قبل أكثر من قرن من الزمن في نجد، لم يكن هناك طب حديث أو أطباء أو مستشفيات أو رعاية صحية، ناهيك عن وعي صحي أو تغذية سليمة، وهذا ما جعل الأمراض والأوبئة تفتك بالناس - حتى الحيوانات أحياناً - فتكاً بليغاً وتحصدهم حصداً، ولا يكاد يوجد وقتها من لم يفقد أحداً من بنيه بسببها، بل بلغ من شدة وطأتها عليهم أن صاروا يؤرخون بها فهذه سنة ساحوت عام 1328ه، وهذه سنة الصخونة أو الرحمة للإنفلونزا الإسبانية عام 1337ه، وهذه سنة الجدري 1358ه، وهذه سنة الجرب 1340ه (جرب الإبل الذي فتك بها)... إلخ، ولهذا لم يكن للناس خيار حينها إلا اللجوء إلى الطب الشعبي الذي ينجح تارة ويفشل تارات، أو إلى الرقية الشرعية وهو تسبب مشروع ومفيد للعين والسحر وبعض الأمراض النفسية وليس للأمراض العضوية. استغلال التطبيب في التنصير يعد التبشير أو التنصير (ويستعملان تبادلياً) من أهم أدوات السيطرة الاستعمارية الغربية، وكما ذكر جواهر لال نهرو أحد أبطال استقلال الهند ورئيسها فيما بعد في كتابه (لمحات من تاريخ العالم) نقلاً عن أحد الكتَّاب الإنجليز أنفسهم أن مراحل الاستعمار تبدأ بإرسال المبشر للتمهيد، يليه إرسال البارجة الحربية للإخضاع، ثم الاستعمار ومصادرة الأراضي.(1) إلا أن الملك عبد العزيز لتدينه ودهائه أدرك الأغراض المشبوهة من ورائها، رفض إلحاح الإرسالية الأمريكية العربية عليه لإنشاء مراكز طبية لها في قلب جزيرة العرب، وأخبرهم أنه عندما يحتاج لهم سيطلب منهم القدوم لفترات مؤقتة فقط، والواقع أن حذر الملك من نشر النفوذ والسيطرة الغربية ومسخ الهوية الدينية بطرق مختلفة يثبت بعد نظره وسلامة موقفه . إرسالية الدكتور ديم تعد أهم البعثات في هذا المجال وأكثرها شهرة وذكراً في المصادر التاريخية والموروث الشعبي البعثة الثالثة التي كانت برئاسة الطبيب والجراح والمنصر الأمريكي لويس بول ديم Louis Paul Dame صاحب الشهرة في مجاله والذي سبق أن عالج الملك عبد العزيز نفسه (4) ومعه عشرة من الأطباء والممرضين، وقد حطت أولاً في الرياض وعالجت الكثير من المرضى، ثم ذهبت بناءً على طلب الملك إلى شقراء وبعدها عنيزة وبريدة، واستغرقت رحلتهم على الإبل من الرياض إلى شقراء خمسة أيام (المسافة بينهما 190 كيلاً) وذكر الدكتور الشويعر أن الملك كان قد أرسل رسالة بتاريخ 17-5-1342ه (صورة لها مرفقة بالمقال) إلى وكيل بيت المال في شقراء والوشم عبد الرحمن السبيعي للعناية بهم وتقديم كل الخدمات التي يحتاجونها، وتوفير كافة وسائل الضيافة والراحة لهم، فنفذ السبيعي ما طلب منه، واجتهد غاية الاجتهاد، وأسكنهم في بيت يليق بهم هو بيت سليمان بن محمد الصبي في حي الطريف شمال البلد. وصول البعثة لشقراء وصلت البعثة إلى شقراء يوم 30-12-1923م (1342ه)، ومن الطريف أن وصولهم بسحناتهم البيضاء وبدلاتهم وقبعاتهم كان مثار دهشة كبيرة لأهالي شقراء الذين لم ير معظمهم غربيين من قبل، وبمثابة مفاجأة ثقافية مختلفة عنهم، حيث توقفت حركة البيع تماماً في السوق الكبير (الماقفة) لأول مرة، وهرب بعض الأطفال خوفاً منهم، أما البعض الآخر من الأهالي فقد تسمر في مكانه لمرأى هؤلاء الغرباء مستعيذاً بالله منهم، وشيئاً فشيئاً خفت الدهشة بعد أن عرفوا هدفهم فرحبوا بهم وأكرموهم غاية الإكرام وتلطفوا معهم، وبقوا في شقراء 16 يوماً عالجوا خلالها 