واحدة من الشاعرات العربيات القليلات التى يحسب لها تمردها على النسق التقليدي في بناء وجماليات النص الشعري حيث تؤمن بقصيدة النثر التي تتعالى على القيم الجمالية الرتيبة والقديمة , وتسعى جاهدة لتحقيق تميزها الشعري من خلال تبنّى رؤى حداثية تتجاوز بكثير المطروح على الساحة حالياً . فبعد ديوانها الأول (( بلاهات مبتكرة )) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تطل علينا الشاعرة ريم اللواتي بديوانها الثاني (( كوميديا الذهول ))الصادر عن دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع , ذلك الديوان الذي يدهشك للوهلة الأولى بسبب طبيعة مستواه الفني وعمق رؤيته وتمرد الذات المبدعة فيه على نفسها والواقع معاً, وابتعاد الشاعرة عن الاكتفاء بالتعبير الرومانسي - النسوي – الذي يجنح إلى الفضفضة والمباشرة والتقريرية كما نلمح في عدد كبير من النصوص المطروحة على الساحة حالياً .لذلك فقصيدة ريم اللواتي فى هذا الديوان تحتاج إلى قارئ من نوع خاص هو ذلك النوع الذي أسماه ريفاتير في كتابه ( سيموطيقا الشعر ) بالقارئ الفذ الذي يبحث في قراءته للنص عن المعاني التي تتجاوز المعاني السطحية ويكتشف الأبعاد الرمزية للفظ ويجيد قراءة ما بين السطور . يغلب على معظم قصائد الديوان طابع قصيدة - الأبجراما – وهي القصيدة القصيرة التي تقوم على التكثيف اللغوي مع المفارقة التي تفجّر دلالات متعددة للنص الشعري , كما في قصيدة ( الخراب الأخير ) التي تتحدث فيها عن مدينة مسقط العريقة وقد داهمها إعصار ( غونو ) المداري عام 2007 والنص الشعري عند ريم اللواتي في هذا الديوان يعكس ثقافة ووعياً إبداعياً ونقدياً يتجاوز حدود الموروث الشعري والنقدي العربي , إلى آفاق رحبة تحتضن المُنجز العالمي في هذا المجال كالرمزية , والتفكيكية عند رولان بارت وجاك ديريدا , والكتابة عبر النوعية التي تقوم على استفادة النص من كل أنواع وأشكال الكتابة الأدبية ومحاولة كسر الفواصل والحدود بين القصة القصيرة والرواية والقصيدة , وقد جاءت قصائد الديوان مرآة صادقة لذلك الوعي , وإذا نظرنا مثلا إلى قصيد (( سِفر المتاهة )) نجد النص يحمل كل هذه الجماليات الفنية فيفكك العالم إلى تفاصيله الصغيرة لخلق عالم جديد من خلال توظيف اليومي والمعيشي والهامشي في الحياة ,والاستفادة من التكثيف الذي هو أبرز سمات القصة القصيرة ,مع استخدام السرد الذي هو من خصائص الفن الروائي في قصيدة تحمل العمق الفلسفي الكامن خلف استخدام دالة رمزية هامة هي ( الشارع ) وتوظيف جيد لأدق التفاصيل للتعبير عن تأزّم الواقع والذات معاً , مما يعطي للقصيدة أبعاداً حداثية وجمالية تفتح الباب واسعاً أمام تأويلات شاسعة ومداخل نقدية متنوعة ومتعددة لتناول النص الشعري , إضافة لما يُشعّه النص من فضاءات دلالية رحبة : الشارع الذي كان واقفاً بالأمس تراخت روحه في جلسة باردة الكرسي المجهول يحمل جثة الظل قصيرة مسافة العدم الشارع الماثل في خجل ينظر للافتة ملقاة تحمل اسم المتاهة . وتعرض الشاعرة لوحة فنية رائعة للشارع وترصد أدق تفاصيله في صورة كُليّة مكتملة العناصر : الشارع الذي احتفى بخلوه من المارة كان يعرف أنه سيبقى كذلك القصور المزخرفة حول الأرصفة المنهكة لا تعترف بالستائر جيوبها خاوية من الهدوء . وتضيف الشاعرة للشارع بعداً إنسانيا حيث له روح ويعرف أشياء ويميل في خجل ويحتفي بخلوه من المارة كما أن الأرصفة منهكة والقصور لها جيوب........