يحدث في أحيان كثيرة أن يشتهر عمل كبير لكاتب ما، الى درجة أنه يغطي على ما يكون هذا الكاتب قد وضعه من كتب أو أعمال أخرى، ما ينسي الناس أن هذا الكاتب لم يمض حياته كلها مشتغلاً فقط على ذلك العمل. ويمكن ذكر حالات عدة في هذا المجال، ولكن من دون أن نغض الطرف عن واقع أن هناك حقاً، مؤلفين، لم يصدروا في حياتهم، أو يصدر لهم بعد موتهم، سوى عمل واحد وحيد. لكن هؤلاء قلة ويكادون يعدّون على أصابع اليد الواحدة. أما القاعدة فهي أن مؤلف الكتاب الكبير، أو مخرج الفيلم الفريد من نوعه، أنتج أعمالاً أخرى وأعمالاً مهمة، لكن عملاً واحداً فقط من أعماله تمكن من التفوق، ليس على أعماله هو وحدها، بل على أعمال الألوف من المبدعين الآخرين فوقف فريداً شامخاً ملقياً ظلّه الكثيف على كل ما عداه. من هذا النوع الأخير رواية «دون كيشوت» احدى الدرر الأساسية في تاريخ الإبداع الأدبي في الأماكن وفي الأزمان كلها. لقد حضرت هذه الرواية الكبيرة ذات يوم، إذ انجزها كاتبها تسربانتس (سرفانتس)، فانتشرت وأدهشت والتهمت كل ما عداها من روايات كانت صدرت حتى زمنها، ثم واصلت ملتهمة كل ما صدر بعد ذلك. غير أن ضحيتها الأولى كانت أعمال تسربانتس الأخرى، حيث إن القسم الأعظم من قراء دون كيشوت» يجهل أن صاحبها اصدر أعمالاً كثيرة غير رواية الفارس المغوار المقاتل طواحين الهواء بين أوهام أخرى. بل إن حياة تسربانتس نفسها تكاد تكون رواية عظيمة وفريدة من نوعها. ثم ان هذا الكاتب الإسباني الكبير الذي تأثر بما كان وصل اليه من نصوص عربية، لا سيما حين كان أسيراً في زنزانته في الجزائر بعدما خطفه قراصنة أتراك، لم يكتب الرواية فقط، بل كتب الشعر والقصة القصيرة والمسرحيات أيضاً. بل يمكننا أن نقول إن مسرحياته كانت خلال مرحلة حاسمة من حياته أكثر شهرة من رواية «دون كيشوت». أما المسرحية الأقوى والأشهر التي كتبها تسربانتس، ومُثّلت كثيراً خلال حياته على الخشبات الاسبانية وغير الاسبانية، فهي «حصار نومانسيا» المسرحية الملحمية الشعرية التي كتبها تسربانتس في مدريد بين 1581 و 1583، لكنها لم تطبع في المرة الأولى إلا في العام 1784. مسرحية «حصار نومانسيا» التي يقارنها كثر من مؤرخي الأدب ونقاده، بأهم اعمال شكسبير ومارلو بل حتى اسخيلوس، قائلين انها بالنسبة الى الأدب المسرحي الاسباني تحتل مكانة تحتلها مسرحيات هؤلاء في آداب بلادهم، اقتبسها تسربانتس من حادثة تاريخية حقيقية وقعت في العام 133 ق.م. وتتعلق بتدمير مدينة نومانسيا، التي كانت «مدينة حرة» على يد القائد شيبيون اميليان، بعد حصارها فترة طويلة من الزمن ومقاومة سكانها للغزاة المحتلين في شكل نادر في تاريخ المدن. لقد دام حصار نومانسيا في الواقع التاريخي زمناً، لكن تسربانتس عرف للضرورات المسرحية كيف يحصر الحصار في أربعة ايام، بل إنه كتب تحت عنوانه المسرحية أنها مأساة فجائعية تقع في أربعة «أيام» بدلاً من أن تقع في أربعة فصول كالمعتاد. في الواقع التاريخي، كما في المسرحية، تجرى الاحداث بعد أن يقرر مجلس الشيوخ الروماني، إذ حاول سكان مدينة نومانسيا، الواقعة في ما يعرف لاحقاً بإسبانيا، كما حاول مسؤولو المدينة أن يتمردوا على ارادة السلطة الرومانية، يقرر مجلس الشيوخ هذا ارسال القائد شيبيون لتحضير حصار المدينة. ويرافق شيبيون في زحفه، منذ البداية أخوه كونتوس فابيوس والعسكريان الكبيران غايوس ماريوس وغورغورنا. في البداية وفيما يكون شيبيون منهمكاً في تقريع جنوده بسبب تقاعسهم في إبداء القسوة تجاه المدينة، يصل وفد من سكان هذه الأخيرة، محاولاً ان يفاوضه للوصول الى استسلام مشرف. ولكن يبدو واضحاً في تلك اللحظة أن شيبيون قد يكون راغباً في أن يستسلم أهل نومانسيا اليه، لكنه يريد لذلك الاستسلام ألا يكون مشرفاً على الإطلاق. ومن هنا يردّ أعضاء الوفد على أعقابهم معلناً بكل صراحة (أو وقاحة بالاحرى) بأنه لا يريد أن يدخل المدينة المفاوضون، بل المنتصرون. هنا