أصدرت مجموعة من الشعراء العراقيين بيانا حول قصيدة الشعر التي يتمنون ولادتها وتضمن البيان الرؤيا وضرورة الوجود، من هو الشاعر، وما هيه النص. الرؤيا: عندما احتاجت أمنا الارض رؤية جسدها المنبسط ممتلئا بالحياة، انسكب الماء من قلب الغيب، رطب شفاه الطين، فابتدأت الحياة بكلمة اولى، الانسان، نطق الطين كلمات اخرى كل واحدة منها صارت مخلوقا، واكتمل النطق، فتفاضلت الكلمات فيما بينها افضلها حكمة يكون (سيدا) لها، اميرها، المتصرف، كان الانسان هذا السيد الجليل، اول الكلمات، لقد وضعت الحكمة يدها على رأسه وباركته ورفعته على كل مخلوق. (قصيدة الشعر) هي هذا الإنسان المبارك، النص المختار، الذي اصطفته المفاضلة فحمل ثقل الاختيار. ضرورة الوجود: ان التعاقب التاريخي المكون لفقرات التصاعد الحضاري يحتم ظهور حركات فنية او فكرية في كل مرحلة من مراحله، والحركة التي تولد من حتمية الاحتياج التاريخي لوجودها، تكتسب قدرة الشروع بمزاولة الاضافة الى السابق، بما هو قيم تخدم استمرار النمو الثقافي. وعلى هذا، فان حتمية تاريخية طبيعية انجبت حركة قصيدة الشعر في مرحلتنا هذه، ساعد في ظهورها هاجس تأملي قرائي لمستوى السائد الشعري في الوطن العربي، الح هذا الهاجس على شعراء هذه الحركة بضرورة ارتكازها على رؤيا صادقة مستعينة بالكشف والاستدالال والتحليل، (فقصيدة الشعر) بواقعها التعاملي لا تسعى الى المغايرة المتشنجة مع القديم، تلك المغايرة التي تكتسب صفة التضاد المتولدة من رغبة الظهور او الانتشار بدعوى (خالف تعرف) التي كانت مرتكز الانطلاقات السابقة لعدة اجيال، فالمغايرة التي تسعى اليها (قصيدة الشعر) تبدأ من الانعتاق من ثوابت الاتباع، وبناء سقف دلالي شعري له ملامحه الخاصة يعلو على السقوف السائدة، واكساب اللغة ولادة مدهشة وجديدة، تمتلك براءة المولد وقيمة الادهاش الفني، كقيمة اساسية في اي اثر ناجح يبتكر أسلوبه المتمظهر في بنية فنية ضمن علاقات دلالية جديدة لا تحد بحدود ثابتة، لا تطوير فيها ولا افساح لمجال اضافة الاخرين اليها من الاجيال القادمة. ولكي تنبسط اكف الاحتياج التاريخي المطالبة بولادة (قصيدة الشعر) لابد من عرض بعض المسببات السلبية المنتشرة في عناصر الابداع الشعري وفي السائد الشعري في هذه المرحلة، ولان فعل النهوض بالمستوى الفني يقع على هذه العناصر الثلاثة، الشاعر، النص، المتلقي، مما يعرضها للمحاسبة المشروعة، واول محاسبة لابد ان تكون لمزاولات الشاعر. الشاعر: ان مساعي الشعراء منذ أواسط القرن الماضي اصبحت تتجه نحو البحث عن وسائل سهلة لكتابة الشعر، وسائل انحصرت في اول الامر في تجربة الانتقال الايقاعي من البيت الى التفعيلة، ثم اتجهت الى رغبة التخلص من المساحة الايقاعية التي يفرضها (الوزن) على الجملة الشعرية، فحدث الاستغناء عنه في نصوص نسبت نفسها الى الشعر، ولا يشفع لإنتسابها الا مقولة: ان الشاعر قصد ان يمنح هذا النص صفة الشعر، مستندا الى حق اختيار القصد، وقصده هنا ان يكون ما يكتبه شعرا، حتى وان خلا من الوزن، ان هذا الفعل يزاول عملية نقل القصد من موقعه الذي وجد من اجله وهو (المعنى الأدبي) الى كيفية الاداء، ان تخلي القصد عن موقعه يدفع بالنص الى المجانية واللا ادبية، وهذا ما دفع الى ظهور طوفان الدواوين الذي غرق فيه الشعر وذابت ملامحه وحيويته في مياه حامضة، لقد تخلى كثير من الشعراء عن الوزن وهم بفعلتهم هذه تخلوا عن عوامل مهمة للنص الشعري، ولان مزاولات الشعراء ترافقها بعض الدعوات التي لا ترتكز على وعي قرائي مخلص، فان الدعوة التي تطالب بالتخلي عن الوزن، تشيع انه من الايقاعات