953 مريضاً وأجروا 48 عملية، وأعطوا 19 حقنة، وغادروا يوم 15-1-1924م، وهو إنجاز ملموس إذا علم أن سكان شقراء وقتها كانوا بين ستة إلى ثمانية آلاف فقط، وممن عالجهم الطبيب ديم الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف الباهلي قاضي شقراء والوشم حينها (ت 1352ه) وابنه الشيخ عبد اللطيف (قاضي رنية والخرمة وتربة ومن ثم المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة)، حيث أجرى لهما عمليتي فتاق(5) وبالمناسبة، فقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد العزيز العبيدي عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام للكاتب أنه حينما جاء دور الشيخ إبراهيم للعملية أخبره الطبيب ديم أن البنج قد نفذ ولا يمكن إجراؤها بدونه، فألح عليه الشيخ أن يجريها بدون بنج ففعل دون أن يبدو عليه أي اضطراب أو هلع أثناء إجرائها حتى انتهت، فعجب الطبيب من صبره وجلده وقوة تحمله. وعموماً، فقد كان موقف أهل شقراء المعروفين بتدينهم وخلقهم الإسلامي الرفيع ولطف معشرهم وكرمهم، وموقف شيخها إبراهيم تجاه أفراد البعثة موقفاً متميزاً عن البلدان الأخرى في نجد التي عالجوا فيها، حيث كانوا الوحيدين الذين حاولوا جاهدين وبشتى الطرق والإغراءات أن يدخلوا أولئك المنصرين في الإسلام بحيث ينقلب السحر على الساحر، وكان الأكثر إلحاحاً في ذلك الشيخ إبراهيم، حيث ذكر الأستاذ الدكتور العبيدي للكاتب أنه حاول بشتى السبل وطرق الإقناع وخصوصاً مع رئيس البعثة الطبيب ديم كي يدخل في الإسلام، وكان في معرض حضه على ذلك يقول له: "ما أسهل الدخول في الإسلام ! تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، كما سمع الباحث من أكثر من واحد من أبناء الشيخ وأحفاده أنه دخل في نقاشات طويلة وعميقة معه، ومنها أن الطبيب ديم قال للشيخ: لماذا يحل لكم في دينكم أن تتزوجوا نساءنا، ولا نتزوج نساءكم؟ فرد عليه اليخ قائلاً: "لأننا نؤمن برسولكم المسيح بن مريم ورسالته وما جاء به، فإذا آمنتم بالرسول محمد وبرسالته الخاتمة، وما جاء به، وهذا معنا دخولكم في الإسلام جاز لكم ذلك. انطباعات الطبيب ديم عن أهل شقراء وشيخها لنترك الطبيب ديم نفسه يفصّل ذلك، ويعبّر عن شدة إعجابه بالشيخ وأهل شقراء، حيث يقول في مذكراته "منذ الأيام الأولى في شقراء وجدنا الأهالي هنا متعصبين بشكل كبير، وبسبب ذلك واجهنا الكثير من المناقشات الدينية الصاخبة في أماكن متفرّقة من المدينة، ورغم هذا التعصب الديني عند الأهالي، إلا أن شيخ شقراء المعروف بالشيخ إبراهيم كان في مقدمة الذين أعطيتهم كل الاحترام والتقدير من بين مئات الناس الذين قابلتهم أثناء رحلاتي في الجزيرة العربية، فالشيخ إبراهيم الذي أجريت له ولابنه عمليتي فتاق ناجحتين رجل ورع وتقي جداً ومسلم حقيقي وصادق، وكان يبدئ دائماً قلقاً حقيقياً على إيماني، وقد حاول بكل ما استطاع طيلة فترة وجودي في شقراء تحويل عقيدتي إلى الإسلام، ودعاني أكثر من مرة إلى الاستماع إلى القرآن والامتثال إلى كلمة الله الحقة، وعلى الرغم من عدم استطاعة أي منا - أنا والشيخ إبراهيم -إقناع الآخر بتغيير دينه إلا أنه بقي صديقاً حقيقياً لي حتى آخر يوم في شقراء، وبجانب الشيخ إبراهيم حاول أولاده إقناعي بالإسلام، كما فعل ذلك أيضاً وفي مرات عديدة بعض شخصيات