حين توقف الحواجز «السرافيس» (باصات النقل العامة) التي تمر بجانب المناطق القريبة من الجبهات، «تتسارع دقات قلوبنا نحن الشبان القاطنين في مناطق معينة من العاصمة»، فمن الممكن أن يتم إنزال الركاب الشبان من الباصات وفقاً لعدد معين، وليس لأي سبب أمني أو ديني أو غيره. «فقط سكان مناطق معينة هم المستهدفون» يقول أحد القاطنين في مدينة دمشق القديمة وهو يروي قصة التهجير الحاصل حالياً في المدينة وفي بعض الأحياء منها خاصة. يوقف جنود النظام في العاصمة الباصات، قربهم يقف شبان أجانب، لا يسمح النظام في سورية بإقامة حواجز للمقاتلين الأجانب إلا في بعض الطرق الداخلية ومربعات خاصة، ولكن يقف المقاتلون الأجانب قرب حواجز النظام ليأخذوا بعضاً من السكان، وأحياناً يُنزل جنود النظام السكان من الباصات، ينزلون عدداً من الركاب، قد يكون عشرة أو أقل أو أكثر، وفق ما يحتاج المسلحون والجنود، ويقودونهم إلى أعمال السخرة العسكرية: بناء دشم في السيدة زينب. السيدة زينب منطقة مؤمّنة الآن ولا يوجد فيها اشتباكات، يحصل هذا غالباً على جبهة جوبر وداريا والتضامن والغوطة الشرقية. تعبئة أكياس رمل، حفر أنفاق، سخرة بكل معنى الكلمة، قبل أن يتم إطلاق سراح هؤلاء المحتجزين بعد عدة أيام من العمل. «الحواجز هذه تابعة لشبيحة في أغلبها، ويرافقهم عناصر أجنبية، باستثناء جوار منطقة السيدة زينب وريف دمشق، وهي مناطق لا تخضع إلا لقوانين هؤلاء»، يضيف الرجل الذي يرفض ذكر اسمه أو نشر أي شيء يشير إلى شخصيته في الإعلام. وما يصفه الرجل هذا هو من مظاهر عمليات تشجيع السكان وترغيبهم وترهيبهم للرحيل عن مناطق محددة من العاصمة السورية، إنها عمليات الفرز الديموغرافي المقررة لإعادة توطين سكان جدد في أنحاء متفرقة من العاصمة، وخاصة على مداخل العاصمة، لناحية أوتوستراد درعا- دمشق والسيدة زينب، وأوتوستراد حمص- دمشق، ودمشق القديمة. «داخل مدينة دمشق القديمة يتم استهداف الشباب، وخاصة من الطائفة السنية، من الميليشيات الشيعية المتواجدة يرافقهم شبيحة الأسد، بالتهديد بالاعتقال أو التجنيد الإجباري أو بسوقهم إلى أعمال الحفر على الجبهات لعدة أيام بهدف دفعهم للخروج من سورية. هناك عدد كبير من البيوت التي هجرها أهلها بسبب الحرب والبحث عن مكان أفضل، فقامت ميليشيات «لبنانية– عراقية» باحتلالها، وساعدهم في ذلك عناصر من الشبيحة وقانون أصدرته حكومة النظام»، وفق قول أحد المتابعين للملف نقلاً عن شهادات السكان المحليين الذين يرفضون التعاون إلا في أضيق الأطر، مخافة تعرضهم لأعمال انتقامية. إنها الحرب التي تجبر السكان على الهجرة بصمت أو المكوث بإذعان في بلدهم، وتحت حكم قوات أجنبية. أما القوانين التي يتحدث عنها السكان للناشط السوري، فهي معلنة، وكتبت عنها صحف النظام. ونشر في صحيفة «البعث» يوم 21\5\2014 خبر تحت عنوان «فتح المنازل الآمنة والمغلقة وتأجيرها بقيم تُحفظ لأصحابها»، وهذه المنازل الآمنة هي في مدينة دمشق القديمة، والحديث في الصحيفة عن تعديلات قانونية أتت ستاراً لما يليها من عمليات إجبار السكان بشتى الطرق على الرحيل وحلول سكان آخرين بدلهم هم بعض عائلات ومقاتلي القوات الأجنبية في سورية، أفغان ولبنانيون وعراقيون وغيرها من