التي لا تلائم عصرنا، وانه عندما وجد وجد من خلال ايقاعات الحياة اليومية للاوائل - حياة الصحراء - وهو أقرب الى مشية الابل والحد وعند سفرهم، وهو اي الوزن ايقاع يلائم حياتهم القديمة!! ولو طلبنا منهم اثبات هذا الرأي علميا من خلال البحث لوجدنا ان النتيجة تثبت انه مجرد إفتراض إفترضه بعض النقاد لسبب وجود الأوزان وكيفية نشأتها عند العرب، وهو ليس دليلا قاطعا على نشأتها، اذ يغيب عن اذهان الدعاة لهذا الافتراض ان الوزن هو حصيلة الامكانات الصوتية للغة، فالبحور العربية هي من حصيلة هذه الامكانات الصوتية في اللغة العربية، وكذلك يمكن ان يقال هذا عن الاوزان في اشعار الامم الاخرى. وان اختلاف الانتظامات الايقاعية للوزن بين لغة واخرى يؤكد انه متولد مباشرة من الامكانات الصوتية لكل لغة، ولان اللغات تختلف في بناها الصوتية فان اختلاف الانظمة الايقاعية للوزن امر طبيعي. ان تخلي الشعراء عن الوزن افرز انقسامات ذوقية فاصبح (الإشكال الشكلي) مسيطرا على جانب كبير من هم الشاعر، بدل ان يوجه الهم الشعري نحو عناصر التفعيل في المعنى الادبي، وقبل ان يتم التوصل الى حل هذا (الإشكال الشكلي) انعطف الشعراء العرب نحو عوالم التلبس بالأفكار الفلسفية الغامضة وهيمنة الغرائبية التي لا تمنح اي شيء فاصبحت النصوص الشعرية عبارة عن توليفات لفظية مبهمة خالية من اي معنى ادبي، ولا نستبعد تاثير الحركات الغربية المنقولة على الشعراء العرب فهي من اهم عوامل الانعطاف السلبي نحو تقليد المستورد بالتفكير والانتاج، فمثلا لم يكن وضع الأسطورة في الشعر العربي الا شعورا من الشعراء العرب بان ثمة نقصا في تراثهم الشعري من جهة عدم تعامله مع الاسطورة، فانكب المستغلون على ادخالها، وهنا اصبح الستابق على الاستيراد من الغرب والعمل به باسرع وقت كي يحصل الشاعر المنفذ لهذا على صفة ريادية. لقد تنازلت اكثر هذه النصوص المنتجة تحت هذه الرغبة عن الجوانب الفنية، فعلى صعيد الجملة الشعرية انخفض مستوى الاداء الاستعاري والاشاري فيها لتحل محله شروح واستطرادات تسمح للاسطورة بالدخول الى النص. وهكذا توافدت مسميات كثيرة وتجارب عديدة مستوردة، كان على الشعراء العمل بها لمجرد ان دعوات الحداثة والتجديد تريد ذلك. وعلى ضفة اخرى ثمة مزاولات لشعراء احتفلوا بمكاسب التطبيل الايديولوجي ورفع اللافتات والشعارات في القصائد، او استثمار العواطف الدينية، او السياسية، بنصوص هابطة لا يشفع لها عند المتلقي الا موضوعها المحرم على المعترض النيل منه. لقد ظل الشاعر العربي على هذه الحالة يتأرجح بين الاستيرادات من الغرب والاحتياجات الوقائية من مهيمنات القوى في الداخل مما اضعف مقدرته على انتاج نص شعري بمستوى الهم الشعري الملتصق بلحظته التاريخية وبأرضه ومجتمعه. النص: ينطبق بعض ما ذكرناه عن مزاولات الشعراء السلبية على العنصر الثاني (النص) بوصفه نتاج فعل الفاعل. او وقوف النص بين الشاعر والمتلقي يوقعه بين عنصرين يختلفان في النية والرغبة مما يجعله تحت مطالب عديدة منها محاولة تثقيف النص الشعري، وهي رغبة تنبعث من الشاعر لتسلط على النص بزج المعلومات المستحصلة من فعل الاطلاع من دون الاكتراث بالمتلقي، وقد انتجت هذه الرغبة نصوصا مخصصة لفئات معينة تكاد تتوازى بمستوى الاطلاع مع الشاعر، وهذا النوع من النصوص كأنه يكتب من اجل النقاد، مع الانتباه الى ان نصوصا اخرى اخذت على عاتقها التوجه للعامة، لقد تجزأ النص الشعري نتيجة لتجزؤ رغبة الشاعر وتجزؤ المتلقي ايضا - وان تجزؤ المتلقي ظاهرة قديمة جدا - مما افرز شعورا جماعيا بعدم المشاركة في الاستلام، وتخلخل الايصال