أخرج البخاري في صحيحه (4628) عن جابر رضي الله عنه، قال لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك. قال {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال: أعوذ بوجهك {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال صلى الله عليه وسلم هذا أهون أو أيسر، أي خصلة الالتباس وخصلة إذاقة بعضهم بأس بعض أيسر وأهون. ويؤكد هذا ما أخرجه مسلم في الصحيح (2890) من حديث سعد بن أبي وقاص أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألاّ يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألاّ يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألاّ يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)). ومعنى البأس الذي بينهم قتل بعضهم لبعض، وحصول الظلم والفساد والبغي، واعتداء بعضهم على بعض، كما هو الحاصل في واقع المسلمين اليوم حيث انشغلوا بأنفسهم، ويدخل في معنى البأس الفتن التي تجري عليهم فيؤذي بعضهم بعضا بالأقوال والأعمال، كما هو الحاصل اليوم في وسائل الإعلام من إيذاء بعض المسلمين لبعض، وكذلك اعتداء أهل الباطل منهم على أهل الحق منهم وكل ذلك محنة وبأس حاصل بينهم. ومن هذا الوجه كان أيسر وأهون من الهلاك العام لهم، وقد ابتليت هذه الأمة كما ابتلي غيرها من الأمم بالفتن، جاء ذلك في قول الله جل ذكره: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، ولكن من رحمة الله بهذه الأمة أنه لن يأتيهم عذاب عام من فوقهم ولا من تحت أرجلهم حتى يستأصلهم، كما كان للأمم قبلهم التي اجتمعت على تكذيب أنبيائها ورد كتاب ربها، وقد كان الأنبياء يرون عذاب من كذّبهم يأتيهم من الله بالهلاك والفناء، فكان عذابهم بالغرق كقوم نوح وفرعون، وبالهلاك بالريح كقوم عاد، وبالخسف كقوم لوط وقارون، وبالصيحة كثمود وأصحاب مدين، وبالرجم كأصحاب الفيل. وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد استجاب الله دعاءه في عدم الهلاك العام لأُمته ولم ير أمته تعذّب أمامه، وهذا رحمة من الله لهم وقد خصّ الله هذه الأمة أنه لا يعذبهم بعذاب عام لا من السماء، ولا بأيدي الخلق فلا يهلكهم بسنة عامة ولا بالغرق ولا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم. وامتحان الأمة بهذا البأس الواقع بينهم ليرجعوا إلى ربهم حتى يكفّر الله بذلك سيئاتهم ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم بل تكون العاقبة للتقوى ويكونوا من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجند الله الغالبين، والمعتدي منهم إما أن يتوب فيتوب الله عليه، ومن لم يتب فإلى الله إيابه وعليه حسابه وعلى المؤمنين أن يفعلوا معه ما أمر الله به ورسوله من التذكير والنصح والتخويف، ذكر هذا المعنى بتوسع شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات 2-414. والمسلمون مطالبون بالصبر والثبات وترك الفرقة والاختلاف والبعد عن الفتن والصراعات، حتى لا تقوى شوكة عدوهم، فيتمكن من الدخول إلى بلادهم، فعدو الإسلام يتمنى ويطمع بقاء هذا التفرق والاختلاف ليتمكن من تحقيق مطامعه فيهم فالحذر منهم واجب كما قال الله تعالى لنبيه: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ}.. * وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية