هي مجموعة كبيرة من أفلام سينمائية معظمها لا وجود له إلا في ذاكرة الفن السابع كما في التاريخ - غير المتحقق غالباً - لأصحابه. إنها المشاريع التي صاغها وصمّمها كبار مبدعي السينما وأمضوا سنوات من حياتهم وهم يسعون الى نقلها من الورق الذي كتبوه ووضعوا عليه خلاصة افكارهم وتاريخهم، الى الشريط الفيلمي، لكنهم انتهوا واختفوا من الوجود من دون ان تنجز تلك الأعمال. ومع هذا ثمة كثر من المؤرّخين والنقاد المستعدين لإقناعنا بسرعة ان هذه الأفلام - الأشباح، وتحديداً في حالتها الجنينية والموؤودة تلك، يمكن ان تكون اكثر مشاريع اصحابه صدقاً وتعبيراً عن فنهم الحقيقي طالما انها ظلّت قبل ان تتحقق عملياً، من النتاج الصافي للمبدعين. نتاج لم تضف اليه جهود لاحقة لمختلف الفنانين والتقنيين والعمال والمنتجين الذين يساهمون جميعاً، عادة، في تحويل الرؤى والأفكار الى افلام حقيقية، ما ينقص عموماً من فردية الإبداع وقدرة المبدع على ايصال افكاره وأحلامه - وربما كوابيسه ايضاً - كما خطرت في باله قبل «التصنيع». في حلقتين سابقتين من هذه السلسلة، تناولنا مشروعين لعلهما الأشهر في هذا المجال: مشروع الروسي ايزنشتاين حول تاريخ المكسيك («لتحيا المكسيك») ومشروع الأميركي ستانلي كوبريك حول تاريخ نابوليون. وفي الحلقة الثالثة التي ننشرها هنا، نصل الى واحد من اشهر المشاريع «غير المتحققة» لواحد من اعظم مبدعي الفن السابع في القرن العشرين، أورسون ويلز. والحقيقة اننا وضعنا هنا عبارة غير المتحققة بين معقوفتين لأن حال مشروع اورسون ويلز هذا هو حال مشروع ايزنشتاين الذي تحدثنا عنه سابقاً، حيث ان هذين الفيلمين («لتحيا المكسيك» و «دون كيشوت» وهو موضوع حلقتنا اليوم)، لهما وجود فعلي، على عكس مصير فيلم كوبريك عن نابوليون، ذلك ان كلاًّ منهما عاد - بعد وفاة صاحبه - واستكمل، انما على يد آخرين. ولعلنا لا نستبق الأمور هنا إذ نؤكد ان النتيجة بالنسبة الى فيلم ويلز كانت مشابهة لما نتجت منه إعادة الاشتغال على فيلم ايزنشتاين: الفيلم الذي عرض فيه بالتأكيد اشياء كثيرة من عبقرية المبدع الأصلي، ولكن من دون ان يدنو في شكل اجمالي من عالمه السينمائي، كما رأينا بالنسبة الى «لتحيا المكسيك» وسنرى هنا بالنسبة الى «دون كيشوت». ومنذ البداية لا بد من الإشارة، اولاً، الى ان ويلز الذي اشتغل على هذا المشروع كتابة وتصويراً وإنتاجاً طوال ما يزيد على 15 عاماً، من 1955 الى بداية سنوات السبعين، كان يعتبره فيلم حياته. وهو بعدما توقّف نهائياً عن العمل عليه، ظلّ حتى رحيله في عام 1985 يحلم بأن يعود ويستكمله يوماً. لكنه طبعاً لم يتمكن من ذلك. ومع هذا هناك فيلم عرض في مهرجان «كان» السينمائي عام 1992، عنوانه «دون كيشوت» ويحمل اسم أورسون ويلز. تماماً كما أن هناك فيلماً سوفياتياً متداولاً أنجز عام 1978 عنوانه «لتحيا المكسيك» يحمل توقيع سيرغاي ايزنشتاين. وواضح لمن يتابع تاريخ السينما أن عزو كل من هذين الفيلمين الى مبدعه الكبير أمر منطقي، غير انه ليس صحيحاً تماماً. ذلك أن ثمة في الحالين، مساعدين أو