في عملية التلقي بين المستويات المختلفة، وهذا ما دفع بالنص الى دائرة ضيقة في الانتشار والتعايش الفعال في الثقافة بسبب غربته عن مستوى التحصيل الثقافي، وهكذا يموت الإيصال في النص. ان رغبة التثقيف النصي الناجحة هي التي تقوى على تحويل المستحصل الثقافي الى شعور يتجلى عند الكتابة متمثلا حالة في صميم التجربة المعيشة، مستغنيا عن زج اطلاعات الشاعر بالصيغ الخطابية او التقريرية بوساطة الجمل الاخبارية المبتعدة عن حيوية المجاز، ان الشعر قادر على استيعاب المستحصل الثقافي على ان لا يفقد حيوية انفعالاته وبراءة وجوده وطزاجة صوره. المتلقي: ان افعالا اخرى تسمم وعي العنصر الثالث (المتلقي) تلك هي الاشاعة الصادرة عن الشعراء الدعاة، فلكي يكون ما يدعون اليه يقينا جماعيا فلابد لهم من اشاعة تشويهات للأسس التي يرتكز عليها النشاط الشعري، وان اتخاذهم لقاعدة يروجون لنتائجها تقول: (ان كل جديد يهدم ليبني)، وفي الحقيقة ان الجديد يبني فوق البناء السابق، انه النمو، ولن نجد اي جديد في اي عصر مضى استطاع ان يهدم ويمحو اثر السابق، وهنا تلتبس الحقائق عند المتلقي حين يقع فريسة لما يشاع، فقد يقع على نص شعري يدعي شاعره انه كتبه لقارئ مستقبلي، لان المتلقي المعاصر للشاعر لا يرتقي الى الرؤيا التي يتضمنها النص..!! وهو يكتبه للمتلقي القادم عبر المستقبل الذي سيفك رموز وشفرات النص..!! ان دعوات مثل هذه تسببها رغبة التميز من الاخرين، فكيف يضمن ان المتلقي المستقبلي يفهم نصه اذا كان من يعاصره لم يتواصل الى فهمه؟ ثم، ألسنا الان في عصرنا هذا نمثل المتلقي المستقبلي للشعر العربي القديم؟ الم يكن هذا الشعر يلقى حضورا عند المتلقي في عصره؟ انها دعوات تقف في وجهها العديد من الادلة لتبطلها، وهي محاولات للتستر ناتجة من خواء الموهبة ونضوب ملكة القول الشعري لدى الشاعر، متكئة على اعذار التجديد. وينسى من يعمل بهذه الدعوات ان التجديد هو اضافة مؤثرة في عصرها، ولا يعني ان يكون النص مبهما انه جديد. لقد شاركت هذه الدعوات في عزوف المتلقي عن قراءة الشعر، وهو لا يحمل وزر هذا العزوف وحده، وقد لا نبالغ عندما نقول انها محاولات لتشويه صورة الشعر العربي الحديث عند المتلقي، فهو مستورد او تقليدي او مستقبلي، وهو مبهم اشبه بالطلاسم، لا يجد المتلقي في نفسه اي اثر عند قراءته لنص شعري من هذا النوع، ولان عملية اصطدامه بالنص تكون حالة اكتشاف له، يتخذ بكشفه درجة من الوعي تعمل على اظهار رغبة ان يكون هو من توصل الى هذا القول الموجود في النص الشعري الناجح، وان اندهاش بالمتلقي بالتوافق بين دواخله وبين ما يعرضه النص من معنى أدبي، تكون محركا اساسيا لانتاج الاثر الفني الذي يستعين بالاشارات والتلميحات الشعرية التي تتجه الى العالم الداخلي للمتلقي والى الخارج ايضا، انه اكتشاف ما اراده المتلقي من الشيء الذي لم يتوقع ما يريده فيه، انها سمة الحياة الدائمة في كل قراءة للنص الشعري، وليس ذلك الا لان النص يمتلك عناصر تؤهله للاستمرار عبر الزمن، انه الشعر القادر على اخراج الانسان من سكونيته وزمنيته نحو فاعلية روحية متسامية تلامس الغيب والمخفي، وكل شيء يستحيل تحصيله في الواقع يكاد يكون في قبضة اليد هنا.. (قصيدة الشعر) المصطلح والمفهوم دواعي استدعاء المصطلح: كان لمصطلح (قصيدة الشعر) حضورا لدى العديد من نقادنا المعاصرين الا ان نسبة شيوعه ظلت ضيقه بفعل ما اراده له النقاد عند استدعائه كمؤشر يشير الى النصوص الموزونة التي تقف قبالة ما ظهر من نصوص (قصيدة النثر) فكان ان جرد هذا المصطلح من اي سمة فنية سوى وجود الوزن، الا ان موقفنا