ذات مساء، وعلى هامش إحدى المناسبات بمدينة الرياض، انتهزتُ الفرصة لدعوة عدد من الزملاء الذين قدموا من خارج الرياض من مهندسين ومخططين ومعماريين ومسيري مدن لجولة مسائية مشيًا على الأقدام في أروقة الدرعية التاريخية، كان الهدف منها أن يعيش الجميع تجربة جديدة بكامل تفاصيلها، في محاولة لتغيير الصورة النمطية السلبية لدى البعض عن التراث العمراني التي اختزلت في كونه مجرد ماض وحيز معزول فقد الحياة منذ زمن. قررت في ذلك المساء أن أخوض معهم معركة فكرية حول السياسات التخطيطية والعمرانية والمعمارية، باعتبارهم متخصصين في هذا المجال ومتخذي قرار في إدارة مدنهم ومجتمعاتهم العمرانية، توقفنا في بداية الجولة أمام مبنى بلدية الدرعية الجديد ذي السمة المعمارية التقليدية الحديثة، وكان الحديث حول فكرة الاستغناء عن أسوار المبنى لمنح السكان فرصة الانتفاع من المرافق الموجودة بمحيط الموقع، وأن يتحول المبنى إلى صديق للناس ومقصد حي لأنشطتهم وفعالياتهم اليومية ليشعروا أنه جزء من نسيجهم الحضري ولتحقيق التكامل في استعمالات الأراضي وتعزيز ثقة التعايش بين الإنسان والمكان. استعرنا هذا المقترح من مبادئ التراث العمراني التي تؤكد أهمية أن تكون مواقعه معاشة وغير معزولة عن محيطها العمراني أو استخداماته الوظيفية، كنموذج لمجتمع حضري متكامل. في طريقنا مع محور شارع الإمام عبدالعزيز بن محمد باتجاه شارع الملك فيصل ومرورًا بحي البجيري وحي سمحان وحي طريف ونهاية بوادي حنيفة الذي يحتضن هذه الأحياء بتشكيل جغرافي متنوع ذي خصائص مكانية وطبيعية صنعت تكوينًا فراغيًا ارتبط بتاريخ الدرعية، كان المشهد المسيطر هو «عودة الحياة للمكان»، تلك الحياة التي منحت ذلك المساء ذائقة مختلفة وجعلت منه مكانًا مسكونًا بكل مفردات الجمال الذي كان مصدره وجود الناس وجلوسهم وحركتهم وأحاديثهم. لم يصدق البعض من الزملاء أن يحدث كل هذا الجذب الاجتماعي في الدرعية المتاخمة للرياض المدينة الكبرى، كان الحديث عن الميز النسبية للدرعية وكيف مكنتها من الحصول على «أفضلية» للسكان كوجهة نوعية جاذبة، ربما المنافسة لم تكن متكافئة ولكن الدرعية قد استثمرت ذلك كميزة تنافسية أيضًا، ونجحت بامتياز في تلبية رغبات الناس وجذبهم إلى مواقع لم يكن لأحد أن يتخيل تحولها لوجهة سياحية أولى في محيط العاصمة. مع المسير، استمرت الحوارات عن القضايا التخطيطية والعمرانية حول تجربة الدرعية حضريًا، فالبعض تحدث عن فصل حركة المشاة عن السيارات ومواقفها، وآخرون ناقشوا مشكلات البنية التحتية وبرمجة التنسيق بين القطاعات الخدمية المختلفة، وكذلك صعوبة إيجاد مقاولين متخصصين في الترميم، ومنهم من تناول قضية الملكيات والتشغيل والصيانة، ربما اختلفوا كثيرًا حول موضوعات الإدارة العمرانية لمواقع التراث العمراني، لكن الأهم أنهم اتفقوا جميعًا أن ثمة خطوة جريئة نحو الأمام قد تمت، وقصة نجاح تبرهن على أهمية إعادة تأهيل تلك المواقع وتوظيفها كعنصر رئيس من عناصر منظومة البيئة الحضرية المحيطة. بعد نهاية الجولة التي امتدت لساعات انتهى بنا المطاف لتناول العشاء في مطعم تراثي هادئ بحي البجيري وسط أجواء مفعمة، وعلى أنغام التاريخ، وعبق الطبيعة، يلفنا الصوت القادم من أطراف مزارع وادي حنيفة بصدى «أنا النخيل، وأنا ارتجافات السعف». مع منتصف الليل، ودعنا ضوء القمر، إيذانًا بالرحيل، غادر الجميع، عادوا إلى مدنهم ومناطقهم وهم يحملون بداخلهم بذرة «حياة»، قرروا جميعًا أن يغرسوها في قلب مجتمعاتهم المحلية، لبناء تجارب أخرى مماثلة، في رحلة العودة إلى المستقبل، كما عاد مساء الدرعية.