كن صامتًا، تخفف من علاقاتك قدر الإمكان، لا تجامل، ولست مضطرًا إلى سماع أي رأي غير رأيك، واقض معظم الوقت بمفردك، وكن صديقًا للكتب والقهوة، وإن أقحمتك الظروف يومًا في بيئة مليئة بالأشخاص قطّب حاجبيك وانتقد بنظرة من عينيك من كانت اهتماماته سطحية ومضيعة للوقت، وإن تطلب منك الحديث فتحدت بكلمات مقتضبة فأنت لا تحب كثرة الكلام، لأنك شخص ناضج. نعم، هذا فيما يبدو هو معنى أن تكون ناضجًا في هذا الزمن، ومثلما تم تسطيح وتشويه معانٍ كثيرة كانت سامية وذات قيمة كالحُب على سبيل المثال، والأسرة، ومعنى أن تكون حرًا، ومعنى الارتباط والصداقة والعلاقات الاجتماعية بأشكالها كافة، كان للنضج نصيب وافر من هذا التشوّه. والحقيقة أن الوصف المنطقي والصحيح لكل من يحمل هذه الصفات أو بعضاً منها هو أنه شخص فضل العيش بنمط حياة غير اجتماعي لحد ما، ولا يرتبط الأمر بكونه ناضجًا أو العكس. وإن سألتني عن المعنى السليم لهذا المصطلح بشكل مختصر فيجب أولاً ألا تختزله في أي من التصرفات والصفات التي ذكرتها سلفًا، فلا يقاس الأمر بقطع العلاقات أو التخفف منها، ولست ضد الأمر تمامًا فهو يعتمد على أسباب مختلفة لكل شخص، ولو كان المرء اجتماعيًا يحيط به عدد كبير من الأصدقاء، أو يكون عكس ذلك فكلاهما لا يرتبطان بالنضوج بشكل مباشر، فيمكن أن يكون مجتمع الأول مغذياً لعقله ولأفكاره ورفعة له ولشأنه، وقد يختار العزلة دون نفع يُرجى ولا نضجٍ يلاحظ، وقس على ذلك بقية الصفات المذكورة، فالصمت ليس علامة على النضح على كل حال، بل يعتمد الأمر على طريقتك في الكلام واختيارك لتوقيته، والمواضيع التي تخوض فيها، كأن تنأى بنفسك عن سفاسف الأمور وتتجنب إقحام أنفك في حياة الآخرين وخصوصياتهم وألا تنتقد شخصًا بعينه إلا أن يطلب هو منك ذلك - وهذا ما لا يحدث غالبًا - وإن كان ولابد فمن النضج أن تفرق بين انتقاد شخص ما لذاته، وانتقاد تصرف قام به، وكم من الأشخاص تراهم في مجالس عدة، وفي حديثهم يسهبون ويكثرون القول فلا تمل من مجالستهم وسماعهم، لأن الأمر مرتبط بما تحتويه عقولهم من فكر واعٍ وأسلوب في الكلام يتجلى فيه نضجهم، إضافة إلى أن النضوج يرتبط ارتباطاً وثيقًا في بادئ الأمر بتقدير الذات وقبولها بمساوئها قبل مزاياها، والتصرف مع الحياة وظروفها المتقلبة بشكل سليم، والنظر للأمور أيًا كانت بزاوية المنطق بعيدًا عن الأحكام المتسرعة والتصرفات الفورية، وبالحديث عن محتوى العقل الناضج والذي بطبيعة الحال يكتسبه المرء - إضافة على التجارب الحياتية - من كثرة الاطلاع والقراءة، يعتقد كثير من الناس أنه بقدر ما يقرأ من الكتب يكتسب من الوعي والإدراك، وليس الأمر تمامًا بهذه البساطة، فالفكرة تكمن أن المرء يُعْرَف مستوى نضجه من الطريقة التي يتعامل بها مع ما يستقبل من المعلومات وما يعيشه من التجارب، وتلقيحها وتييز ما يمكن الانتفاع منه عن سواه، وتشكيل وجهة نظره الخاصة بناء على ما يتلقاه من أفكار متنوعة ومتضادة ومتناقضة أحيانًا. ** **