرار منذ ظهور الاسلام حتى يومنا هذا؟ ومن كان سيقف في طريق المسلمين لو أرادوا القضاء عليهم قبل 1400 سنة أو على الأقل هدم مؤسساتهم كما تفعل اسرائيل اليوم ومنعهم من ممارسة شعائرهم؟ وأية قوة كانت ستتحرك لحمايتهم في وجه الدولة الاسلامية القوية التي كانت تحكم العالم لعصور وقرون طويلة؟ ألا يثبت استمرار وجود هذه المؤسسات والمقدسات سليمة وآمنة حتى يومنا هذا حقيقة التسامح التي يحاول المغرضون اليوم نزعها من صفات العرب وأخلاقيات المسلمين وإلصاق تهم الإرهاب والتعصب والتطرف بهم؟ وأسقط في يد من رتب لهذه الندوة وتحول الحوار الى إبراز أهمية التعايش في الشرق وقدرة العرب على التساكن والتزاوج مع كل ابناء منطقتهم من أكراد وبربر وأبناء ديانات سماوية وبينهم اليهود الذين كانوا معززين مكرمين ويتمتعون بامتيازات كبرى خلال العهود الاسلامية المتتالية، وفي الأندلس بالذات، وبقيت لهم في الدول العربية المستقلة ولا سيما سورياولبنان ومصر والمغرب الى أن زرعت اسرائيل في قلب الوطن العربي وحرضت اليهود العرب على الهجرة اليها. كما ان العرب احتضنوا الأرمن والسريان وأمنوا لهم الملجأ والحماية. لكن هذه الأمثلة يجب ألا تمنعنا من الاعتراف بأخطاء كثيرة ارتكبتها دول وأحزاب وقيادات خلال أكثر من نصف قرن وأدت الى تكريس حالات الفرقة والتشرذم بين العرب والعرب من جهة وبين العرب والقوميات الأخرى مثل الأكراد والبربر وغيرهم. وفي بعض الأحيان بين المسلمين أنفسهم وبين المسلمين والمسيحيين في حالات مثل حال لبنان. هذا الاعتراف يجب ان تتبعه عملية مصارحة ومكاشفة وصولاً الى مصالحة تاريخية تستعيد أمجاد الماضي، وبينها مجد صيغة التعايش والاخوة، وتزيل أسباب الشكوى لدى الأكراد أو البربر وغيرهم وتحبط الخطط الصهيونية الرامية لإثارة الفتن الطائفية والدينية. فالنسية الاجتماعي العربي غني ومميز ويتمتع بكل قيم التعايش والمحبة والتسامح كما أظهرت زيارة البابا الأخيرة لسوريا وزياراته لدول عربية عدة، والعودة الى صيغته المثالية تعطيه بعداً حضارياً وتمده بأسباب القوة وتساعد على حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتشيع أجواء الاستقرار والأمن والأمل بالمستقبل وتكسب العرب احتراماً دولياً يعززه الوزن العربي والاسلامي المتزايد أهمية في الغرب ودول المهجر... فلو استطاع العرب كسب ود أبناء الجاليات العربية ولا سيما المسيحيين اللبنانيين والأقباط المصريين في الكونغرس الأميركي والمؤسسات الفاعلة في الولاياتالمتحدة وأوروبا فإن القضايا العربية ولا سيما قضية فلسطين ستحقق مكاسب لا حدود لها. كل الملفات مفتوحة، اذاً، ولم يعد من الجائز تجاهلها أو التعامل معها بلا مبالاة، بل لا بد من وقفة تاريخية مع الذات لمعالجتها بحكمة وعقلانية وتسامح والعمل على رأب الصدع وإعادة بناء... وتبني صيغة التعايش بين أبناء الأمة الواحدة والمصير الواحد. * كاتب وصحافي عربي.