في خريف عام 2006ألقى الروائي التركي "أورهان باموك" لمناسبة فوزه بجائزة نوبل كلمة بعنوان "حقيبة أبي" @ رسم فيها صلته الرمزية بأبيه من خلال التركيز على محتويات حقيبة تركها الأب لدى الابن "قبل وفاته بعامين أعطاني أبي حقيبة صغيرة مملوءة بكتاباته، مخطوطاته ويومياته، وعلى طريقته المعتادة في المزاح والسخرية أخبرني أنه يريدني أن أقراها بعد رحيله، وهو يقصد موته.. كان أبي يبحث عن مكان يضع فيه الحقيبة، يتردد جيئة وذهاباً مثل رجل يود التخلص من عبء يولمه. وفي النهاية وضعها بهدوء في زاوية متوارية. كانت لحظة مخجلة لم ينسها أي منا أبداً". لكن نُسيتء حقيبة الأب حيث هي، فلا حاجة للابن برؤية ما تحتويه ما دام الأب حياً، فكأن فتح الحقيبة يضمر رغبة في موت الأب، فذلك أمر شائن يصعب قبوله. لم يفكر الابن بذلك، وربما لم يرغب فيه، وباختصار فهو لم يشر إليه، بل سكت عنه، ولكن "بعد أن توفي والدي، قضيت عدة أيام أمر إلى جانب الحقيبة، أجيء وأذهب دون أن ألمسها". ذكر الابن سبباً غير مقنع لترك الحقيبة حيث هي "أول الأسباب التي أبعدتني عن محتويات الحقيبة هو بالطبع خوفي من ألا أعجب بما سأقرأ". لكنه استدرك، وهو على قناعة بأن الآخرين لن يشاركوه في زعمه، فاعترف "كان خوفي الحقيقي، الشيء الحاسم الذي لم أكن أود أن أعرفه أو اكتشفه، هو احتمال أن يكون أبي كاتباً جيداً. لم أستطع فتح حقيبة أبي لأني كنت أخشى ذلك. بل أسوأ من ذلك، لم أستطع أن أعترف بذلك الخوف بيني وبين نفسي. فلو تحقق خوفي وخرج أدب عظيم من حقيبة أبي، فإنه كان لزاماً عليَّ أن أعترف أنه داخل أبي كان يكمن رجل مختلف تماماً. وكان ذلك احتمالاً مرعباً، لأنني حتى مع تقدمي في العمر كنت أريد لأبي أن يبقى فقط أبي، وليس كاتباً". لا يريد الابن نظيراً له في الكتابة إنما يريد أباً فحسب. كان الأب رحالة، وشبه مغامر، جعل الأدب في رتبة ثانية بعد الحياة، وهذا سبب كاف ليجعله مخيفاً بالنسبة للابن الذي يرى "أن بداية الأدب الحقيقي هي رجل يغلق على نفسه الباب في غرفة مع كتبه". يعتقد الابن أنه لكي تكون كاتباً ذا شأن فينبغي أن تقبع طوال عمرك بين جدران أربعة تحوك خيوط أسطورة أدبية، ولأن الأب تخطى تلك الجدران برحلاته إلى الغرب، فيحتمل أن يكون قد ثلم تلك الصفة المجيدة، وهي العزلة التي يراها الابن السبب الوحيد وراء وجود الكاتب. يعتكف الابن في غرفة مغلقة يكتب رواياته، فيما يسافر الأب من أجل أن يعيش، ويكتب انطباعاته، وملاحظاته، ومذكراته، مودعاً إياها في حقيبة مقفلة. لا فرق، في نهاية المطاف، بين الاثنين، فكل منهما يخبئ نفسه أو تجاربه في مكان بعيد عن الأنظار، الأول يعيش حياة معلنة، ثم يخبئ تفاصيلها في حقيبة، والثاني يعيش حياة سرية، وينشر تفاصيلها على الملأ. لا يريد الابن الاعتراف بخطئه، لكنه يتجاسر ويفضح