المدينة، وفي الواقع فقد وجدت أن طرقهم في التبشير بالإسلام تشبه إلى حد كبير طرقنا بالتبشير بالمسيحية والمتمثلة بالزيارات والأحاديث الشخصية، بل إنني أحياناً حصلت على عروض بالزواج وتوفير السكن المناسب وغير ذلك إذا أصبحت مسلماً (6). وقد قام أفراد البعثة بجولات في شقراء وما حولها، والتقط الطبيب ديم صوراً لبعض معالمها وبيوتها وسوقها وغير ذلك. وللإنصاف فإن المرضى في الدول الخليجية التي أقيمت فيها تلك المراكز الطبية، أو عبر بعثاتها إلى المملكة استفادوا منها في معالجة أمراضهم وتخفيف معاناتهم، ويمكن أن تعد بعثة ديم بالذات إلى شقراء وعنيزة أنموذجاً فريداً للتسامح الإنساني من الأطراف كافة في ذلك الوقت، وتجربة فريدة من نوعها في تقارب الناس وتآلفهم وتعاملهم الحسن مهما اختلفت معتقداتهم الدينية وخلفياتهم الثقافية والعرقية لتحقيق أهداف نبيلة إذا خلصت النوايا وصدقت الأهداف الإنسانية (وقلما كانت تصدق للأسف بالنسبة للمنصرين الغربيين !) وأنه يمكن للحضارات أن تتكامل وتتقارب وتتعاون من أجل الإنسان بدلاً من "صدام الحضارات" الذي ليس حتماً مقضياً، وهو المفهوم والمصطلح الذي انتشر عالمياً مؤخراً، وكان وراءه بعض الغربيين المتعصبين المهووسين، ولهذا وبعد أدرك أهل شقراء أن ممة البعثة الطبية بحتة، وليس وراءها أي أهداف تنصيرية بناء على اشتراط الملك عبد العزيز، وبعد معالجة عدد كبير من مرضاهم أكرموهم غاية الإكرام، وأظهروا الامتنان لهم، وانهالت عليهم الدعوات، وطاب لهم المقام بين أهلها. الإرسالية في الموروث الشعبي على الإجمال حظيت هذه الإرسالية الطبية ورئيسها الطبيب والجراح ديم دون غيرها من المراكز والإرساليات بشهرة واسعة، وكانت مثار جدل ومناقشات في شقراء وعنيزة وبريدة وغيرها، ونسجت حولها قصص وحكايات فيها الكثير من الطرافة والسذاجة أحياناً، وألهمت خيال شعراء شعبيين منهم الشاعر محمد الفيحاني الذي قال عن الطبيب ديم الذي عالجه: والآخر الذي يقول: كما كان هناك من يحذِّر من ديم في تعصب تشوبه الجهالة والسذاجة: وكما هو معروف، لم ينس كثير من الأطباء والمنصرين والرحالين الذين وفدوا إلى المملكة وإمارات الخليج تدوين مذكراتهم ومرئياتهم وملاحظاتهم عنها، التي يمكن الاستفادة منها في دراسة أحوالها التاريخية والدينية والثقافية والاقتصادية في تلك الحقبة، مع وجوب توخي الحذر في تقبل كل ما كتبوه في تلك المذكرات، لأنه قد يشوب البعض منها التعصب، أو سوء الفهم لثقافات وأعراف مختلفة عنهم. وكلمة أخيرة عن التنصير: لقد عانى وضحى وتحمل أولئك المنصرون الغربيون دونما شكوى أو ملل في أعمالهم التبشيرية سواء في مجاهل أفريقيا أو أدغال أمريكا اللاتينية أو سهوب آسيا أو الصحاري العربية الكثير الكثير من المصاعب والويلات والتهديدات التي وصلت إلى حد الموت، أو أكلهم أحياء أو طبخهم أحياناً ولكنهم ظلوا إلى النهاية مخلصين بشكل عجيب لمعتقداتهم وبلدانهم الاستعمارية، ولقد خفت وتيرة التنصير كثيراً بعد حركات الاستقلال وانتشار التعليم وإدراك الناس في العالم الثالث لحقيقة التنصير الغربي الذي يعد بمثابة مطية للاستثمار واستغلال الشعوب. نداء للشباب المسلم المغرر بهم بما أن الشيء بالشيء يذكر وبمناسبة الحديث عن التنصير الغربي، لذا يطرح الكاتب مقترحاً على أولئك الشباب المسلم المغرر