التعاملي الجديد في مشروعنا قام بترحيل هذا المصطلح من حالته السابقة الى مفهوم محمل بقيمة ما نريده من الشعر، ليجد له مكانا يقف عليه داخل متن الشعر العربي. ومما يثير الانتباه في مصطلحنا هذا ورود كلمة (قصيدة) مضافا اليها كلمة (شعر)، ذلك لان الفهم الشائع عن كلمة قصيدة بانها تعني الشعر، وهذا الفهم الذي ساد لفترة طويلة رغم خطئه نتج عن قصور في القراءة النقدية لهذا المصطلح في تراثنا، لم تكن القصيدة عند الاوائل تمثل الشعر دوما. فبمراجعة اي معجم يتبين ان كلمة (قصيدة) تمتلك شرطا هو ان يكون لها مساحة عرض قرائي او كتابي، اي عدد من الابيات او الاشطر وما لا يقل عن (7) ابيات. وما قل عن هذا العدد وصف عند القدماء بتوصيفات اخرى مثل القطعة الشعرية او النتفة او الرباعية او البيت اليتيم. وهذا يعني ان هذه التوصيفات تعد شعرا ولا تعد قصائد، مما يوصلنا الى نتيجة ان الشعر يمكن ان يوجد خارج القصيدة، كما ان كل ما زاد زيادة مفرطة صنف في ما بعد تصنيفا اخر هو القصيدة المطولة. ولم يكن هذا الفصل محصورا بأدبنا العربي اذ ان اشارات كثيرة ترد عند شعراء وأدباء غربيين قديما وحديثا تجعل للقصيدة مساحة عرض تفي بمتطلباتها الفنية، ويظهر لنا ايضا، ان مساحة العرض للنص الادبي هي من عوامل التفريق بين النصوص في جميع الاجناس الادبية الاخرى. فلم يكن التفريق بين الرواية والقصة والقصة القصيرة يرتكز على الخصائص الداخلية فحسب، بل كانت مساحة العرض للنص عاملا أساسيا في التفريق بينها، عاملا يؤثر على جوانبها الداخلية ويتدخل في خصائصها الفنية. ولا يمكن الاعتراض على ان القصيدة في كل الادبيات العالمية حازت على شرط آخر، في ان تكون ضمن تنظيم ايقاعي مهما كان نوعه. وكذلك لا اعتراض على كون القصيدة هي نص مولد للبنى الدلالية المتكاملة في سعيها للحصول على سمات الوظيفة الفنية، وبوجود نصوص كثيرة تمتلك كلا الشرطين - مساحة العرض والتنظيم الايقاعي - الا انها تعاني من تشظي بنيتها الدلالية او تكون ساعية الى اغراض نفعية اخبارية ليست من صميم الوظيفة الفنية، وهذا يجعلها مستبعدة عن الانتساب الى صفة (قصيدة). فالقصيدة ليست شعرا دائما وكما ذكرنا واكدنا سابقا انها مكان وزمان للحدوث الشعري - النثري تمتلك هوية وجودية فنية خاصة، وان الشعر يمكن ايجاده خارج مساحة القصيدة ايضا. ولان خلطا خاطئا يحدث بين الشعر وبين القيمة الفنية للعمل الادبي يجعل وجود نص نثري يمتلك امكانات جمالية عالية في جملة وتعابيره واستعاراته يحسب على انه شرع، وهذا اما مجاز يقال لتعبير عن الاحساس بجمالية النص النثري، او سوء فهم انتشر في الوعي الجمعي ساعد المجاز السابق في انتشاره. ويجب ايراد تعريف او تحديد لهوية القصيدة في (قصيدة الشعر) لاجل ان تكون الرؤيا واضحة فالقصيدة هي (متناه شكلي مقترن بزمن قرائي محدود في لامتناه دلالي عبر تنظيم ايقاعي مؤسس في بنية كلية موحدة تنجز وظيفة فنية معتمدة في مادتها على مكونات الشعر او النثر). ان القصيدة في حالتها هذه تشبه المسرحية فاذا كتبت بالشعر اصبحت (مسرحية شعرية) وان كتبت بالنثر اصبحت (مسرحية نثرية)، (فقصيدة النثر) في مفهومنا تنتسب الى النثر. انها تمثل تحقق القصيدة في المتن النثري كما تمثل (قصيدة الشعر) تحقق القصيدة في المتن الشعري، ولا تعطي القيمة الجمالية لقصيدة النثر الحق في انتقالها من متن النثر الى متن الشعر، وذلك لان جميع الاجناس الادبية تشترك في انجاز القيمة الجمالية. ولان قصيدة الشعر تنقسم الى فرعين هما (قصيدة البيت) و(قصيدة التفعيلة) يصبح لزاما علينا ايضاح الفهم المتعلق بكل من هذين المصطلحين.