خطأ الأب "حين أرسلت نظراتي إلى حقيبة أبي، بدا لي أن ذلك هو ما سبب انزعاجي.. أحزنني أن أرى أبي يخبئ أفكاره العميقة في هذه الحقيبة، أن يتصرف كما لو أن العمل كان ينبغي أن ينجز سراً، بعيداً عن أعين المجتمع، والدولة، والناس. ربما أن هذا كان السبب الرئيس خلف شعوري بالغضب من أبي لأنه لم ينظر إلى الأدب بالجدية التي نظرت بها". لا يبدو السبب متماسكاً، ومتسقاً، فالابن نفسه كان منزوياً في غرفة يحلم في أن يكون كاتباً. يحدث كل ذلك والحقيبة مركونة إلى جواره، ولم يجرؤ على فتحها، ثم فجأة يتكشف الأمر "حالما فتحت الحقيبة استعدت رائحة الرحيل فيها، تعرفت على عدد من اليوميات.. كان معظم اليوميات التي أخذتها بيدي ضمن ما كتبه حين تركنا إلى باريس في شبابه. كنت أتمنى أن أعرف ما كتبه أبي وما فكر فيه حين كان في عمري حينئذ. ولم يمض وقت طويل قبل أن أدرك أنني لن أجد شيئاً من ذلك. ما أزعجني أكثر من غيره كان عثوري هنا وهناك في اليوميات على صوت الكتابة لديه. لم يكن ذلك صوت أبي، قلت لنفسي، لم يكن صوتاً حقيقياً، أو على الأقل لم تكن له بالرجل الذي عرفته أباً. تحت مخاوفي ألا يكون أبي هو أبي عند الكتابة، كان ثمة خوف أعمق: الخوف ألا أكون في أعماقي أصيلاً، ألا أجد شيئاً جيداً في ما كتبه أبي، كل ذلك زاد من مخاوفي أن اكتشف أن أبي وقع تحت تأثير هائل لكُتَّاب آخرين وأن أهوي نتيجة ذلك في حالة من اليأس التي عانيت منها بشكل سيئ حين كنت شاباً، على النحو الذي أثار الأسئلة حول وجودي نفسه، رغبتي في الكتابة وما أنتجته". ظن الابن أنه من الخطأ أن يكون امتداداً لأب كاتب وقع تحت تأثير كُتَّاب آخرين، فهذه سلسلة مزعجة من التأثيرات التي تخفي موهبة الابتكار، وتعيقها، وتخربها، ولهذا يرغب في أن يكون أبوه أباً فحسب، كي تبدأ الأمور بالابن، أي به. هذا شعور نفسي خطير عالجه من قبل فرويد بطرحه فكرة "قتل الأب" أي عدم امتلاك الهوية الناجزة بوجود تبعية تربط الابن بأبيه. خالج أورهان هذا الشعور، فظل يحوم حول فكرة الأب، وحول الحقيبة المقفلة، وفي النهاية فهو لا يريد أن يعترف بأهمية محتوياتها، فبعد تردد أقرب منه للتكاسل فتح الابن الحقيبة "قرأت المخطوطات واليوميات القليلة"، فما الذي كتب عنه أبي؟ أتذكر بعض المشاهد القليلة التي رآها من شبابيك الفنادق الباريسية، بعض القصائد، المفارقات، التحليلات". ثمة عزوف لا يكافئ حال الترقب المتصاعدة التي لازمت الابن تجاه الحقيبة، ولأنه خذل بتركة أبيه، وخان الاتفاق الضمني حول عدم الإطلاع عليها إلا بعد وفاته، فقد وارب في قول الحقيقة، بل كذب "لم أخبره أنني فتحت الحقيبة وحاولت قراءة محتوياتها؛ بدلاً من ذلك نظرت جانباً، ولكنه فهم. تماماً كما فهمت أنه فهم. ولكن كل هذا الفهم وصل إلى أقصى نقطة في ثوان. لأن أبي كان إنساناً سعيداً ومرحاً وواثقاً من نفسه، ابتسم لي بالطريقة التي يبتسم دائماً. وأثناء مغادرته البيت كرر الأشياء الحلوة والمشجعة التي كان دائماً يقولها بوصفه أباً". واضح أن الأب كان أكثر ثقة بنفسه من الابن، إذ غفر الخطأ.