الجنسيات، وعائلات ضباط القوات الأجنبية وبعض المهجّرين من مناطق أخرى من سورية من ألوان طائفية محددة. وتتسلم لجنة من الدولة السورية بدلات الإيجار على أساس دفعها لاحقاً لمن ترك البلاد أو المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات والنظام. وهذه البيوت أغلبها داخل مدينة دمشق القديمة، وتحديداً حي العمارة الذي يتواجد فيه مقام السيدة رقية ويعتبره الشيعة رمزاً دينياً وأصبحت غالبية بيوته حالياً مسكونة من عوائل المقاتلين اللبنانيين والعراقيين. ويردد السكان المحليون في دمشق أن هؤلاء حصلوا على الجنسية السورية، من دون أن يتسنى لنا التأكد من المعلومات، على الرغم من أنه أصبح من الشائع حمل مقاتلين أجانب بطاقات ضباط من الجيش النظامي، رسمية وموقعة كبطاقات أي ضابط في الجيش. والأحياء التي تشهد نزوح أهلها واستيطان عائلات ومقاتلين أجانب، هدف دائم لقذائف الهاون «مجهولة المصدر»، غالبيتها لا يتم تبنيها من المعارضة السورية. ويهرب أهالي العاصمة من هذه الأحياء المعرّضة للقصف، بينما يقصدها الأجانب من عرب وإيرانيين وأفغان، تحت أنظار سكان العاصمة، الذين يخافون التحدث إلى هؤلاء الرجال ذوي السحنات الآسيوية. ويتحدث سكان من العاصمة السورية عن قيام الأجانب باحتلال بيوت اليهود السوريين الذين تركوا بيوتهم قبل اندلاع الثورة السورية وخلالها بشكل كامل. بينما يقول «عمر» المقاتل السابق في قوات دمشق وأريافها، إن اليهود كانوا حوالى 20 عائلة أو أكثر وغادروا البلاد جميعاً الآن. حي الجورة كان يسكن حي الجورة في باب توما أقلية شيعية، بالإضافة إلى الأقليات المسيحية في دمشق وبعض العائلات السنية. وتحول هذا الحي اليوم إلى حصن للمقاتلين الأجانب الوافدين من مختلف البلدان بتسهيل من قوات النظام. ويمكن المتجولَ في الحي أن يسمع اللهجات واللغات الأجنبية الغريبة عن أذن الدمشقي، والأغاني واللطميات العاشورائية... وكل ذلك وسط مظاهر مسلحة دائمة في الشوارع، وهو ما بث الرعب في السكان ودفع بالعديد منهم إلى المغادرة خوفاً من حوادث طائفية انتقامية، وبخاصة في حال قتل أحد المسلحين على الجبهات أو أثناء تشييع قتلى قبل ترحيلهم إلى بلادهم. وبالطبع لم يسلم المسيحيون أيضاً من اعتداءات الأجانب، حيث تتبع الميليشيات الشيعية الموالية للنظام أساليب الاعتقال أو التهديد بالخدمة العسكرية الإلزامية لدفع العائلات للهجرة وخاصة الشباب منهم. في بداية الثورة، انقسم المسيحيون، بعض منهم أيد الثورة وشارك في التظاهرات، بينما كان العديد منهم يقفون إلى جانب النظام، خصوصاً مع ظهور تنظيمات مثل جبهة «النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، ولكن بسبب دخول المتطرفين الشيعة قرروا الهجرة إلى خارج سورية، على رغم أن نسبة كبيرة منهم مازالت تؤيد النظام السوري. إلا أنه مع تصاعد حدة الفرز الديموغرافي واستيراد السكان إلى المنازل المخلاة أو الخالية، قرر كثير من أبناء الطوائف المسيحية ترك السلاح والتخلي عن التقديمات التي يغدقها عليهم النظام والخروج من سورية إلى أي مكان آمن. أحد المتخلين عن القتال وهاجر من سورية، تحدث عن تجربته بالقول: «كنت مع اللجان الشعبية (مجموعة خاصة من المقاتلين المسيحيين التابعين