(إن السبيل الوحيد لتعلّم كيفية استعمال شيء بشكل صحيح يتمثل في: إساءة استعماله !.. وفق انطباعي على الأقل أستطيع القول بصدق: إن المصائب الصغيرة التي نتجتْ عن ممارستي لحرّيتي قادت دائماً إلى سُبُل شفائها) ! ذكرياتي/طاغور . لكلّ فنّ أدبي تقاليده العريقة، وسِماته الفارقة، وأساليب تعبيره المتجدِّدة أيضاً، وتظلّ الوصية الذهبية الدائمة لشُداة الشعر: أن يتزوّدوا من نبع روّاده الأوائل، وأن ينهلوا من فيض أساطينه المبرِّزين فيه على امتداد العصور؛ ليختطّوا بعد ذلك نهجهم الشعري الخاص بهم؛ لكنْ ماذا عن أهمية الفنون الأدبية الأخرى -وتحديداً: فنّ الرواية- في تشكيل الوعي الشعري وفتح آفاق أوسع له عند الشاعر المعاصر؟ عادةً تمتح الموهبة الشعرية في انطلاقتها البِكر من معين البواعث الذاتية عند الشاعر الملقّحة بالقراءات الشعرية المنوَّعة؛ غير أن هذه البواعث الذاتية ما تلبث أن تنضب في أواخر العشرينات من العمر على أبعد تقدير، وإذا لم يطوِّر الشاعر أدواته، ومنابع الاستمداد لديه، ويُوسّع من دائرة قراءاته واهتماماته الثقافية؛ فسيقع في النمطية والتكرار القاتلين لموهبته الشعرية، ولعل هذا ما يدفع كثيراً من الشعراء إلى استلهام الرؤى الشعرية الجديدة من التاريخ حيناً، ومن الأساطير حيناً، ومن الروايات في أحيان أخرى. والسؤال الآن: كيف تُلهِم الرواية الشاعر؟ وكيف تستطيع –وهي الفنّ المختلف- أن تزيد من خصوبة أدواته الشعرية؟.. لنتذكّرْ أولاً أن الرواية تشترك مع الشعر في لغتها الفنية؛ وإن تمايزت عنه في أساليب التعبير عن هذه اللغة الفنية، كما تتفق معه في استهدافها للعاطفة الشعرية داخل الإنسان؛ مع التباين الواضح بين الفنين في درجة التوتر الشعري المطلوبة في كلِّ منهما، ولعل هذه الخصوصية الفنية للرواية هي التي تجعلها أقدر على مفاجأة حساسية الشاعر، أولاً من خلال قدح رؤى شعرية جديدة في داخله لم يكن ليصل إليها لولا دخوله في عوالم الرواية، وثانياً عبر تأثره المتوقّع بأسلوب الرواية في معالجة هذه الرؤى البعيد عن الخطابية والتعبير المباشر، وثالثاً بسبب العمق الإنساني الذي تمتاز به بعض الشخصيات الروائية؛ حتى لتتحول عند القارئ إلى صديق محدّد الملامح والسمات؛ وكأنه قد عاش تجربة حقيقية للتعرف عليها في أرض الواقع، وهناك شخصيات روائية شهيرة في تاريخ الأدب الحديث استطاعت أن ترسِّخ وجودها «الواقعي» في مخيال التلقي؛ كشخصية: جان فالجان في: البؤساء لهيجو، والعطّار جرونوي في: العطر لزوسكيند، وفلورنتينو في: الحب في زمن الكوليرا لماركيز، وأحمد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، وعيسى الطاروف في: ساق البامبو لسعود السنعوسي، ومن هدايا الحياة الكبرى لأيّ شاعر أو أديب: أن يتعرّف على مثل هذه الشخصيات الملهِمة لخياله وعواطفه، والقادرة على إذكاء قريحته بالرؤى الشعرية المتجدِّدة . وأُبادر هنا لأبدِّد وهْماً قد ينشأ من فكرة: الاستلهام، فقد