لم يرد الابن أن يعثر في الحقيبة إلا على ما كان يتخيله، ويريده، ويرغب فيه. والحال إنه تأكد بأنه غير موصول بنسب كتابي ذي شأن، فقد كان أبوه مشروع كاتب لم يحالفه الحظ، أما الابن الذي انكبّ على تنقيح موهبته بصرامة كاملة، فقد تحقق له ما أراد. ربما تكون "حقيبة الأب" كناية عن حافز مضمر ركن في زوايا مكتبة الابن طويلاً، وفي وقت متأخر دفعه الفضول لرؤية ما تحتويه، وربما تكون الحقيبة رمزاً لعبء الأبوة التي يتجنب فتحها كثير من الأبناء إلا بتأفف كيلا يعترفوا بالمديونية تجاه آبائهم. وربما يضمر الأبناء كراهية لفكرة الاستمرارية عبر آبائهم، ويريدونها في أبنائهم. لم يشر أورهان إلى أبنائه، إنما أشار إلى كتبه، ففيها انتسابه اللاحق، ومنها ينبغي أن تبدأ الأشياء المهمة، وفي هذه الحال ينبغي قطع دابر الأبوة. معظم خطاب أورهان باموك كان حول حقيبة الأب، ثم فجأة أحس بأنه أغرق مستمعي حفل نوبل في حزن شخصي، واعترافات ملتبسة، وذكريات لا قيمة لها، حول حقيبة فارغة بمعنى من المعاني، أي خالية مما يمكن أن يكون محل إثارة واجتذاب لنخبة جاءت تصغي لروائي انتزع جائزة كبيرة، فانعطف بدون مقدمات إلى موضوع أثير عند الكُتَّاب جميعاً. فتح قريحته التي لازمها عسر واضح طوال وصفه لحقيبة أبيه، فقال "اسمحوا لي أن أغير الأجواء ببعض الكلمات اللطيفة التي ستفعل، كما أرجو، فعل تلك الموسيقى. كما تعلمون، السؤال الذي يوجه لنا معشر الكُتَّاب غالباً، السؤال المفضل، هو: لماذا تكتبون؟. إنني أكتب لأن لدي حاجة ذاتية للكتابة! أكتب لأنني لا أستطيع القيام بعمل عادي مثل بقية الناس. أكتب لأنني أريد قراءة كتب كالتي أكتب. أكتب لأنني غاضب منكم جميعاً، غاضب من كل أحد. أكتب لأنني أحب الجلوس للكتابة في غرفة طوال اليوم. أكتب لأنني لا أستطيع المشاركة في الحياة الواقعية إلا بتغييرها. أكتب لأنني أريد الآخرين، أريدنا كلنا، العالم كله، أن يعرف أي حياة عشنا، وما نزال نعيش، في اسطنبول، في تركيا. أكتب لأني أحب رائحة الورق، والقلم، والحبر. أكتب لأنني أؤمن بالأدب، بفن الرواية، أكثر مما أؤمن بأي شيء آخر. أكتب لأن الكتابة عادة، عاطفة. أكتب لأنني أخشى من أن أنسى. أكتب لأني أحب المجد والاهتمام الذي تجلبه الكتابة. أكتب لكي أكون وحيداً. ربما كنت أكتب لأني آمل أن أفهم لماذا أنا غاضب جداً جداً منكم جميعاً، لأنني غاضب أشد الغضب من كل أحد. أكتب لأني أريد أن يقرأني الآخرون. أكتب لأني بمجرد أن أبدأ في كتابة رواية، أو مقالة، أو صفحة، أريد أن أنهيها. أكتب لأن كل واحد يتوقع مني أن أكتب. أكتب