في كل مرة تنطلق فيها الأصوات لمهاجمة الإعلام بوصفه، في رأيها، مسؤولاً الى حد كبير عن الإسفاف الفكري الذي باتت له السيادة والرواج في حياتنا العربية، نجدنا وغيرنا مندفعين الى الدفاع عنه لا سيما عن الإعلام التلفزيوني الفضائي، مؤكدين مرة بعد مرة بعد مرة، ان الجهاز الصغير في حد ذاته، براء مما نتهمه به، فهو في نهاية الأمر إنما يعطينا ما نضعه فيه لا أكثر ولا أقلّ. غير ان ما لا بد من التذكير به دائماً، هو ان الدفاع عن هذا النوع من الإعلام لا ينبغي ان يعني اعفاءً له من مسؤوليات تقع على عاتقه. وربما هنا ليس بسبب ما يفعله أو ما يقدمه، بل بالأحرى بسبب ما يمكن له ان يفعله فيستنكف عن ذلك. ونعرف ان ثمة ألوف الأشياء المهمة والتغييرية والتنويرية والمفيدة بشكل عام يمكن للتلفزة – وهي هنا المعنية الأولى بحديثنا – ان تفعله لكنها تغض الطرف عنها تماماً. وفي يقيننا ان قدراً معيناً من الوعي والنوايا الطيبة والرغبة الحقة في المساهمة في سلوك دروب المستقبل يمكن ان يدفعها الى ذلك... وطبعاً ليس الحيز المكاني الضيق المعطى هنا كافياً لوضع لوائح بما يمكن فعله في هذا المجال. لكننا في المقابل قد نكون قادرين على استغلال المساحة الصغيرة للتوقف عند مطلب بالغ الأهمية يمكن توجيهه الى التلفزة: وفحواه ان تجعل من نفسها برلماناً شعبياً حقيقياً يشهد، بدلاً من ضروب المناكفات والمهاترات والشتائم المتبادلة التي تسمّى «برامج حكي سياسية»، انماطاً جديدة من السجالات وحتى بين الأطراف المتخاصمة وإنما بعد ان يشترط عليها ان تكون فعلاً راغبة في خوض سجالات بناءة تخدم في تهدئة الأحوال ورسم السياسات وتقديم الحجج العقلانية أمام انظار وأسماع ملايين المواطنين الذين يكون من حقهم التدخل وإبداء الآراء ضمن الشروط ذاتها. تخيّلوا لو يحدث هذا في بعض تلك المناطق التي تشهد حدة في السجالات ولكن تبدو الأمور في الأعماق فيها وكأنها في حاجة الى إزالة ضروب سوء التفاهم ومصارحة الناس بحقيقة ما يحصل، مثل لبنان والعراق واليمن! تخيّلوا لو يصوّر هذا كله بشفافية تأتي بعيدة عن الصور الراهنة التي تملأ الشاشات! وتخيّلوا ان يكون الحكم على الأداء في نهاية المطاف للمشاهدين انفسهم...! في يقيننا ان هذا إن حدث سيكون من شأنه ان يحوّل الشاشات الصغيرة الى برلمانات شعبية حقيقية... برلمانات لا يكون همّها ان يسجل كل فريق نقاطاً على الآخر، بل أن يوضح أفكاره وأهدافه، لعل الناس المعنيين بالأمر أولاً وأخيراً، يكشفون لهذا النمط من السياسيين ان ثمة بين المتخاصمين من بينهم قواسم مشتركة يمكن البناء عليها، بدلاً من الإبراز الدائم لنقاط الخلاف التي لا تخدم إلا في التدمير والخراب.