بهم، الذين ينضمون إلى جماعات إرهابية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب وغيرها،ويستخدمون العنف والتفجيرات وحتى التمثيل بالجثث وقتل الأبرياء من المسلمين وغيرهم، ويشوهون رسالة الإسلام السمحة وقيمة الإنسانية، ويشجعون على اضطهاد الأقليات المسلمة في دول الغرب، وعلى ظهور فوبيا الإسلام، والتوجه إليهم بهذا السؤال: إذا كان هدفكم رضا الله والجنة وخدمة الإسلام, ولديكم الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك بأرواحكم وأموالكم وأوقاتكم وكل غال ونفيس، أليس من الأفضل للإسلام ولكم أن تكونوا دعاة لله على بصيرة، وتتوجهوا إلى مجالات وفضاءات في أشد الحاجة لكم وبخاصة في دول أفريقيا وآسيا، في دول وقبائل كانت مسلمة كلياً أو جزئياً ثم جرى فصلها عن دينها الحنيف بفعل الاستعمار والتنصير؟ لقد أخبرني أحد الدعاة في أفريقيا الذين وهبهم الله القبول والكياسة والحصافة، والعمل وفقاً لما جاء في الآية الكريمة " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " أن مجالات الدعوة للإسلام في القارة الأفريقية تلقى قبولاً عظيماً جداً لا يمكن وصفه، بل أن مجرد مساعدات مادية بسيطة ومصاحف وكتيبات ومنشورات ودعاة يتصفون بالمحبة وبالسماحة وسعة الأفق والصبر كفيلة بدخول الإسلام إلى معظم دول القارة الأفريقية وقبائلها، لأن الإسلام في سماحته وقيمه الإنسانية ومبادئه السامية له جاذبية وتأثير وقبول لا حدود له على النفس البشرية، وما انتشار الإسلام في عصرنا الراهن على الرغم مما يواجهه من تشويه، من قبل أعدائه وحتى من بعض بنيه إلا تحقيقاً ومصداقاً لوعد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " وللاستشهاد بما أقول، أمامي الآن مثالان نبيلان، يؤيدان مقترحي السابق، وهما الداعية الكويتي في إفريقيا الدكتور عبد الرحمن السميط والداعية السعودي في الفلبين الشيخ سعود العوشن رحمهما الله وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيراً، واللذان أسلم على يديهما مئات الآلاف في أفريقيا والفلبين وبنيت آلاف المساجد والجوامع والمراكز الإسلامية وحفرت الآبار وأطعم الفقراء بجهود معظمها ذاتية، ويقيناً أن هناك الكثير جداً من الدعاة المسلمين الذين أبلوا بلاء حسناً على شاكلتهما في العالم، لا يتسع المجال لذكرهم في مقال قصير، وخير ما يختم به في هذا المجال قوله صلى الله عليه وسلم (لأن يهد الله بك رجلاً واحدا خير لك من حمر النعم)، لعل أولئك المغرر بهم يعودون إلى جادة الصواب، وكي يقدموا للإسلام خدمات هو بأمس الحاجة لها في هذا العصر. *** *** *** 1/ جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم. ط2، بيروت: المكتب التجاري للطباعة..، 1957 م، ص 129 (بتصرف). 3/ عبد الرحمن السبيت وآخرون، كنت مع عبد العزيز، ص: 285 4/ بول أرميردنيغ، ترجمة عبد الله السبيعي، أطباء من أجل المملكة..، ص ص 53-54 5/ محمد الشويعر، شقراء: مدينة وتاريخ، ج2، ص 112-117 6/ المصدر السابق، 116-117 7/ ناصر الحميضي، صحيفة الرياض، ع 15879، 20/1/1433، ص35 8/ حمود الضويحي، صحيفة الرياض، ع 15635، 11/5/1432، ص26 9/ رواية الأستاذ الدكتور أحمد حمد السناني، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ** ** - د. صالح بن عبد العزيز آل عبد اللطيف