طوال أعوام وعقود، منذ انطلاقه صيف 1956 استضاف مهرجان بعلبك فنون العالم، الحديثة والمعاصرة، التي ضجت بها مسارح أوروبا وأميركا، وقدمها لجمهور لبناني وعربي مثقف وشعبي، راح يتنامى مع تنامي المهرجان حتى أصبح صنواً له، عريقاً عراقته، فريداً فرادة ذائقة هذا المهرجان، الذي نجح أيما نجاح في الجمع بين الاتجاهات الكلاسيكية والطليعية والحداثية والفولكلور الراقي. فرض مهرجان بعلبك نفسه منذ عامه الأول وكان بمثابة الحجر الأساس لعهد فني جديد وغير مألوف لبنانياً وعربياً، فأسس ظاهرة المهرجانات الفنية ورسخ ثقافتها جاعلاً من أعماله مرآة للفنون العالمية التي كانت في أوج تجلياتها. وعلى مسارح بعلبك وفي المعابد الرومانية القديمة أطلت أهم الفرق الفنية والأوبرالية والسمفونية، وهناك عزف أبرز الموسيقيين وقدم أكبر الراقصين والمسرحيين عروضهم: أوبرا باريس، أوبرا ميلانو، فرقة موريس بيجار، لويس اراغون و «مجنون إلسا»، فرقة لامامّا الأميركية، أوركسترا نيويورك، أوركسترا برلين، رواد الجاز العالمي، نورييف، هربرت فون كارايان، بلاسيدو دومنغو... كل هذه الذكريات البديعة خرجت إلى الضوء ليلة استضاف مهرجان أكس اون بروفانس الفرنسي- العالمي العرض الموسيقي- الغنائي - الشعري الذي حمل عنوان «إلك يا بعلبك» والذي ابتكرت فكرته رئيسة مهرجانات بعلبك نايلة دو فريج ، وأعده وأخرجه المسرحي اللبناني- الفرنسي نبيل الأظن. بدت الحفلة التي استضافها هذا المهرجان الفريد أجمل تحية عالمية تُقدم إلى مهرجان بعلبك، في مناسبة الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيسه، وعبر هذه التحية شرّع المهرجان أبواب مسرحه الراقي والعريق، معترفاً بريادته العالمية وفرادته الفنية في العالم العربي كما في بلدان المتوسط. أما حفلة «إلك يا بعلبك» فلم تكن سوى حفلة تمهيدية أو استهلالية لحفلة ضخمة ستقدم داخل قلعة بعلبك في الحادي والثلاثين من الشهر الجاري وبالعنوان نفسه، وفي صيغة احتفالية مفتوحة على مفاجآت فنية وجمالية تحت ضوء قمر بعلبك وفي هوائها الطلق. لكنّ حفلة أكس اون بروفونس كانت بذاتها عملاً فريداً، مشهدياً وموسيقياً وشعرياً، وقد عمد نبيل الأظن إلى صهر هذا الأنواع بعضاً ببعض على الخشبة ليخرج بعرض منسوج بمتانة وعمق وجمال. ولم تكن استعانة الأظن بأسماء فنية لبنانية -عالمية بمعظمها، إلا خطوة مهمة هدف من ورائها إلى إعادة هذه الأسماء إلى سماء الفن اللبناني وتحديداً إلى بعلبك. هكذا حضر موسيقيون كبار يعيشون في الغرب ويقدمون أعمالهم على أرقى المسارح: عبدالرحمن الباشا، غبريال يارد، بشارة الخوري، زاد ملتقى، ناجي حكيم، سيمون غريشي. أما الشعراء الذين تولى قراءة قصائدهم بالعربية الممثل رفيق علي أحمد، قراءة فنية تعبيرية اندمج فيها التمثيل الحذق بالنسيج الصوتي المتعدد الأوتار، فهم: وجدي معوض (ترجم قصيدته عيسى مخلوف)، أدونيس، اتيل عدنان، صلاح ستيتية، عيسى مخلوف. وتولت المغنية فاديا طنب الحاج التي أدت أغنيات عدة بالفرنسية والعربية قراءة القصائد بالنص الفرنسي. لكنّ المخرج لم يحصر الشعراء والموسيقيين بخريطة الاغتراب بل اختار قصائد بالعامية للشاعر طلال حيدر بصفته «شاعر بعلبك»، وطلب أيضاً من الفنان غدي الرحباني كتابة أغنية وتلحينها لتؤديها بالعربية فاديا طنب الحاج وكانت الأغنية عن بعلبك. بدا غناء فاديا لامعاً في الأغنيات التي أدتها بالعربية والفرنسية على رغم أن غدي الرحباني لم يوفق كثيراً في أغنيته شعراً وتلحيناً، فبدت تقليدية بكلامها وبطيئة بإيقاعها وعادية ومكررة، وقد ذُكر في مطلعها الأخوان الكبيران عاصي ومنصور والمطربة الكبيرة فيروز. أما الأغنيتان الأخريان اللتان وضع لحنهما غبريال يارد فكانتا عاديتين لولا صوت فاديا وأداؤها البديع، وبدا أن يارد وضع اللحنين بسرعة من دون أن يدرك سر صوت فاديا. على أن أجمل الأغنيات هي أغنية «الزواج» التي اقتبستها فاديا من فيلم «جبران» (سلمى الحايك) وصاغتها عربياً بما يتناسب مع الموسيقى الجميلة التي وضعها يارد، وقد أدتها ببراعة وشغف وإحساس عميق، وبدت كأنها تقترح صيغة أخرى بعفوية ومتانة للأغنية التي كانت أدتها المطربة فيروز واحتلت بها الذاكرة. هذا العرض الجميل والمتقن إخراجاً وسينوغرافيا ومسرحاً وإضاءة أثار حماسة الجمهور الفرنسي الذي ضم لبنانيين، فهو عرف كيف يخاطبهم مقدماً لهم صورة مختصرة للعرض الذي سيقدم في قلعة بعلبك، فضائه الأصلي ومكانه. وكان عرض في الحفلة فيلم وثائقي عن تاريخ مهرجانات بعلبك أنجزه الفنان علي شري، ببساطة وتوليف بصري غير مصطنع، ومن خلاله أبصر الجمهور مشاهد من أبرز الأعمال الفنية العالمية التي عرفتها قلعة بعلبك، ناهيك عن لمحة موجزة تحكي تاريخه والمعاناة التي عاشها بدءاً من الحرب اللبنانية. واستضافت «فيللا المتوسط» في مدينة مارسيليا فناني العرض والشعراء في لقاء فني وثقافي تحدث فيه الجميع عن مشاركتهم في العرض وعن نظرتهم إلى بعلبك ومهرجانها. وتولى رفيق علي أحمد وفاديا طنب الحاج قراءة بعض القصائد بالعربية والفرنسية.