لقد عرف العمل السياسي في الدولة السعودية الحديثة أطواراً متعددة في شكله الوظيفي وبنيته الهيكلية غير أنه احتفظ بأعرافه المؤسِّسة وأدبياته الاجرائية وظل متصفا - ضمن ما يتصف به - بالصبر والروية والتوازن والعمل في صمت والرؤية الى الاعلام بوصفه آخر مراحل صياغة القرار لا أولها ولا أوسطها، ولذا فإن الأصوات الجهيرة والحاضرة في كل حدث لم تكن من مكونات السياسة السعودية. ولم يكن المشتغلون بالهموم الكتابية أو الابداعية من شعر وأدب رحلات بعيدين تماما عن أجواء العمل السياسي منذ بداية عهد الدولة بمفهومها الحديث، فقد كان الملك المؤسس يحيط نفسه بمستشارين ومجالسين من المواطنين والعرب والأجانب المشتغلين بالفكر والشعر والأدب.. وظل هذا المفهوم قائما بعد ذلك، إذ لم تنأ الدولة بنفسها عن خاصتهم، غير ان هذا التعاطي مع أولئك لم يأخذ بعداً رسمياً ولا حكومياً إذ لم ينخرط كثير منهم في العمل الحكومي أو التنفيذي، وهذا حديث آخر يطول توثيقه وشرحه، وتبقى الاشارة الى ان المثقف وفق ما قدمه الفرنسيون للعالم من تعريف لم يكن حاضراً أو معروفاً إلا في أوقات متأخرة. ومن هنا تبدو حالة غازي القصيبي استثنائية لا بوصفه وزيرا وسفيرا وشاعرا وروائيا كما هو شائع، وإنما بوصفه مثقفا؛ إذ ان تفرد حالته بدلالتها السيميائية على دور المثقف وعلاقته بالسلطة والقرار يبرز حينما يسجل القصيبي استثناء في قاعدة العمل الحكومي والرسمي ليعطي للمثقف دورا خاصا وجديدا على الطابع المحلي حين يبدأ في مشاغبة العمل السياسي.. لقد أعطى غازي المثال على الوسطية التي ينبغي ان يمثلها المثقف وأعني به المثقف غير الذرائعي ولا التبريري ولا حتى البراغماتي أو الواقعي وليس أيضاً المثقف الصدامي وإنما معالج الممكن بوصف السياسة فمن الممكن والفاعلية في أي مكان وتحت أي ظرف. لقد عرف طويلا عن أعضاء مجلس الوزراء في المملكة ندرة التأليف والمشاركة في الأوساط الأدبية والفعاليات الثقافية فيما عدا استثناءات قليلة للخويطر على سبيل المثال ولم يكن من أدبيات العمل السياسي التقليدي في السعودية ان يؤلف الوزير الكتب ويقصد القصائد؛ لكن القصيبي دلف الى وزارة الصناعة بمواصفاته هو، وأخذ يوسع منذ ذلك الوقت الهامش الذي يتحرك فيه، فلم يعرف وزير قبله «ولا بعده» يلتزم بكتابة زاوية في مجلة أو صحيفة، أو يشارك برأيه، وهو ما جعل غازيا علامة لا في العمل الرسمي فحسب؛ بل في العمل الأدبي والثقافي أيضاً، إذ لم يعرف أبداً رجل بقامته الأدبية يعقب على المقالات والقصائد بخط يده ويوصلها لأصحابها مثنيا عليها أو مختلفا معها، ولم يعرف رجل بمكانته الرسمية يخصص من وقته جزءاً لقراءة نتاج الشباب والتعقيب عليه وإهداء النصائح والتوصيات. ظلت كلمة الوزير في وجود غازي أو عدمه كلمة خاصة وثقيلة ومشحونة بالأعباء اللغوية والاصطلاحية بالاضافة الى الهالة الدلالية العربية القديمة قدم التاريخ العربي، غير أن هذه الكلمة عند ارتباطها بغازي وعند مطالعة كتبه واصداراته وعند استحضار شخصه وخلقه تأخذ أبعاداً أخرى فتغدو «الوزير» كلمة ممكنة وقريبة وقابلة للبشرية مفتوحة