يبذل المحاصرون محاولة جديدة، إذ يجدون أن انتصار شيبيون على الطريقة التي يريد سيكلف الجانبين كثيراً من الدماء، والضحايا، فيسألونه عما اذا لم يكن من الافضل ان تخاض مبارزات فردية بين الغزاة وسكان المدينة، تقرر من المنتصر، مقترحين للمعركة الحاسمة واحداً من أكبر أبطالهم وهم واثقون انه سيُهزم أمام شيبيون وبالتالي سيمكن هذا الأخير ان يعلن لنفسه انتصاراً كبيراً. لكن شيبيون يرفض هذا الحل ايضاً، بالنسبة اليه إما الانتصار التام أو لا شيء. هنا أمام هذا التعنت الذي يبديه الغازي الروماني يقرر أهل نومانسيا حفظاً لكرامتهم أمام التاريخ على الأقل، أن ينظموا طلعة مباغتة تفاجئ العدو وتأخذه على حين غرة. ولكن لما كان من الواضح أن هذا الهجوم سيكون انتحارياً لا أكثر، تقف نساء النومانسيين رادعات ازواجهن أو أولادهن عن خوض تلك المخاطرة. وعند ذلك يبدو واضحاً ان الحصار سينتهي بزوال أهل نومانسيا. لذا يسارعون الى احراق كل ما يملكون. فيما يقوم الرجال بقتل جماعي للنساء والاطفال، قبل أن ينتحروا جماعياً بدورهم. وكان من الواضح من هذا انهم طالما ان القدر اختار لهم الفناء والهزيمة، فلن يسمحوا لقائد الأعداء أن يدخل الى المدينة مظفّراً امام أبنائها وقد أذلهم ذلك الانتصار. سيدخل شيبيون المدينة، أجل، ولكن على جثثهم. لن يجد سوى الحرائق والجثث. فأي انتصار له سيكون هذا؟ وبالفعل يفنى كل أهل المدينة بحيث إن القائد الروماني حين يدخلها «مظفراً» لن يجد سوى الموت في انتظاره. لكنه سيجد ايضاً طفلاً يدعى فيريات، نفذ بجلده من المقتلة الجماعية الانتحارية. ولكن حتى فيريات هذا، ما إن يرى شيبيون وجنوده يتقدمون من حصن كان التجأ اليه، حتى يرمي بنفسه من أعلى البرج: هو الآخر لا يريد أن يقع في أيدي العدو. وهذا الجزء الأخير المتعلق بالطفل فيريات، ليس موجوداً في التاريخ الرسمي المكتوب لحصار نومانسيا ودمارها، والذي استخدمه تسربانتس للحصول على المعلومات التي شكلت عصب المسرحية، بل هو استقاه من أغنية شعبية كانت متداولة في اسبانيا في ذلك الحين وعنوانها: «هكذا دمر شيبيون نومانسيا»، وقيل دائماً انها، أي حادثة الطفل، تنتمي في الحقيقة، الى تقاليد حكائية أخرى لكن الحس الشعبي الاسباني اراد أن يضيفها الى حكاية الحصار بغية إضفاء مزيد من الحس التراجيدي والتطوعي عليه. مهما يكن من أمر، من الواضح أن تسربانتس، حين انكب على كتابة هذه التي ستعتبر منذ ذلك الحين أقوى مسرحية فجائعية تاريخية انتجها الادب المسرحي الاسباني في كل الازمنة، قرأ بعمق تاريخ المدينة وحصارها، لكنه قرأ بعمق أيضاً مسرحية اسخيلوس الكبيرة «الفرس»، إذ ثمة الكثير من التشابه في المواقف، وحتى في الأحداث التاريخية بين المسرحيتين، لا سيما أن المسألة في الحالين تتعلق بمحاصرة مدينة من جانب أعدائها، وانتحار سكانها بدلاً من الاستسلام المهين. لكن الفارق الأساس يكمن في أن تسربانتس عقد البطولة في مسرحيته للجموع التي عبّر الكورس وأناشيده، عنها بكل قوة، بحيث إن البطولات الفردية راحت تمر عرضاً، وحتى تشكل في مجموعها تلك البطولة الجمعية التي اراد تسربانتس التركيز عليها، في معرض رغبة مزدوجة: من ناحية تمجيد تاريخ اسبانيا وشعبها في شكل جماعي، ومن ناحية ثانية، اعلان موقف واضح من الحرب، كل حرب، على اعتبار انها ليست في نهاية الأمر سوى مجزرة، ودمار للمهاجم وللمدافع، للظالم والمظلوم. بقي أن نذكر ان هذا العمل الذي كتبه ميغويل دي تسربانتس سآفدرا (1547 - 1616) وهو في اواسط العقد الثالث من العمر، كان له تأثير كبير ومباشر في كل الادب الاسباني الذي كتب بعد ذلك، إذ نجد كبار كتاب المسرح من خلفائه يعودون دائماً الى الموضوع نفسه، وفي التفاصيل والتفسيرات نفسها تقريباً، ومن بينهم لوبي دي فيغا (في «الرابطة المقدسة»). علماً أن روخاس زيريا، لم يتردد في إدراج تلك الحادثة التاريخية المفجعة في اثنتين من مسرحياته الكوميدية! [email protected]