1. لم يتنامَ التغيير إلى أوراق عمري إلا نزرًا يسيرًا على قدر ما يحفل الزمان بالمتغيّرات، إلا أن ملامسة التغيير المنشود في كوامن النفس البشرية من أصعب ما يكون؛ إذ إنه لا موازنة بين أمل في ترك مذموم وطموح في اكتساب الأفضل، وفي إطار زاوية أخرى إطار البحث عمّا يربت على أكتاف أحلام طاولت أسقف الواقع وبالنظر إلى ما خلف هذا اليوم فأنا لم أعد كما أنا نسخة تكرر طباعتها دون النظر إلى محتواها. لم أعد صدى لصوت مرّ بي في قارعة طريق أو صاحبني في حياتي، نفضت عوالق السير وفق أهواء الناس عن جوارحي، لهذا أكتب، الكتابة ليست حبرًا مرسلًا ولا نفسًا أرستقراطية، إنما هي فضاء للوصول إلى معاني البوح في غير تكلف هي لغة عاشت بين جوارح كاتبها فامتثلت التواضع. أكتب لأنني لا أفهم الحقيقة إلا إذا كتبتها وتأملتها وتساءلت عنها، أكتب لأن الكتابة بناء وهدم، بناء لفكرة في عقلي وهدم لأخرى، ولعل هذا تفسير للعبارة التي أوردها الدكتور سعود اليوسف في مقالته (وللأشجار أرواح): «لا شك أن الكتابة أيضًا مثل القراءة ففي وسعها أن تحيل ما نكتبه جزءًا من تكويننا العقلي والروحي». أكتب لأنني وجدت نفسي أقل شخص أخذ حظه من القراءة، فأنا أكتب لاستخرج ما في جعبة الآخر من أفكار، أكتب لئلا أفقد حاستي السادسة، أكتب لأتخلّص من اللزمات اللفظية والفكرية أيضًا، أكتب لاستنطق قاموس اللغة: لغة الكون، الحروف، الألوان، العواطف... أكتب لأعتذر للكتابة ذاتها؛ لأننا شوّهنا رسمها بأخطائنا الإملائية واللغوية بل وحتى جمالية الخط، لأننا نضخ فيها كمًّا هائلًا من الطاقة السلبية وهي لا تزال على قيد الحياة. أكتب لأن أمي ذات مساء قالت لي وهي غاضبة مني أنتِ لا تتقنين سوى التفكير. 2. حيرة في الوقت الذي يقول د. سعود في حديثه عن مقالة (شرف لا يستعار): «تبدو خلف مقالة شرف لا يستعار نفسٌ متدرعة بجبروت روحي متين شعرت بها وأنا أغوص في أعماق كلماتها التي تشف عن قوة نفسية هائلة ...». تراه يثبت في فقرة أخرى من المقال مقولة لأحدهم: (ولا ريب أن «الذات وهي تكتب أنما تفعل ذلك لكي تدل على كل ما هو مفقود منها وبذا فهي لا تدل إلا على ما هو سواها وما هو غيرها وكأنما الذات هنا تنفي نفسها من خلال الكتابة...»)، كيف استطاع أن يشعر بذات الكاتبة رغم أن الكتابة تنفي ذات كاتبها؟ هل تتلبسنا الكتابة إلى الدرجة التي يصبح فيها نفي الذات هو الوجه الآخر للإثبات؟ هل الكاتب يعبر عن الصورة المثالية التي يفترضها لنفسه ولكن في صورة بطل آخر ثم يأتي القارئ ليقرر ذلك، بل ويردد هذه الصورة على سمع الكاتب، وبذلك تكون الكتابة فلسفة لحقيقة التعاون الإنساني؟ أم أن نفي ذات هو تعريف آخر لما قاله الكاتب أورهان باموك «أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيرها»؟ 3. (أتدري لماذا نحب الكتابة «سنورد أسبابنا الأخريات ونغفل أّنا ذكرنا بقلب السؤال الإجابة»). 4. متى لا نكتب؟ من العجيب أنه - على الرغم من أن الكتابة تنبثق عن كل العواطف التي نشعر بها أو نصورها والمعلومات التي تتدثر بها عقولنا- يمر على الكاتب فترات يشح فيها اليراع فلماذا لا يكتب؟