على التداول والكلام.. لم يتعامل غازي بشخصه مع كلمة الوزير ولم يشتغل عليها وبها، رغم انه أسهم بتعليقات ذكية واستثنائية حول مفهومها ودلالتها لكن وجوده الرمزي فيها هو ما جعلها تكتسب هذه الأبعاد الجديدة لا في المفهوم المحلي فحسب بل في المفهوم العربي أيضا بوصفه ممثلا للنخبة الثقافية داخل العمل الرسمي. الذين يدرسون شعر غازي لا يزعمون أبداً اختراقه للمفاهيم الشعرية المعروفة ولا يتهمونه بابتداع التجديد المثير في الشعر؛ لكنهم يعترفون له بالشاعرية وأنه متمكن من أدواته، ويشهدون له باللغة الاحتفالية الغنائية، ويبقى ان ذلك كله ليس ما ميز شعر غازي ولا ما لفت الناس إليه، إن أبرز ما يلفت في شعر القصيبي هو الصدق والعاطفة، وان بدا هذا الأمر تقليدياً أو مألوفاً أو كلاسيكياً فإن لغازي اضافة مميزة، فهو حقق هذه الخاصية التي تناساها الشعراء العرب الصناعيون حتى في كثير من نظمه وقصائده المناسباتية، وهذه الحالة تذكِّر بما أنجزه العذريون في وقت مبكر من عمر الشعر العربي، إذ لا تكاد تجد في الشعر العذري كله معنى متفوقاً أو جديداً أو صورة انفرودا بها، كما فتن الذين من بعدهم بالمعاني الجديدة والصور المتكلفة، ولكن هؤلاء جميعا لا يهزون في النفس شعرة واحدة كما تفعل قصائد العذريين، ذلك ان الخلو من التكلفة والعاطفة الحارة التي توزع نفسها على أبيات القصيد لتجعل كل بيت منها قلباً نابضاً هي ما يسهم في اتجاهها مباشرة الى قلب العرب المعجون بالشعر، لا الصورة الجديدة ولا المعنى العميق، فذلك عمل النقاد والمحللين الذي لا يطيّر الأخبار عن الشاعر ولا يبيع الدواوين، وأقرب مثال على هذا في حالة القصيبي قصيدته الأخيرة في رثاء محسون جلال الرجل الذي جاء وذهب، لقد وقعت من قرائها موقع القبول والرضا والتأثير كما لم تفعل أيٌّ من قصائده السابقة أو حتى روايته الرومانتيكية حتى البكاء «رجل جاء وذهب» التي أهداها الى الرجل ذاته، وكانت قصيدته المطولة «سحيم» مثالا آخر متضمنا هذا المعنى إذ رغم أنها قصيدة تسجيلية ملحمية إلا أنها في الواقع قصيدة رثاء تضمنت إدانة لواقع لم يحبه القصيبي بصدق فني خلاب. غازي المتشعرن من رأسه الى قدميه إداريا وأكاديميا وزيرا أو سفيرا لم يستطع الفكاك من حبائل المتنبي في حِكَمه الغائرة ودرره النادرة، ولعله من أبرز المحدثين الذين تفاعلوا مع شعر المتنبي فهماً واستحضاراً لشواهده السيارة وتمثلا لخياراته الحادة في المواقف المصيرية، وكان مثل كل شعراء جيله من المنفتحين على التجارب بالعربية مأخوذاً بالسياب في اجتراحه لهذا الشكل الجديد من الشعر «الشعر الحر»، لكن سيطرة النموذج الشعري العمودي غلبت عليه لبّه فأبدع في قصائده الخليلية ما استحق معه ان يعد من شعراء الصف الأول في مدرسته، وظلت قصائده التفعيلية القليلة تتراوح بين روح السياب ولغة نزار قباني معترفا بتذوقهما ومحبة نتاجهما، وبينما فتح النار على أدونيس وعبدالوهاب البياتي بكلاسيكية مستغلقة على الفهم جامل شعراء قصيدة النثر ببضع كلمات لا يصدقها نتاجه ومنهجه. ما كان أظلم القصيبي لنفسه لو أنه حرمها الكتابة السردية