لأن لدي اعتقاداً طفولياً بخلود المكتبات، وبالطريقة التي تجلس بها كتبي على الرف. أكتب لأن من المثير تحويل كل ما في الحياة من جمال وثراء إلى كلمات. أكتب لا لأروي قصة، ولكن لكي أنشئ قصة. أكتب لأني أريد الهرب من الهاجس المزعج بأن ثمة مكاناً لابد لي من الذهاب إليه ولكني -كما يحدث في الحلم - لا أستطيع الوصول. أكتب لأني لم أستطع يوماً أن أكون سعيداً. أكتب لكي أكون سعيداً". تخيل أورهان أنه بتنضيد قائمة طويلة من الأسباب التي تدعوه لكتابة الرواية سوف يحدث مرحاً بين المستمعين، والقراء، فيما بعد. وبوصفي أحد هؤلاء القراء لم أفرح بذلك، فما قاله نوع من التكرار الذي لا يلقي ضوءاً كاشفاً على عالمه الروائي، فلم اقتنع بأنه لهذه الأسباب يكتب، ولا أريد منه أن يستطرد بهذا النمط من الهلوسة، ويذكر كل ما يعن على باله من أسباب تدعوه للكتابة، فأنا أبعد ما أكون عن كل ذلك، ولست ناقداً متطلباً يريد من الكُتَّاب ما يرغب فيه، ولكن معظم أسبابه للكتابة لم تنتزع إعجابي، لا الشخصي ولا النقدي، ولم تستأثر باهتمامي، ووجدتها دون ما وجدته في مدونته السردية، فلو مضى مع حقيبة أبيه لكان أفضل، فرسم تلك العلاقة الغامضة مع الأب، وإنتاج صورة رغبوية له كان أهم مما جاء بعد ذلك. على أنني لا افترض أيضاً أن الكُتَّاب واعون تماماً بأسباب الكتابة، كما يعيها النقاد، على أنه بالنسبة لأورهان باموك أظن أنه من الحق أن نقول إنه لم يتطرق أبداً إلى الصلة الكبرى التي تربط كل كاتب حقيقي بالكتابة، فعبر الكتابة يقيم الكاتب حواراً متعدد المستويات مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع العالم. ليس للكاتب طريقة للحوار إلا من خلال كتبه، ففيها تقبع رؤاه، ومواقفه، وتجاربه، وتأملاته، وتخيلاته، ولا يشفع لأورهان باموك اختزال أسباب الكتابة إلى مواقف شخصية عارضة تتصل بالغضب أو الاسترضاء، أو الرغبات العابرة، أو ملء الفراغ، أو الانخراط في كتيبة المؤلفين، أو إنتاج الكتب، فالكاتب المعاصر صار باحثاً عن موقعه في العالم، وموقع الثقافة التي يمثلها، وباموك نفسه ممن شغل بهذا الموضوع كثيراً، وتعرض لهوية تركيا الحديثة، وهي تعيد تعريف نفسها بين إرث امبراطوري ثقيل، بل مرهق، من جهة، ودولة علمانية تبحث لها عن موقع في خارطة العالم المعاصر، من جهة ثانية، ناهيك عن الصراعات العميقة في بنية المجتمع التركي حول الأقليات، والمعتقدات، والحريات، والهويات، والانتماءات الثقافية، وقد عالج باموك كثيراً من تلك الأمور في رواياته. أعتقد أنه صمت عن السبب الرئيس للكتابة بوصفها حواراً وبحثاً، فنقّب عن لا شيء في حقيبة فارغة من أجل إبعاد تأثير الأب، واقتراح انتساب بديل. @ اعتمدت على ترجمة د. سعد البازعي، لخطاب أورهان باموك، وقد نُشر على حلقتين في جريدة "الرياض" يومي 20و 2008/3/27.