الخروج من خزانة الوعي إلى اكتساب العالم بالحاسة، مهما كانت هذه الحاسة, هي الطريق الأسلم إلى نقل المرئي إلى صفحات الرؤية وإعطائه بعدا فنيًا يتحقق بطريقة البناء والتشكيل، المرئيات ظواهر يومية تحدث على مدار الساعة، بل اللحظة، لكن ليس كل عين قادرة على أن تكون كاميرا حساسة تلتقط هالة الموجودات بتصوير عالي الجودة كما يفعل (الهايكست) هذا المندهش بالعالم قبل أن يخلق الدهشة ويصنفها على الورق ليدهش القارئ ببساطة ما أنشأ حتى ليتساءل القارئ: ترى أين كنت من هذا المنظر وأنا أراه يومياً، اليومي، المباشر، المرئي، هو الأصل في بناء عوالم الهايكو، وللهايكو كما يبدو في الأدبيات التي تتناوله شروط كثيرة وتعريفات أكثر لا سيما عند (الاتباعيين) الذين يميلون إلى (تصنيم) النص الياباني واتخاذه إلهاً لا يصح كسره بأي حال من الأحوال. الهايكو إذن نقل العالم إلى المتلقي كما هو وعلى القارئ أن يتحسس هذا العالم بشفافية عالية، وذائقة مختلفة وإلا فانه لن يرى فيه شيئا جديدا بل ربما سيرى فيه ألفة مقيتة وبديهية تفارق الشعر كما يعرفه، لاسيما المثقف العربي؛ لأنه يعيش أفق توقع مخالف تماما لما يراه في بنية الهايكو المكثفة والسريعة والسهلة في تناولها. ترى ما الهايكو: هل هو تجربة مباشرة للهايكست، أو استعادة لمخزون غاطس في اللا وعي، ماجاء آنفا يؤكد على ضرورة الحس المباشر للأشياء، لكن واقع التجربة المعاشة عند كثير من كتاب هذا النمط الشعري لا يقوم على الالتزام الحرفي لحقيقة الهايكو بالمفاهيم اليابانية، بقدر ماهي محاولات تتوسم أن تجد منظومة عربية للهايكو متصلة بالقصيدة العربية ومعاييرها المعتمدة،ولا يختلف الشاعر (عبدالله الاسمري) عن كتاب هذا النمط الشعري في بناء عوالمه، فهو يحاول أن يتمركز في تقانات بناء الهايكو قدر الإمكان، ولا سيما رغبته الواضحة في تشكيل الطبيعة تشكيلاً مجازياً يقول: للوهلة الأولى تبدو الطبيعة في السطر الأول واضحة، لكنها تنهض على الانزياح = المجاز بدلالة النجوم (تتكئ)، هاته الاستعارة المكنية تشكل مشهدا جميلا للقارئ، وهي في تقديري على الأقل جديدة في التصوير، لكن المشهد على العموم يحاول أن يراهن على النور بدلالة العلاقة بين (النجوم) و(القنديل)، لتأتي الالتفاتة الأخرى وهي انزياحية بامتياز بالفعل(يغزل)، المشهد أيضا يؤكد على حركة متباطئة وحركة متسارعة (تتكئ = حركة) ربما تحيل على الاسترخاء والكسل، لكنها في الوقت نفسه توحي بأن النجم لا يمكن له الحضور إلا في عالم العتمة = الليل، غير أن القنديل، يتحرك حركة أخرى تعمل على غزل النور بإيقاع جميل، وكان النور خيوط حريرية قابلة للتحول إلى نسيج يتلبس العالم المحيط، مشهد جميل بكل مافيه من ألوان وإضاءة وحركة. وفي نص آخر يحاول الشاعر أن يضعنا في المشكلة الأزلية للإنسان مشكلة (الزمن). بوصلة الزمن تخرجنا من دائرة الحياة أبواب موصدة هل الزمن بوصلة؟ دلالة البوصلة غالبا هي الدليل إلى عالم الأمان، الخروج من المتاهة والوصول بسلام إلى الهدف بعد ضياع، غير أن بوصلة) الاسمي ( تخرجنا من (دائرة الحياة). هذا التناقض في الدلالة، لابد انه يشكل رؤيا مخالفة للواقعة الخارجية أو الأصلية (للبوصلة) وتأتي القفلة لتؤكد المعنى الذي يسعى إليه الشاعر (أبواب موصدة)، مافائدة البوصلة، إذا كانت الأبواب (موصدة)، ليس للإنسان القدرة على اختراق الزمن والعودة إلى حياة يتمناها، عشبة كلكامش أكلتها الأفعى، والزمن إلى الوراء لايعود، الإنسان يشيخ والعالم لايتوقف عن السريان بهمة عالية. هكذا يبني عبد الله الأسمري عوالمه ليجتاز العتبة الأخرى للعالم، شاعر واعد قادر ببساطة على تشكيل رؤاه بكثافة معبرة، إنه الصياد الذي يباغت البرق بأفق ماطر. ** ** أ.د. عبدالستار البدراني - عضو رابطة الهايكو العربي