استجابة لنوازع الحاسدين الغريزية في حرمان أي مبدع من الكتابة بحجة التخصص، لكن القصيبي الذي رأى ذاته تفيض على الشعر بألفاظه الوامضة ولقطاته المبتسرة تمرد على شعره وحاسديه وعبر عن ذاته بوسائط متعددة، ولو كان صاحبه المتنبي معاصراً لما وسعه ان يكتفي بديوانه ولكتب رواية في حب سيف الدولة وأخته خولة وفي عذابه النفسي في مصر الإخشيدية. جرأة غازي على اقتحام غير المألوف والكتابة في الفنون التي يراها غير مطروقة تضايق منتقديه؛ إي يرونه متصديا لأكثر من همٍّ كتابي وتأليفي متنوع، فهم إن سلموا بحقه شاعراً في الكتابة الشعرية والدندنة حول هذه التجربة وإذا قبلوا على مضض أن يقدم نفسه روائيا فلن يترددوا في لومه على الكتابة في هموم فكرية وسجالية كبرى مثل «التنمية الأسئلة الكبرى» و«الغزو الثقافي» أو معالجته لأطروحات سياسية واعلامية في «أمريكا والسعودية» وغيرها من أبحاث ومقالات لا تصنف في خانة الابداع، وبخاصة أنه يتناولها - وهي القضايا الكبرى - بصورة موجزة وعلى شكل رسائل وأبحاث صغيرة، وكلما زاد استغراب المنتقدين والمناوئين قدم غازي نظرته الخاصة في موضوعات جديدة، وكثيرا ما أثبت براعته في الإلمام بجوانب القضية وخلفياتها، وهو ما قدم الدليل تلو الدليل على سعة اطلاعه وعمق معارفه التي لم تقتصر على العلوم الأدبية واللغوية بل شملت الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولعل ما يثبت ان هاجس غازي بإثبات تمكنه من علوم مختلفة يسكن ذاته الابداعية تصديه للكتابة الروائية بقالبها الخاص الذي ابتكره لنفسه متعمدا ان يتسع هذا الشكل السردي لفنونه المتنوعة ولغته الأنيقة وروحه الساخرة، وهو بهذا يستعيض عن الأدوات التقليدية للروائي الذي عرفه القراء العرب دهراً طويلا ولا شك ان القارىء رضي بهذه المعاوضة عن قصد أو غير قصد إذ أقبل على رواياته بنهم قد يكون مبرره الفضول في «شقة الحرية» لكنه لن يكون إلا الاعجاب فيما وليها من روايات، ولأن تلقي النقاد لروايته الأولى كان متهافتا وقاصرا، ولأن الاتهامات بتكلف استعراض الحوارات السياسية والاجتماعية الخادشة كانت طاغية؛ أصر القصيبي على تثبيت قدمه بقوة في المجال الروائي فعكف على فانتازيته الروائية «العصفورية» ليقدم بها نموذجاً غير مسبوق للسرد العربي لا هو بالرواية ولا المقامة ولا الخيال العلمي، ونجح عبر هذيان البروفسور الشهير في تقديم ما سماه أحمد عباس صالح «تشريح المثقف العربي» وكانت روايته هذه بحق علامة في مسيرته الكتابية كلها، وقد جعلت من أعمال غازي الروائية والمسرحية والشعرية بعد ذلك حدثاً من أحداث النشر في العالم العربي يتلهف له القراء، غير ان اثبات أصالته في هذا الميدان ظل هاجسا يطارده على رغم زعمه في كل مناسبة أنه لا يحفل كثيرا بالنقاد وآرائهم المتكلفة، ويبدو ذلك واضحا في اصداره لمسرحية «القفص الذهبي» التي كتبها عام 1970م باللهجة البحرينية وتحت اسم مستعار أيضا، وكان المبرر لاصدارها عام 1998م هو اشعار الجميع ان ليس هناك من ينبغ فجأة فيكتب روايات بل هناك مجهود دائب صامت طويل.. اختط غازي لنفسه عالما جديدا