القراءة هي حياته، وغذاؤه وماؤه وهواؤه،كان يقرأ في كل شيء وعن كل شيء، في الفلك والسّياسة والأدب والطب والاقتصاد والرياضة وحتّى الطّبخ، ومنذ المرحلة المتوسطة، مروراً بالمرحلة الثانوية ثم المرحلة الجامعية بعد ذلك،حتى أصبح يمتلك الكثير من الثقافة، وأصبح موضع إعجاب ومحبة وأيضا مرجعا لزملائه وأصدقائه وأقاربه، باستثناء صديقه الأقرب إلى روحه (عبدالعزيز) فقد كان يحب الطّلعات والوناسة. ولطالما حاول جعل طارق يقسم وقته بين القراءة والتّفسّح، لكن هيهات،لقد أحبّ طارق بجنون شيئين بحياته صديقه عبدالعزيز، والقراءة! وبعد تخرج طارق من الجامعة عيّن معلّما في إحدى القرى النائية، وانطلق هو وكتبه ومجلاّته إلى تلك القرية وهو يشعر بسعادة كبيرة لتحقّق حلمه في أن يكون معلّما، ورغم قساوة الظّروف الحياتيّة في تلك القرية -حيث لا طرق معبّدة ولا كهرباء ولا خدمات- إلا أنّه كان مغامرا وجسورا حيث استأجر غرفتين متواضعتين هو وأحد زملائه للسكن. انطلق يمارس مهنته بكل استمتاع، وما هي إلا أسابيع معدودة حتّى أصبح هو محور المدرسة عملاً ونشاطاً، حيث أشرف على الأنشطة الطّلابيّة وعلى الإذاعة المدرسيّة، وأصبح يقضي معظم وقته في الإعداد لبرامج الإذاعة والأنشطة، وكانت مهنته رافدا لهوايته الأثيرة على نفسه القراءة،حيث زادت قراءاته بل وتنوّعت بحكم الأنشطة الطّلابيّة، واندمج الرّجل في عمله لدرجة جعلت زميله في السّكن يسمّيه الصّامت، لكثرة انشغاله عنه بالقراءة حينا والكتابة حينا آخر. لكن شيئاً ما كومضة البرق، قلب كيانه،وغيّر تفكيره وقناعاته، وبدّل أولويّاته، وهدّأ من سرعته واندفاعه، وأخرجه من عزلته وكتبه، وقلّل نشاطه، وأفقده حماسه، ونسّاه هوايته، شيء ما أعاد خلقه من جديد،وبناء شخصيّته من جديد إنّها بنت جاره الريفي البسيط صاحب المنزل الذي يسكنه طارق وزميله الآخر. ففي ليلة من الليالي طُرق باب البيت بقوة ففتح طارق الباب وإذا بفتاة في الثّامنة عشرة من عمرها تبكي بحرقة وتطلب من طارق وزميله عبدالله نقل والدها الملدوغ إلى أقرب مركز صحي -وهو على بعد ساعة- فانطلقا وبكل حس إنساني مجرّد وحملا الرجل ونقلاه بصعوبة بسبب وعورة الأرض إلى المركز الصّحي حيث تم علاجه ثم أعاداه إلى البيت،وقد أُنهكا تماما. لم ينم طارق في تلك الّليلة، بل لم يستطع النّوم لأنّه لم يستطع تجاوز (ومضة البرق) الّتي رآها، ظل يسأل نفسه ماذا رأيت أنا، ماذا حدث لي، وأشرقت الشّمس وذهب لعمله دون نوم، ودون تركيز،وشيئا فشيئا اتّضح أن طارق لم يعد هو طارق، ترك الأنشطة الطّلاّبيّة والإذاعة المدرسيّة، وترك حتّى القراءة!! رآها بعد ذلك مرّة واثنتين وثلاث،أثناء زيارته هو وزميل سكنه للوالد المريض، حيث نشأت علاقة حميمية مع الأسرة البسيطة، وتوجّه اهتمام طارق لحقوق الجيران أكثر من حقوق الطّلاّب !، وشعر بأحاسيس جديدة نحو الحياة بكل تفاصيلها، أصبح لكل شيء عنده معنى وقيمة مختلفة، الليل والغروب والقمر والماء والمطر والنبات والعطر وكل شيء، وحينها لمع في ذاكرته صديق عمره ( عبد العزيز) الّذي كان يحاول إخراجه من صومعة القراءة إلى فضاءات أُخرى،وكانت كل أحاديثه حول هذه المعاني. يتذكر أنه مرة أسمعه رائعة محمد عبده (لا وهنيك دالهٍ يا سعود.. تمشي وقلبك دايم سالي) وسأله سؤال : هل تفضل يا طارق أن تعيش (دالهٍ) أم (والهٍ)، ولم يجب حينها طارق، وتكررت لقاءات طارق ومسعده وبالطّبع في بيت أهلها وبمعرفتهم،وأحيانا بمشاركتهم، هي لم تكن تستعد للقاءه، كانت تلقاه بطبيعتها وبساطتها وعفويّتها، لكنّه كانت تنسيه كل علمه وثقافته.. تنسيه المذاهب السّياسيّة الّتي قرأ عنها، والقوانين الاقتصادية الّتي حفظها. كانت تلك الفتاة تخرجه من خلافات أمريكا وإيران إلى خلافات شقيقيها محمد وحسن، ومن أخبار ارتفاع أسعار البترول والذّهب إلى ارتفاع أسعار الشّعير، ومن أخبار الحروب إلى أخبار المراعي والأمطار وأخبار حلالهم والشّاة الّتي طاحت وانكسرت رجلها بالأمس، والنّاقة الّتي ولدت بالأمس، كانت هي محور الحديث والجلسة وهي من تدير دفّة الحوار،وهو فقط مستمع.. ومستمتع. حين يُغادر يحل فصل الصّيف بقلبه، فيظل يبحث عن ربيع لقائها باستعادة شريط اللّقاء، ويضحك من بعض أحاديثها وأخبارها، ويقارن ثقافتها بثقافته، ثم يُقرّر أن ثقافته مجرّد معلومات لا تؤثّر في الواقع بشيء، بينما ثقافتها البسيطة على الأقل تؤثّر في الواقع الذّي تعيشه هي، نعم الإنسان المثقف الجاد يتخلّق من جديد بفكر وقناعات جديدة، فقد شعر أن الثقافة قد تكون فتحت له باب التّعايش مع العالم من حوله، لكن «مسعده» فتحت له أبواب التّعايش مع ذاته أوّلاً ثم مع محيطاته الأقرب ثانياً. بعد غياب طال هذه المرّ ة،وعند عودته إلى مدينته في إحدى الإجازات انطلق فورا إلى بيت صديقه عبد العزيز وأخذه معه في السيارة، وأدار الكاسيت ليُسمع عبد العزيز أغنية (يا سعود) فدُهش عبد العزيز وصرخ: «مووو معقوول».. أنت يا طارق، هذا آخر شيء كنت أتوقعه، رد طارق نعم أنا أيها العزيز عبدالعزيز لقد جئت لأجيبك على سؤالك القديم، جئت لأخبرك أنّني اخترت أن أعيش حياتي ك(والهٍ) أحب وأحس بكل ما حولي من شجر وطيور وسحب وغيوم وقمر وماء وسماء وكل شيء كل شيء، و ليس كما كنت في الماضي (دالهٍ) كشجرة يابسة لا تهزها حتّى الرّياح. - جازان