يكتفي بعض الشعراء باستعمال الأسلوب الحكائي –وليس الروائي- في قصائدهم، وهذا أسلوب قديم في الشعر لا جديد فيه، كما قد يعمد عدد من الشعراء إلى التوظيف السطحي للرواية المعاصرة في الشعر؛ عبر اقتباس عنوان رواية مشهورة، أو محاكاة موضوعها العام في قصائدهم؛ كما صنع نزار قباني مثلاً في قصيدته: لوليتا التي استعار عنوانها من رواية نابوكوف الشهيرة، وهذا كله لا يدخل فيما نتحدث عنه هنا؛ لأن التمثل الحقيقي لروح الرواية إنما يتجلى في توظيف الآليات الأعمق للقصّ: المشهدية، وتعدّد الأصوات والرؤى، وانفتاح التأويل . 2 لعبة التأجيل: (- ادسو: ماذا يُخيفك أكثر في الطهارة ؟..- غوليالمو: التسرّع !) . اسم الوردة/أمبرتو إيكو. من الملحوظات الأولية عند المقارنة بين الشعر والقصة أن الرواية أبطأ من الشعر: في الزمنين: زمن الإبداع، وزمن التلقي، وهي كذلك أبطأ منه في زمن الوعي: إذْ يتشرّب الإدراك دلالاتها على مهْل وبرويّة أكثر، وهي أيضاً أبطأ في زمن النسيان: فتقاوم بثبات أكبر قانون التسرّب، وتتشبّث لفترة أطول بمكانها من الذاكرة، وكأنما قدَر الرواية أن تكون في صحبة أبدية مع التريّث والتدبّر وإعادة النظر، ومن هنا فإن مستويات القراءة والتأويل في الرواية تظل –بالإجمال- أكثر ثراءً من الشعر؛ ذلك لأن المعنى فيها ليس واحداً، كما أنه ليس طافحاً على سطح النص، وإنما يتسرّب عميقاً في طبقاتها الدلالية المتعددة، ويتناثر وئيداً عبر أصواتها المتباينة والمتناقضة في وجهات نظرها؛ متجسِّدةً في: الراوي، وأبطال الرواية، والمسار المتشابك للأحداث. هذا يعني أن الحسم الدلالي في الرواية بعيد المنال، وإنما غاية القارئ أن يهجس بالمعنى، وأن يتصور الدلالة دون تعيين، وأن يعرف في النهاية بأنه: لا يعرف ! وما عليه سوى أن يتتبع بشغف خيوط الرواية الممتدة أمامه، وأن يندمج في لعبة: التأجيل التي لا تنتهي: تأجيل المعنى، والحدث، والمصير. ويبدو أن هذه السمة الروائية تحديداً هي ما سعى عدد من ألمع الشعراء المعاصرين إلى إحلالها في الشعر؛ مثل: سعدي يوسف، ومحمود درويش، وأمل دنقل، وإبراهيم نصر الله؛ عبر تقنية: التأجيل الدلالي؛ ليس لغرض الوصول إلى بيت القصيد في الخاتمة؛ كما كان يصنع عمر أبو ريشة مثلاً، بل المقصود هو: استمرار التأجيل حتى بعد نهاية النص، والقصيدة هنا في حالة تكوّن مستمر، وبراعمها تترعرع في حضور القارئ، وتنكشف ملامحها وظلالها رويداً رويداً أمام عينيه، والشاعر فيها لا يعبِّر عن معنى ناجز وراءه، بل يسعى للظفر بمعنى غائم ما يزال يتكوّن أمامه، وبسبب هذا التأجيل المستمر للحسم الدلالي تتسم القصيدة المعاصرة بقدْر ثابت من الغموض النسبي؛ حتى بعد اكتمال قراءتها؛ إذْ تنفتح على احتمالات متعددة للتأويل . وليس معنى هذا أن جميع الشعراء المعاصرين سلكوا هذا السبيل، وأحلّوا هذه التقنية الروائية في قصائدهم، بل هم متفاوتون في هذا المنحى، وإذا كان الشعراء بفطرتهم رسّامي لوحات؛ فإن طريقة رسمهم متباينة، فهناك من يعرض لوحته جاهزة أمامك، فيُمتع حواسك، ويستثير خيالك، ويستجيش مشاعرك، وهذا دأب معظم الشعراء قديماً وحديثاً، وهم المتّكِئون على التقنيات الشعرية الخالصة، وهناك في المقابل من يرسم لوحته أمامك: لوناً لوناً.. وظلاً ظلاً.. وقطرةً قطرة، ويجعلك تشترك معه في التأمل المتأنّي لتداخل ظلالها وتناغم ألوانها؛ ريثما تتسع أحداقك ملء السماء حين ترى -في لحظة تنوير غير محسوبة- ملامحها المختبئة تتكشّف أخيراً أمام عينيك، وهؤلاء هم الشعراء الروائيون! وخذ مثلاً هذه اللوحة التصويرية والروائية الخاطفة من قصيدة: النهر غريب وأنت حبيبي لمحمود درويش، وهي –وحدها- لا تعبِّر تعبيراً متكاملاً عن هذا الأسلوب الروائي في الشعر، فمثل هذا لا يتحقق إلاّ بالرجوع إلى القصيدة كاملةً في الديوان؛ لكنها تقدِّم أنموذجاً عن الرسم القصصي المتأنّي للّوحة الشعرية: «الغريبُ النهر –قالت- واستعدّتْ للبكاءْ.. لم تكن أجملَ من خادمة المقهى ولا أقربَ من أمّي ولكنّ المساءْ.. كان قِطّاً بين كفّيها.. وكان الأفُق الواسع يأتي من زجاج النافذةْ.. لاجئاً في ظِلّ عينيها... وكان الحلْمُ ذرّاتِ هواءْ» . وللقارئ أن يعود إلى قصائد أخرى تتجسّد فيها هذه المرجعية القصصية للشاعر المعاصر، ويتجلى في معمارها الاتكاء على تقنية: التأجيل الروائية؛ مثل: قصيدة: أغنية من فيينا لصلاح عبدالصبور، وقصيدة: طوق الياسمين لنزار قباني، وقصيدة: الموت في لوحات لأمل دنقل. 3 - القصيدة النمشاء: (آه.. ما أحلى أن تكون بسيطاً مثل أغنية شعبية، مثل نشيد أطفال، مثل جدول.. مثل فتاة نمشاء) ! الحياة في مكان آخر/ميلان كونديرا. من ثمرات قراءة الشاعر للرواية كذلك: أنها تدفعه إلى التخفّف من صخَب الألفاظ، ومن المبالغة المتكلَّفة في الاحتفاء بالفخامة الشكلية، والتوجّه عِوضاً عن ذلك إلى تعميق الرؤية الشعرية، والتركيز على معمار القصيدة، وإحكام بنائها الفني؛ بحيث تتجاوب بصورة أكبر مع الخطرات المتضادة والأصوات المتقابلة التي تتنازع المعنى الواحد داخل التجربة الشعرية، وهو ما يجعل القصيدة في النهاية أصدق في تعبيرها عن الحياة الواقعية؛ بكلِّ عفويتها، وتشظِّيها، ومفارقاتها أيضاً، وتقدِّم قصيدة: أمي للشاعر إبراهيم نصر الله أنموذجاً متميزاً لهذا التوجّه المتعدِّد الرؤى والأصوات، وفيها يقول: «كلّما أبصرتنيَ راحت تردّدُ: ها..شِبتَ قبليَ.. تنشرُ خصلاتِها في الهواءِ.. تفتِّشُ عن شعرةٍ قد رماها البياضُ بأسمائهِ.. وتردِّدُ: لا شيءَ قد شِبتَ قبلي.. وتسألني فجأةً: هل رأيتَ الذي مرّ بي؟! هل رأيتَ خروجيَ من جنّتي.. وضياعي هنا في مكاني المقيّدِ في خطوتي... وتُعيدُ السؤالَ.. أقولُ لها: لن يغارَ العجوزُ الفتى من شبابِكْ.. وتضحكُ ثانيةً: اِعترفتَ! أهزُّ لها الرأسَ كي لا أقولَ: لقد شِبتُ قبلكِ.. هذا لأني أنا من رأى.. يا وليفةَ هذا الصباح المعذَّبِ كلَّ عذابِكْ !». - د. سامي العجلان