الإبداع في الأفكار لم يكن يوماً وقفاً على زمن, أو أفراد, أو جماعات الإبداع موهبة تصقلها مهارة الممارسة, والدربة على الصقل, وتحفيز ملكتها باستلهامها, وتوظيفها فيما تولده من مُنتج, سواء فكرة تطرح للآخر, أو عمل يقوم به مبدعها في مجال ما أبدع فيه, أو يقوم به غيره بإمكانية تنفيذه,.. والإبداع لا يقف عند العمل الفني بأنواعه, والكتابي بأنماطه وأشكاله وموضوعاته, بل يمتد فيشمل بابتكاره أساليب التربية, والتعليم, والإنجاز, وتأسيس الدافعية للعمل, وتقديم أفكار مبتكرة لتطوير فكرة ما, أو مُنجز ما, تدخل في معامل الخبراء من أطباء, وعلماء, واقتصاديين, وتجار, وبنائين, وتصل إلى مواقد الطبخ, وغرف الأخبار, ومنصات الدرس, والإعلام, بل الأم أيضاً والأب لهما أن ينضما لصف الإبداع حين يبتكران أساليب نافذة, ومؤثرات فاعلة, في تأسيس أبنائهم تربوياً, فكراً, ونفساً, وسلوكاً, واعتماداً على الذات, والثقة في القدرات الذاتية... كل إنسان يمكنه أن يكون مبدعاً حين يجعل بيئته محضناً وموقداً لبلورة ملَكاته, وغرس أفكار إبداعية في نسيج ما حوله, وفي ماء سقيا تربته.. كل إنسان قابل لأن يكون ماهراً في جانب موجود في زاوية من خبايا تكون للبيئة التي يتنفس فيها فرصة التنفس في هواء نقي, مكوّن من التشجيع, وإتاحة الفرص, وتكرار التجربة ولو عند انتقاء كلمات يقولها في موقف, والقبول, والدفع نحو التكرار, والمحاولة, والدأب.. لذا تتوالد الأفكار المبدعة التي هي أُس الاعتداد بالخبرة الفردية, والتمكن من المهارة, والعمل الإيجابي نحو الإنجاز,.. ولأنّ الأفكار هي البوتقة, والمفتاح, فإنّ بيوت الخبرة تبتكر الأفكار, الأمر الذي جعل المؤسسات باختلافها تلجأ إليها, ثم تضع قوانين لحماية الحقوق الفكرية, وماهي إلاّ للحفاظ على ما للأفراد من حقوق فيما يقدمونه من إبداع باختلافه..!! أذكر أنّ أول ما واجهني من خبرة خصوصية الأفكار أنني وجدتهم في أمريكا يبيعون الأفكار, ما أصابني بدهشة, ونحن نقدمها بلا تفكير فيها, وهم يتلقون عنها مقابلاً مادياً, وعندما تابعت التعرف على الحيثيات لم أجد فرقاً بين ما نقدمه من أفكار على الأقل فيما نكتب, وفيما نعلِّم ونُدرِّس, وفيما نوجِّه ونربي, بل فيما نعمل, إذ نحن في كل أداء داخل أروقة مؤسسة الجامعة على سبيل الخبرة والممارسة الذاتية كنا نبتكر الأفكار, ونقدم أفكارنا بمجانية مذهلة لا نطالب من أجلها بأي مقابل مادي, بينما يُقدم هذا المقابل لأي خبير/ة أو مستشار/ة يجلبونه من الخارج ليقول كلاماً قد لا يكون جديداً علينا, ويرسم خطوطاً قد يتمطى في رسمها على الورق, ونحن ببلاهة نضيف, ونعدل, ونقوِّم, ثم ننفذ بلا حق يحفظ لنا إلا أننا المسؤولون وهو الخبير, ثم إنّ أفكارنا تمضي مع هواء الحجرات التي نغادرها, ثم مع الأيام بعد أن يجيء من بعدنا فينقض ما بنيناه, يجري هذا في كل مكان, حتى أفكارنا على الورق كتّاباً وأدباء نجدها قد أُخذت عنا, وكثيرها طار بها من مع الأشرعة يطير.. حتى صدرت أنظمة حقوق الملكية, وأخذ الآن الأفراد ممن يريدون إثبات حقهم فيما أبدعوا وابتكروا يطالبون بحق أفكارهم, وأقوالهم, ويصل الأمر إلى القضاء, والمحاكمة, ودفع ضريبة الأخذ بلا حق ممن أخذ...! ما أود الوصول إليه, ليس هذا الجانب الذي ورد في السياق, وإنما جانب تحفيز مهارة الابتكار, ورفع التراب عن بذرة الإبداع في الجيل, بحيث يتعودون على شغل عقولهم, وتعويد أذهانهم, وتدريب ملكاتهم على ابتكار الفكرة المبدعة, وإخراج كوامن خزائنهم, في بيئة خصبة للإبداع المختلف, لأنهم في زمن مادي صعب, يمكنهم من حيث يؤسسون واقعاً متطوراً أخاذاً بإبداعهم الأفكار الأخاذة المجدية والمنتجة, يجدون رافداً يعينهم على حياة فيها تطمئن قلوبهم إلى أنّ أحداً ما لن ينزع فرحتهم بما ينجزون, لأنّ ثمة قانون يحفظ لهم حق امتلاك أفكارهم .. فزمن الفكرة المرسلة, الفكرة الموهوبة في مهب الريح, قد ولّى وعلى المساكين الذين أفنوا أعمارهم في إبداع الأفكار, وابتكار الحلول للإنسان في متاهات الحياة دون مقابل, أن يحتسبوا أجرهم للإنسانية ما بقيَت..!