وهكذا . وتتماس الذات المبدعة وتتوحد مع هذا الشارع وكأنهما حضور واحد وغياب واحد ومشاعر واحدة ومع الوقت نصبح كلنا هذه الذات ونصبح كلنا هذا الشارع أيضاً , ويكفي ما تطرحه القصيدة من تساؤلات : الشارع المجهول يوارب حقيقة الحضور يعرف أن الأسماء جزء من الواجبات المنزلية كم شارعاً اجتاز الحلم؟ كم شارعاً سقط في فخ الوهم؟ كم شارعاً بحث خلف مارته عمّا تركوه له؟ وعاد خاوياً إلاّ من الخيبة الشارع المعزوم لحفلة تنكرية وجد في تكرار الأوجه لعبته المفضلة ومد رجليه في الاسترخاء تاركاً لوحته دون عنوان . واللغة في ديوان ( كوميديا الذهول ) لغة خاصة لا تركن إلى التقريرية أو اللهجة الخطابية المباشرة – كما ذكرت – ولا تركن إلى المجاز بمفهومه التقليدي, وإن استخدمت الشاعرة المجاز أحياناً فإنها تعتمد استخدام الصورة الشعرية الجديدة والمبتكرة القائمة على التشبيه, مثل قولها في قصيدة ( سديم ) : قليلة أوقات صعودك حتى الروح كقصيدة مبتورة كشارع خلفي كوجهي في المرآة يستحضر الماء من بلورك أنت الجاثية على ركبتيك مدينة أصاب أطرافها الشلل . أو تلك الصورة المجازية المبنية على الاستعارة المبتكرة والغير مألوفة في قصيدة ( عزف بإصبع ونصف ) التي تُعبّر فيها عن اغتراب الذات ووحدتها: مدائنه المرسومة احتضارٌ للون لا خارطة تقتنع به ولا الجغرافيا تمد يدها هو المغسول بماء الوحدة يعزف لها بإصبع ونصف . أو في قصيدة ( احتفاء بتوقيت الصفر ): الوقت أيقونة باردة الأعصاب تلتفت حولها بهدوء متفوقة على رنين هاتف أو نقرة ماسنجر . والشاعرة في هذا الديوان تواجه الذات والواقع بكل جرأة, ولِم لا؟ وصوتها المراق يغرغر حضوره ,وهي أيضاً قابض الجمروفي الأصابع لزوجة الإنسان .وهي التي تمشط العدم بحثاً , لأنها ذات مبدعة وقوية رغم معاناتها حيث ( لا يحرقها من الغياب إلاّ دخان يستجير من العتمة بالفراغ ) ولهذا تتساءل : ( ماذا لو تحملتني الحماقات ؟ ) في قصيدة ( حزيران ) . بهذه السمات الفنية يمكن القول : إن ديوان ( كوميديا الذهول ) يعتبر علامة فارقة في تطور القصيدة عند ريم اللواتي وبصمة لصوت شعري يسعى بصدق وقوة نحو التفرد والتجديد ويؤكد أن لقصيدة النثر العربية من القيم الجمالية ما يجعلها حاضرة بقوة رغم كونها أصعب أشكال الكتابة الشعرية حيث لا توهم القارئ بتتابع موسيقي زائف , أو ترضي ذائقته القديمة بقصيدة اعتادها ,بل تدهشه إن لم تصدمه بجماليات ورؤى لم يألفها ويحتاج لجهد -لا يقل عن جهد الشاعر نفسه أحيانا – للتفاعل والتواصل معها . جمهورية مصر العربية [email protected] [email protected]