تصحب ميادة خليل في روايتها (نسكافيه مع الشريف الرضي) بين بغدادوامستردام. الروائية والمترجمة العراقية تقدم في 110 صفحات من السرد الرشيق والمكثف والحبك المتماسك عملا روائيا يكون مفتاحه كتاب ديوان الشريف الرضي الذي يربط بين قصتي الراوية، آمنة العراقية المهاجرة الى هولندا ودافيد الهولندي وقصة حبه بسلمى البغدادية، في تجربة أدبية تستحق التوقف، ليس لخصوصية العمل الأدبي وحسب بل، لتجربة الكاتبة، الأم التي قررت نشر أول عمل روائي في عمر ال»44» لتدخل مخاطرة الوقوع بين فشلين أو انتصارين، الأمومة أو الكتابة، إلى جانب انشغال خليل بالترجمة وهي التي أصدرت العام الماضي، ترجمة الكتاب الهام (الروائي الساذج والحساس) لصاحب نوبل، الروائي أورهان باموك. وحول روايتها وترجماتها ودخولها عوالم الكتابة جاء هذا الحديث مع الروائية والكاتبة العراقية: * كتبتِ رواية متماسكة، ومتقنة من الناحية الفنية، ماذا يمكن أن تقولي عن هذه التجربة؟ - هذه الرواية هي حلمي. طوال حياتي كنت أتمنى كتابة القصص التي تدور في رأسي. قصص الخيال، كتابة الخيال. اخذتني الحياة الى مسارات أخرى بالطبع، ولكن مع أول فرصة للكتابة، كتبت. كتبت مسودات لعدة روايات، ولم أفكر حينها في نشرها. هذه الرواية إحداها. كانت البداية مع الشريف الرضي الشاعر العراقي الذي قرأت له كثيراً، أغراض كانت مرمية كالعادة في نهاية الشارع الذي اسكن فيه، وخبر موت عجوز منسي في شقته، كل هذا اعتدت عليه، لا شيء جديدا. لكن فجأة ارتبطت هذه الاشياء مع بعضها في رأسي، هي آمنة، وهو دافيد. كانت تجربة صعبة ورائعة. صعبة لأن كل شيء كان جديدا بالنسبة لي، حتى مع فكرة أن لا أحد سوف يقرأ هذا. ورائعة لأني شعرت بالحرية وأنا أكتب، بلا خوف، بلا قيود، بلا رقيب، أكتب ما يدور في رأسي فقط، ما أراه أنا وحدي ولا يراه غيري، وحرة في كتابته كيفما أشاء. ذلك الشعور بالتحليق في عوالم أخرى لن تعرفها إلا عن طريق الكتابة. كتبت القسم الأكبر من الرواية في المكتبة العامة، منفصلة تماماً عن الواقع، محلقة بين امسترداموبغداد. أظن أني مهما كتبت من روايات فيما بعد هكذا أظن! لن تكون مشابهة لهذه التجربة. * في الرواية تكثيف واضح ساهم في تماسكها وخلوها من الحشو.. هل السبب فقط صغر حجم الرواية أم ماذا؟ - امضيت عاما ونصف العام الى عامين في كتابة الرواية. المسودة الاولى للرواية كانت 320 صفحة، كانت مضحكة. لكن مع إعادة القراءة، والحذف انتهت الى هذا الحجم، بعد حذف ما يقارب ال 220 صفحة. لم انتبه الى اعتبارات الحجم، التكثيف، وما يجب وما لا يجب في الكتابة. بالنسبة لي الرواية اكتملت الان، عند هذا الحد، هذه هي القصة، لا يمكن أن أضيف لها أو أحذف منها شيئا. تخلصت من كل شيء لا يخدم فكرة الرواية. في البداية كنت اقرأ الرواية مرة بعد مرة وأراها تافهة، وأحيانا ينتابني شعور باليأس، اتركها وأعود لها بعد أسابيع واقرأها بشكل آخر، لأضيف أو أحذف منها وهكذا. لذا لم اتعمد حجم الرواية. هكذا يجب أن تكون القصة ولا شيء آخر. * إلى أي مدى أفادتك عملية الترجمة والاطلاع على الرواية الحديثة في كتابة روايتك، في السرد والبناء واللغة؟ - ذهبت الى الترجمة في الأساس لكي أدخل منها لكتابة الرواية. لأني كنت أريد الكتابة ولا أعلم من أين يجب أن أبدأ. ترجمت الكثير من العبارات والنصوص التي تتعلق بالكتابة اترجمها وادونها في دفتري الخاص وقرأت عن كتابة الروايات أكثر من قراءة الروايات نفسها. خدمني هذا كثيراً، وأعني الاطلاع على تجارب الروايات الحديثة خاصة في الغرب ساعدني في بناء اسلوبي الخاص، أو تحديد هويتي الخاصة في الكتابة. * في الرواية ملامسة أدبية لموضوعات الهجرة والحنين والهوية المزدوجة للإنسان العراقي في الغرب.. وهي موضوعات تتكرر في أعمال عراقية متعددة، ما الذي تظنين أن روايتك أضافته؟ - لا أعرف إن كانت روايتي قد اضافت شيئا أو بمَ اختلفت عن أعمال عراقية أخرى. لأني لم أطلع على كل هذه الاعمال. لكن استطيع القول ان الرواية تناولت الجانب الإنساني في حياتنا مهما اختلفت ثقافتنا، مشاعرنا في الحرب، في الحب، نحو العائلة هي ذاتها. دافيد كان يعيش بسلام في هولندا ولكنه قرر الانفصال عن ماضيه وعائلته والسفر الى مكان آخر، وعندما عاد الى هولندا، عاد مع سلمى حبيبته لبداية جديدة منفصلة عن كل ماضيه أيضاً، وهذا هو الحال مع آمنة التي هاجرت وعادت لنفس الدوافع الانفصال عن الماضي مع اختلاف الطريقة والاسباب والتعامل مع الظروف. الهجرة والحنين والهوية والاغتراب كانت خلفية للأحداث. * أصدرتِ ترجمة كتاب أورهان باموك، بعنوان (الروائي الساذج والروائي..) لو تحدثيني عن هذا الاختيار؟ - كما ذكرت سابقاً، الترجمة كانت مدخلا للرواية. قرأت الكتاب وكأني عثرت أخيراً عما أبحث عنه طوال حياتي. اعجبني جداً، وبدأت في ترجمته فوراً. كان لهذا الكتاب تأثير كبير على نظرتي للرواية والكتابة بشكل عام. لم اقرأ كل أعمال باموك قرأت أغلب أعماله لكن هذا الكتاب عمق رؤيتي لكتاباته وتجربته مع الكتابة من ناحية: أن الرواية ليست بالأمر السهل والمتاح للجميع. وقرار أن تصبح كاتباً هو قرار مصيري. في بحثي عن إجابة لسؤال كنت اسأله لنفسي دائماً: ماذا أريد من كتابة الرواية؟ هل أنا بحاجة لهذا فعلاً؟ ماذا سأضيف؟ الاجابة كانت في هذا الكتاب. كل اسئلة الرواية كانت في كتاب "الروائي الساذج والحساس" واجاباتها من عالم باموك نفسه. * كيف تنظرين لتعامل الناشرين مع المترجم العربي من اللغات الأجنبية؟ - معظم الناشرين وليس الجميع ينظر للمترجم على أنه موظف عنده، يتعامل معه على أنه "آلة ترجمة"، المترجم ليس آلة. المترجم مبدع مثله مثل الشاعر والكاتب، وله رؤيته، وله حق اختيار الكتاب الذي يترجمه، ويجب أن يثق الناشر في اختياره. معظم الناشرين لا يقرؤن وهذه هي المشكلة، يفرضون رؤيتهم لتسويق الكتاب على المترجم، متقيدين في اطلاعهم على الاعمال العالمية بعبارات: الاكثر مبيعاً، جائزة نوبل، جائزة بوكر، أو سهولة توفر حقوق كتب معينة. لكن هل تستحق هذه الاعمال الترجمة؟ ما مدى أهميتها للقارئ العربي؟ هذه الاسئلة يجيب عنها المترجم فقط. المترجم "القارئ" خاصة مثل المنقب عن الكنوز، يقرأ ويكتشف، ويشعر بضرورة تعريف القارئ العربي بهذا الكتاب أو هذا الكاتب. اقتراحات المترجم نادراً ما يعيرها الناشر اهتماما. وهناك قيود أخرى وحسابات أخرى لدى بعض الناشرين في النشر والترجمة لا علاقة لها بالإبداع. معايير الربح والخسارة لا تتعارض مع اختيار ونشر الأعمال الجيدة، فلماذا لا نختار الأفضل؟! لماذا لا نعرف القارئ العربي على كتب لم تُكتشف بعد!. * الكتابة والترجمة ملأت حياتك.. من ربة بيت مشغولة بشؤون المنزل إلى روائية ومترجمة لها اسهام ثقافي بارز. لو تحدثيني عن هذه التجربة؟ - صدرت روايتي الأولى وأنا في ال 44. كلما تقدم بي العمر تزداد حاجتي للعودة الى حلمي، الكتابة. الترجمة ليست أساسية بالنسبة لي، لكنها أصبحت الان مثل هواية، كلما قرأت كتابا أو نصا جميلا، أترجمه الى العربية، لدي رغبة في أن يطلع القارئ العربي على شيء لم يعرفه، أو مشاركته في شيء جميل ومهم بالنسبة لي قرأته وأريد أن يطلع عليه لأهميته. هذا "الانفتاح" على نصوص وكتب أخرى واتاحتها للقارئ العربي أصبحت هاجسا بالنسبة لي، هواية لا أستطيع التخلي عنها. لكن الكتابة هي الاساس. كان كل شيء في حياتي يبعدني عن الكتابة، بل ويجعلها أمراً مستحيلاً. منها أني أم لولدين، أو ربة بيت. المرأة الكاتبة تواجهها صعوبات الكتابة وحياتها الخاصة، وهذا لاحظته حتى في ثقافات مختلفة. الأم هي الأم في كل مكان وتحت أي ظروف، لكن الصعوبة تكمن في جمع شخصية "الأم" و"الكاتبة" معاً في كيان واحد، أمر ليس بسهل أبداً. في هذا الصراع إذا صح أن نسميه هكذا يجب أن تنتصر احدى الشخصيتين على الاخرى. أنا أتحدث هنا عن تجربتي الشخصية بالتأكيد، وربما هناك كاتبات لم يتعرضن الى هذا، بل وكانت الأمومة دافعا مهما لهن في الكتابة. هناك شعور بالقلق، الخوف وعدم الرضا يصاحب الأمومة دوماً. "الشعور بالذنب" كما قالت الروائية التركية أليف شافاك، وهذا نفسه ملازم للكتابة أيضاً. بالنسبة لي أنا أم أشبه الى حد ما دوريس ليسينغ، ربة بيت لا تشبه ربات البيوت اللواتي اعتدت على رؤيتهن في حياتي، كأمي وأخواتي مثلاً، أشبه ربة البيت التي ذكرتها الشاعرة العراقية رشا القاسم في قصيدتها "أشياء لا علاقة لها بالوحدة". أحاول أن أكون نفسي طوال الوقت، أحياناً تفشل ربة البيت في مهامها، وأحياناً كثيرة أخرى تفشل الكاتبة.