هواة أو حالمين أو مجرد تجار، أخذوا على عاتقهم إكمال ما لم يتمكن المبدع الكبير من إكماله. فجيء بما هو مصوّر، ليركّب الى بعضه بعضاً وتكون النتيجة فيلماً يبدو الفارق، على أي حال، هائلاً فيه، بين المادة الأولية التي حققها المبدع، والتركيب النهائي الذي قام به الحرفي المتحمس. وهذه الحال تنطبق بخاصة على «دون كيشوت» أورسون ويلز. وكان هذا الأمر واضحاً عندما عرض الفيلم في مهرجان «كان»: كانت الغاية أن يشكّل مفاجأة طيبة، لكن العمل أتى ليشكل مفاجأة سيئة. وقال كثر من النقاد: «ليت الفيلم بقي نتفاً وحلماً في ضمير صاحبه، بدلاً من أن يهزّه في قبره الآن». إنتاج على طريقة ويلز مهما يكن من أمر، ليس همّنا هنا التوقف عند النسخة الجديدة، من «دون كيشوت»، كما حققت انطلاقاً من العمل الذي كان ويلز شرع في العمل عليه عام 1955. بل ما يهمنا هو أن نطلّ على الفيلم الأصلي نفسه متسائلين عن السبب الذي حال دون ويلز وإنجاز «مشروع حياته». ولهذه المناسبة قد يكون مفيداً أن نذكّر بأن «دون كيشوت» لم يكن المشروع الوحيد الذي تركه ويلز من دون استكمال. فهو كان يحمل دائماً في عمق أعماقه عشرات المشاريع الكبرى، وثمة ما لا يقل عن نصف دزينة شرع فيها فعلاً - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -. ولن نكون مبالغين إن قلنا إن ويلز أمضى عقد سنوات الخمسين من القرن العشرين وهو يتأرجح بين المشاريع، يكتب بعضها ويبدأ في تصوير البعض الآخر. ثم يضطر الى تحقيق أفلام لا تفرحه كثيراً، أو التمثيل في أفلام الآخرين، أو تأجير صوته الرخيم معلقاً إذاعياً أو على بعض الأفلام، لمجرد أن يجمع من المال ما يكفيه لتحقيق هذا المشروع أو ذاك. ولكن نعرف اليوم أن «دون كيشوت» كان المشروع الذي عاش معه أكثر من أي مشروع آخر. وربما يعود السبب الى ذلك التطابق المدهش، والذي وعاه هو نفسه باكراً، بين شخصيته وشخصية «الفارس» الإسباني العريق. إذ حسبنا هنا أن نضع هوليوود مكان طواحين الهواء، ونبدل معركة دون كيشوت من أجل إعادة الاعتبار للفروسية والفردية، بمعركة ويلز من أجل سينما جادة وعبقرية، حتى نفهم كنه تلك العلاقة الضمنية التي قامت دائماً بين حياة ويلز أو على الأقل نظرته هو الى حياته وبين مغامرات دون كيشوت. إذاً، عام 1955، شرع ويلز يصور فيلمه هذا بين المكسيكوإسبانيا وإيطاليا. وهو تصوير بات في مقدورنا الآن أن نقول انه لم ينجز أبداً... مع أنه تواصل طوال أكثر من عقد ونصف العقد من السنين. كيف؟ لقد تحلقت حول ويلز، مجموعة من الممثلين وطاقم العمل. وراح طوال السنوات التالية يتنقل معهم - تبعاً للمال الذي كان يتمكن من جمعه بين الحين والآخر - لمواصلة التصوير. وهكذا، كلما كان يتمكن من إقناع صديق ما، أو تاجر ما، أو موزع ما، بتقديم بعض المال مؤكداً له أن ما سيقدمه سيكون كافياً لإنجاز الفيلم وجعله صالحاً للعرض، حتى يصور بعض المشاهد ثم يتوقف... وأحياناً شهوراً طويلة لأن المبلغ الذي حصل عليه، يكون قد أُنفق ولا بد الآن من الانتظار للحصول على مبلغ آخر. وبين «المبلغ» و «المبلغ» يكون من