للنظام في أطر الشبيحة)، وشاركت في عمليات إعادة سيطرة النظام على أحياء السبينة في جنوبدمشق، وهناك شاهدت تصفية الميليشيات الشيعية عائلات سنية، التي كانت تتم على أساس ديني محض. وعلى الرغم من أنني ضد ما يسمى الثورة، ومع الدولة والجيش، إلا أنني قررت ترك البلاد حينها، هؤلاء المتطرفون يحتلون بيوتنا ويقتلون الناس من دون سبب ظاهر». منازل المسيحيين لم تستثن من الفرز أيضاً، ففي حال قرر المسيحيون ترك بيوتهم الواقعة في مناطق سكنهم في الشام القديمة وباب توما والقصاع ودويلعة والعباسيين، فإن الاستيلاء عليها يتم مباشرة من قبل المقاتلين الأجانب، وعلى الرغم من عدم تسجيل أي صدام مباشر بين الطرفين، أي الأجانب الشيعة والمجموعات المسلحة المسيحية، إلا أن العديد من العائلات المسيحية يفضل ترك العاصمة السورية ولو كان الثمن فقدانهم منازلهم. حزب الله وحصة الأسد يروي سكان العاصمة أن المربعات السكنية التي يستولي عليها حزب الله اللبناني هي الأكبر في دمشق القديمة ودمشق العاصمة عموماً، كما يشهد العديد منهم على وجود معتقلات خاصة بالحزب في دمشق، وهي معتقلات سرية يتداول أمرها بعض من السكان نقلاً عمن دخلها أو زارها أو عرف أن أحد أقاربه زارها، وأحياناً نقلاً عن ضباط من الجيش السوري يسربون المعلومات إلى الأهالي لقاء المال. والمعتقلات السرية هذه موقتة فقط، ويتم فيها التحقيق مع المعتقلين قبل أن يتم نقلهم إلى أماكن أخرى مجهولة. وفي كل المربعات الأمنية التابعة لحزب الله، سواء في السيدة زينب أو في قلب العاصمة السورية، وخاصة تلك التي أعيدت السيطرة عليها منذ عامين بعد خروج الثوار منها، كاحياء الذيابية، الحسينية، شبعا، حجيرة، سبينة، عقربا، والمليحة، تم منع السكان من العودة حتى لأخذ أغراضهم الشخصية ومتعلقاتهم، وبقيت بالكامل تحت سيطرة القوات العسكرية لحزب الله، وأُسكن فيها العديد من العائلات. وتعيش هذه المناطق المذكورة أعلاه والسيدة زينب، وضعاً متماثلاً، حيث يمنع الاقتراب منها إلا للشيعة فقط، حتى عناصر الجيش النظامي ممنوعون ويخشون دخولها. وبالمقابل، يتم نقل عائلات شيعية تركت الفوعة في إدلب ونبل والزهراء في ريف حلب ومناطق أخرى متفرقة، إلى تلك المربعات للعيش فيها، بغض النظر عما إذا انضمت إلى مجموعات الدفاع الشعبي أو الشبيحة أو لم تنضم. ويتحدث البعض عن النقل القسري لعدد من العائلات إلى هذه المربعات الأمنية وإسكانها فيها، خاصة أن هناك بينها من يقود شاحنات ترانزيت من سورية إلى دول الخليج العربي ولا يؤمن بالقتال إلى جانب الأسد أو مع الميليشيات الشيعية، وفق ما قال اثنان من هؤلاء في لقاء خاص في العاصمة الأردنية. إعادة تنظيم تحت القصف وبالعودة إلى الجوانب القانونية، فقد أصدرت الحكومة السورية قانوناً يلزم أي شخص يريد استئجار منزل بموافقة أمنية، إلا أن الموافقات الأمنية لم تعط لأي شخص أراد استئجار منزل في دمشق القديمة، خاصة من ألوان طائفية معينة، واكتفي بتصديرها فقط للون واحد من السكان الأجانب هم، ولا أحد غيرهم، المقاتلون من التابعيات العراقية والإيرانية والأفغانية واللبنانية. وبتسريع واضح للعجلة الإعمارية في وضع أمني صعب، تم تفعيل المرسوم رقم 66، وهو سبق أن صدر في 20 أيلول من