حين عرضت في المقالة الماضية لمرض الإطالة والحشو المستفيض في القصيدة العربية كنت أعرف في الوقت ذاته أن في التعميم قدراً من التعسف يجاوز الإنصاف والتحليل الموضوعي، إذ ثمة في الشعر العربي لمع واختزالات لا يمكن القفز من فوقها أبداً، ومثل هذه اللمع هي التي أثبتها جامعو المختارات والباحثون عن اللقى الثمينة في أنطولوجيات عدة، وكان آخرهم أدونيس الذي قدم ثبتاً شديد التميز عن شعراء البيت الواحد ليكمل بذلك مختاراته المعروفة التي صدرت في مجلدات ثلاثة تحت عنوان «ديوان الشعر العربي» وهو في عمله ذاك تحاشى تقديم قصائد كاملة للشعراء المختارين بل انتقى من بين القصائد ما اعتبره أبيات القصيدة، أو توقيعات الشعراء الأرقى على سجل الخلود. لعل في شعرية اليابان الموروثة منذ القدم ما يؤكد هذا النزوع إلى التكثيف والاختزال، وبخاصة ما يتجلى في نسقي الهايكو والتانكا المعروفين. فقصيدة الهايكو اليابانية تنأى بنفسها عن الإطالة والسيلان اللغوي الإنشائي لتتحلق حول فكرة جوهرية أو مشهد حسي بصري تشكل الطبيعة عصبه ومحوره. ثمة هنا ما يشبه تخليص الكلام من زوائده وتقشيره بشكل كامل وصولا إلى نواته الأم، تماماً كما يفعل النحات مع الصخرة التي يعالجها. وهنا يتناول الشاعر مشاهده كما يفعل المصور الفوتوغرافي الحاذق ولكنه ينفصل عن هذا الأخير في كونه لا يأخذ المشهد بكليته بل ينتزع منه ما تستلزمه فقط حاجة البصيرة، وما يخرجه من حسيته ليتحول إلى علامة استفهام أو سؤال مطروح على عطش الناس للمعرفة والتأويل. أما التانكا فتستبدل المقاطع الثلاثة للهايكو بمقاطع خمسة تتيح للشاعر توسيع هامش التعبير. في كل قصيدة هايكو نقرأ ما يخصنا من الداخل ويتركنا جائعين إلى المزيد لا منهكين من التخمة، ولكنه يترك النص ناقصاً ليكمله القارئ نفسه مثل موجة لا تستقر على شاطئ أو قرار. «أمسية خريفية/ ليس من السهل/ أن تولد إنساناً، يقول كوباياشتي. ويقول باشو، أحد أعظم شعراء الهايكو «حتى الغراب/ المكروه عادة/ جميل في صباحات الثلوج». ويقول جيسيس: «بعض الناس على الطريق/ أراهم / للمرة الأولى والأخيرة». ويقول آخر: «يا لروعة من لا يظن/ أن الحياة زائلة/ حين يرى وميض البرق». وفي كل هذه اللقى الثمينة ما يؤكد مرة أخرى أن الشعر في عمقه ليس سوى محاولة مضنية لاقتناص برق الحياة الخاطف.