حق ويلز ومن حق العاملين معه على الفيلم، الانصراف الى شؤونهم الخاصة وأعمالهم في انتظار المرحلة الجديدة. انطلاقاً من هنا، إذاً، قيل دائماً عن «دون كيشوت» انه وفي الوقت نفسه، حقّق ولم يحقّق. وصار في الآن ذاته فيلماً شبحاً وفيلماً حقيقياً. ولعل في إمكاننا أن نقول عند هذا المستوى من الكلام، ان مجرد تركيب «دون كيشوت» في نسخة «معاصرة» وعرضه في «كان» بصفته فيلم أورسون ويلز المنتظر منذ ثلاثين سنة، في ذلك الحين وأكثر، أرجع العمل برمته الى شبحيته، سامحاً ل «دون كيشوت» بأن يصنّف في شكل قاطع هذه المرة بصفته واحداً من أفلام أورسون ويلز التي ظلت بعد موت صاحبها قيد التحقيق. ولكن ماذا عن صوغ أو إعادة صوغ - أورسون ويلز لكتاب ثربانتس الشهير، والذي يصنف بين الروايات والأعمال الأدبية الأكثر قوة وتعبيراً والأعلى مكانة في تاريخ الأدب العالمي، بل الذي يصنف بخاصة بداية لإنسانية الأدب؟ ان من الصعب علينا، اليوم، بالطبع، أن نسبر أغوار ما كان أورسون ويلز يريد قوله من خلال أفلمته لهذه الرواية الكبرى، خصوصاً أن نسخة عام 1992 خلطت الأمور ببعضها بعضاً، وقدمت فيلماً بالكاد يمكن اعتباره تصويراً بصرياً لمجرى الرواية في الشكل الأكثر سطحية. أما «الفيلم الحقيقي»، فلعل في إمكاننا العثور عليه في أحاديث أورسون ويلز عن مشروعه هو الذي كان لا يفتأ يقول: «إن أكثر ما يثير اهتمامي ولا يزال في اتجاه هذا المشروع هو أنه يمكنني من التعبير عن قيم تبدو اليوم بائدة - مثل قيمة «الفروسية» على سبيل المثال لا الحصر -، ومن ثم التساؤل عما يجعل مثل هذه القيم لا تزال قادرة على أن تخاطبنا، بينما يقول لنا المنطق إنها لم تعد على أية علاقة معنا أو اتصال بنا». ومن الواضح أن هذه العبارات إذ قالها ويلز، تحدد تماماً الغاية التي كان يتوخاها من تحقيق الفيلم، ولكن كذلك، السبب الذي جعل المنتجين والموزعين غير راغبين أبداً في تمويل مشروع كهذا، خصوصاً أن صاحبه أراد في هذا الفيلم أن يقول لنا إن «دون كيشوت» شخصية تقف خارج كل زمان ومكان، في الوقت الذي تبدو داخل كل زمان ومكان... وبالتالي لم يكن غريباً على ويلز، والحال هذه، أن يجعل بطله يبارح ذات لحظة أندلس القرن السادس عشر، التي كان يعيش ويغامر فيها ليصل الى إسبانيا المعاصرة ومن خلالها الى العالم والزمن المعاصرين. طبعاً رحل أورسون ويلز (1915 - 1985) من دون أن يتمكن من إنجاز هذا العمل. غير أن «دون كيشوت» يظل، الى جانب «المواطن كين» و«سيدة من شانغهاي» و«المحاكمة» و«فالستاف»، واحداً من أهم أعمال هذا السينمائي الساحر الروائي الكبير الذي، حتى وإن كان قد جعل معظم أعماله ينتمي الى التاريخ والى أعمال مستقاة من أدب ونصوص كبيرة، عرف دائماً كيف يطوع هذا كله ليستحوذ عليه ويجعله، ليس فقط جزءاً من مشروعه الفني والفكري، بل كذلك جزءاً من سيرته الذاتية، علماً أنه، مع مبدعين مثل أورسون ويلز، لا ينفصل المشروع الفكري الفني عن السيرة الذاتية، ولعل «دون كيشوت» نفسه يقدّم لنا خير برهان على هذا. - ويلز يحطم الأرقام القياسية بمشاريعه المجهضة