العام 2012، ويقضي بتنظيم منطقتين عشوائيتين هما: الأولى جنوب شرق المزة، من المنطقتين العقاريتين مزة- كفرسوسة. والثانية: جنوبي المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية مزة- كفرسوسة- قنوات بساتين- داريا- قدم. بدأ في كفرسوسة إخراج السكان عبر توجيه إنذارات ومهل لا تتجاوز الشهرين، ومن المعلوم أن كفرسوسة من أغنى مناطق الشام القريبة من داريا، وتفصل بين داريا والعاصمة. وهناك بعض الأحياء لم تدخل في تنظيم كفرسوسة وتقع بين مناطق التنظيم ومدينة داريا، هي الجزء المستهدف بالتدمير وتحوي مئات العائلات التي نزحت من قصف الأسد، كونها رخيصة الأجرة، وتتردد معلومات أن عمليات الهدم ستتم فيها قريباً لإعادة التنظيم. وكان مدير «التنظيم والتخطيط العمراني» في محافظة دمشق جمال يوسف، أعلن أن إنذارات الإخلاء في المنطقة التنظيمية الأولى جنوبي شرقي المزة، أصبحت قيد التوقيع، وفق ما نقلت عنه صحيفة «الثورة» التابعة للحكومة السورية الثالث من شهر آذار العام الحالي. وأشار يوسف إلى «أن مدة الإخلاء شهران، تبدأ من تاريخ تسلم الإنذار، وأن كل مواطن يتسلم الإنذار عليه مراجعة مقر المشروع للمناطق التنظيمية، مصطحباً معه المستندات التي تثبت إشغاله العقار ليصار إلى صرف التعويض اللازم لبدلات الإيجار»، بينما يتحدث أهالي داريا عن عمليات بيع سريعة عبر تجار أو أشخاص آخرين، بأسعار السوق. وفي جوبر أيضاً طرح البدء بالعمل في المخطط التنظيمي قبل أيام من الحملة العسكرية عليها، ويفترض أن يتم مسحها لإعادة تنظيمها. وفي شمال شرق جوبر تقع المناطق الصناعية في القابون، وهناك من يحاول استملاك المصانع، على خلفية أن المنطقة هي منطقة اشتباكات ومدمرة. وعلى رغم الدمار الحاصل، فإن عمليات الضغط من اجل الشراء تسير على قدم وساق، والأمر نفسه يتكرر في الغوطة الشرقية أيضاً حيث يتم شراء منازل وأراض. إذاً، من البوابة الشرقية للعاصمة (من أوتوستراد حمص) والبوابة الغربية (من أوتوستراد درعا) هناك مخططان تنظيميان، ويتم استيراد السكان إليهما وإعادة إسكان الناس فيهما. ويتحدث السكان في قلب العاصمة عن مدى انتشار الفروع الأمنية في المخططات المنوي تنفيذها هناك، كما عن مدى انتشار العائلات الأجنبية التي تقطن اليوم وستكون غداً من أصحاب الأملاك في هذه المداخل المؤدية إلى العاصمة السورية. نزوح جديد شهران مدة الإنذارات في المناطق المقرر تنظيمها، ولكن منذ أكثر من عشرين سنة أصدرت السلطات السورية إنذارات لعدد من المناطق التي تم الاستيلاء على الأراضي فيها، وهي أراض خاصة وعامة، وبنى عليها رجال النظام، من جنود الجيش وغيرهم من طوائف تساق إلى الذبح اليوم، بيوتاً لهم، ومنذ عشرين سنة إلى اليوم لم ينفذ أي أمر إخلاء فيها. هذه المناطق فيها من العشوائيات ما هب ودب، وهي تكاد تجتاح العاصمة، مثل التضامن، شارع نسرين، المزة 86،، عش الورور، الدويلعة والسومرية (داخل العاصمة)، ولا تزال مقطونة من المؤيدين للنظام، وهي لم تذكر في أي مخطط تنظيمي حديث. وتعتبر مذكرات الإخلاء الجديدة سبباً إضافياً للنزوح من سورية. ولإعادة تكوين عاصمة جديدة بموازين ديموغرافية مختلفة تماماً، تسيطر على المدخلين الرئيسيين للعاصمة وعلى قلبها القديم.