وشكلا خاصا في السرد العربي كان أبرز خصائصه اللغة الأنيقة والروح المرحة العابثة، ولهذا فقد ضايقه كثيراً أن يتفرغ ناقدوه لمقارنة أعماله الروائية بالمتقدمين من روائيي العرب فكان أن وصف بعض روايات نجيب محفوظ بالضعف، وشدد على ان لكل روائي ولكل قارىء روايته المفضلة ونوعه الخاص، وربما أصاب في كثير من هذا، والحقيقة ان القصيبي الروائي لا يمكن وضعه في مقارنة مع الصف الأول من الروائيين العرب لافتقاره لأدواتهم الروائية وضعف حبكته وانعدام اتصال أحداثه وغنائيته المفرطة واعتماده أسلوب الحكي؛ غير أنه في المقابل وبشكل مطمئن يمكن الزعم ان نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وحنا مينه لا يتوفرون على نصف ما توفر لغازي القصيبي خارج اطار فنونهم الروائية. رمي القصيبي بتهم كثيرة لعل أبرزها نرجسيته المفرطة في الحديث عن ذاته، ولعل هذه التهمة منصرفة الى مؤلفاته وكتاباته لا الى شخصه فالشواهد عند من يعرف شخصه تكذب ذلك، ولا شك ان مناوئيه يفرحون بتتبع زلاته وهناته ويغتبطون بوجود الأخطاء اللغوية في مؤلفاته، لكن معظمهم لا يجرؤ على مناقشته فيها لعلمهم بتمكنه اللغوي وأنها سهو أو سقط لا غير، وإن كان هو لم يغفر للشاعر حمد العسعوس زلته اللغوية وسماها «تكويعة»، وقد اغتبط منتقدوه من اللغويين بشكل بدا جليا في أمسيته الأخيرة في الجنادرية التي خصصها للمكان مجاملا فيها الرياض «الفاتنة القاسية النائية» بعد قطيعة سنين مجاملة لم تغفرها له، وبخاصة أنه سمي أمسيته في الكويت بعد التحرير أم الأمسيات وظل ينظر اليها بعين الرضا، وكانت الرياض العطشى قد استقبلت القصيبي بوزارة جديدة فأعلن بمؤلفاته الثلاثة الأخيرة انقطاعه للعمل كما هو متوقع من ساكني الرياض، وإلا لسجل استثناء في حالة المبدعين المحليين. وينظر غازي للدنيا بعين الفنان المتسامحة المنفتحة ولعل ثقافته الموسوعية وانفتاحه المبكر على العالم عبر الجزيرة الحالمة والتيارات الفكرية والسياسية المتصارعة في مصر ثم الدراسة في أمريكاوبريطانيا أكسبته تلك النظرة الفلسفية المتعمقة للآخر المغاير، على رغم أنه رجل مبادىء عنيد يعبر في كل فرصة عن مواقفه الصريحة وهو في الوقت ذاته لا يتورع مثلا عن هجاء اليونسكو في «دنسكو» بعد طيران منصبها لليابان أو رثاء الأميرة ديانا والتغزل بها في مؤلفه «الأسطورة» أو رثاء الفنانة سعاد حسني أو الكتابة عن رحلة سياحية الى كاليفورنيا أو جمع مختارات من الشعر بشكل يراه المتزهدون متواضعا ويراه هو تفاعلا مع الحدث وانفتاحا عليه، وهذا كله دليل على ما انفرد به غازي من ميزات وصفات جعلت من العسير تصديق الزعم بأنه فؤاد أو البروفسور فحسب بل هو مزيج من هذين ومن يعقوب العريان وأبوشلاخ الشاعر العامي أيضا، وهو ما يقدم بعض الملامح للموسوعة القصبية التي اجتمعت في شخص الشاعر والروائي والعميد والسفير والوزير. غازي القصيبي يكرم اليوم في الكويت بوصفه رجل العام، وقبل هذا يقيم له الأمير تشارلز حفلاً وداعياً في بريطانيا، وقبله تتجاوز الأعراف الدبلوماسية في البحرين تكريماً، وكانت فرنسا قد أهدته أرفع أوسمتها.