من بين أول التعليقات التي رصدت في هوليوود فور انتشار الأنباء المتحدثة عن العمليات الإرهابية التي ضربت مدينة نيويورك والبنتاغون مدمّرة برجي مركز التجارة العالمية وغيرهما، حاصدة نحو ثلاثة آلاف قتيل، كان تعليق المخرج الأميركي المشاكس – والذي رحل لاحقاً – روبرت آلتمان إذ قال: «إن هؤلاء الإرهابيين لا مخيّلة لديهم. فهم حين قاموا بأكبر جريمة في تاريخ الإرهاب اكتفوا بممارسة السرقة الفنية بدلاً من أن يبتكروا أفكاراً جديدة». لقد كان من الواضح حينها أن آلتمان كان يفكر، كمرجع للعمليات الإرهابية، بسلسلة أفلام أميركية سبقت جريمة نيويورك الجماعية، في السياق والأسلوب، وروت حكايات كانت تعتبر من الخيال المستحيل التحقيق، عن سيناريوات لما قد يقترفه أولئك الإرهابيون وغيرهم. وكانت هناك أفلام كبيرة حول الموضوع نفسه قد عرضت خلال الفترة السابقة للجريمة وصل بعضها الى حد تصوير خطة لتدمير نيويورك نفسها. سكوت من ذهب والحال أن هذا «الواقع» السينمائي، كان هو ما دفع الى الحديث من جديد عن فكرة أن الواقع هو الذي يقلّد الفن أحياناً. غير أن هذا النوع من التأكيد الذي أتى يحمل في طياته وإن في شكل موارب، نوعاً من النزعة الانتصارية، سرعان ما خفّت نبرته أمام هول ما حدث إذ بات واضحاً أن هوليوود والسينما لم يكونا في ذهن أحد حين أطلت الصورة الحقيقية من على الشاشات الصغيرة: اصطدام الطائرات بالبرجين «مباشرة على الهواء»، جثث تتساقط بالعشرات، رعب على الوجوه، حرائق في كل مكان...الخ. كان جحيماً حقيقياً يفوق عشرات الأضعاف ما كان في مقدور الفن وهوليوود بالذات أن يصوراه. بل إن الأهمّ من ذلك كله كان سكوت هوليوود في الزمن التالي تماماً. كان سكوتاً مقصوداً. لا يمكن للتلفزة في أيّ حال من الأحوال أن تعتبره انتصاراً لشاشتها الصغيرة على الشاشة الكبيرة. «على أية حال.. وحتى من دون ضوابط أخلاقية، تحتاج هوليوود الى أكثر من سنتين كي تستوعب الحدث وتقدم فيلماً عنه مهما أسرعت» قالها يومها ناقد أميركي مبرراً. غير أن هذا لم يمنع هوليوود، إثر الأحداث من أن تسرع – ليس لتحقيق أفلام عن الجريمة – بل للتمهل في عرض أفلام حققت من قبل وتحمل إشارة ما الى أحداث متخيلة مشابهة أو قريبة مما حدث. ويقال إن عدد الأفلام التي أجّل في ذلك الحين عرضها أو حتى إنجازها بلغ الأربعين. ولقد وصل الأمر يومها الى حذف بعض اللقطات من فيلم «سبايدرمان» تظهر فيه بنايتا البرج قبل تدميرهما. طبعاً، يومهاً، لم يكن في الأمر قرارات حكومية أو أوامر رقابية... كان الأمر مجرد إطاعة تلقائية لأعراف أخلاقية معينة. في اختصار إذاً، أدى خفر هوليوود وسينماها إزاء الأحداث، الى تولي التلفزة أمر الصورة ولكن دائماً في سياق توثيقي سياسيّ النزعة همّه الأساس الحفاظ عل معنويات «أمة وجدت نفسها للمرة الأولى منذ كارثة بيرل هاربور تضرب على أرضها ووقف شعبها مذهولاً لا يدري ما يفعلّ». طال صمت هوليوود سنتين أو ثلاثاً، ما أمن لمدينة الفن السابع نوعاً من الاحترام جديداً... غير أنه لم يكن صمتاً شاملاً. وذلك لأن المخرجين راحوا بالتدريج وبشكل موارب يدنون من الأحداث عبر شرائط ملتبسة – منها على سبيل المثال فيلم ريدلي سكوت «سقوط الصقر الأسود»، الذي بدلاً من أن يؤجل عرضه قدّم العرض بفضل طبيعة الفيلم نفسه عن مذبحة تعرّض لها جنود أميركيون في الصومال يوم كان ثمة تدخّل أميركي ضد الإرهابيين هناك. ولقد وصل الأمر بحضور هذا الفيلم الى درجة أن السلطات العسكرية الأميركية عرضته على طلاب أكاديمياتها العسكرية!! وكان هذا النوع من تسلل السينما الى أحداث نيويورك يتصاعد، إنما على حياء ما. وظلّ المهتمون بالسينما الأميركية أثناء ذلك متشوقين في انتظار أفلام تدخل في صلب الحدث مباشرة. والحقيقة أن انتظارهم لم يطل، حيث خلال فترة قصيرة من الزمن – بين 2005 و2006 – أحس الهوليووديون أن الوقت حان لتغوص هوليوود في المعمعة. ولعل في إمكاننا هنا أن نقول إن ذلك الغوص سار في اتجاهين متزامنين: دنوّ غير مباشر وآخر يمعن في التصدي للحدث من دون لفّ أو دوران. وكما بات يحدث في هوليوود منذ عقود كان ستيفن سبيلبرغ رائد الاتجاه الأول فيما ستكون ريادة الاتجاه الثاني لمخرج «خارجيّ» كان عرف باستفزازيته الراديكالية: مايكل مور. وهكذا مع فيلمي هذين «حرب العوالم» لسبيلبرغ» و «فهرنهايت 11/9» للثاني، بدأت هوليوود تخرج عن صمتها وتدنو من الحدث الأعظم في تاريخ أميركا. أشرار قادمون في الحقيقة لا يمكن اعتبار «حرب العوالم»، في ظاهره كما في تاريخه وفي حبكته، فيلماً ذا علاقة بأحداث نيويورك... ومع هذا لا يمكن أن نعزو الى الصدفة هنا أن يكون سبيلبرغ قد اختار رواية اتش دجي ويلز عن غزو أهل المريخ «الأشرار» لكوكب الأرض وتدمير مدنه وحضارته، موضوعاً لفيلمه الذي كان الرعب نقطة جذبه الرئيسية. مخرج من طينة صاحب «إي تي» الذي كان قبل عقود يدعو الى قبول التسامح والاختلاف ويدين في فيلمه الرائع هذا، تعامل البشر الشرير مع الآتين من الفضاء الخارجي... بدا اليوم وقد تغيّر تماماً في فيلمه الجديد. أما مايكل مور الممتشق سيف راديكالية مربحة له ومنتقدة دائماً من قبل اليسار العقلاني الأميركي، فسار وجهة أخرى: قدّم في فيلمه الذي أراد تسمية الأمور بأسمائها مرافعة تدين الرئيس بوش من ناحية بسبب رده على الجريمة باحتلال العراق وثانياً بسبب ما اعتبره تواطؤاً منه في ما حدث. وطبعاً لن نعود هنا الى السجالات العميقة التي دارت يومها من حول هذين الفيلمين ولكننا نقول إن أياً منهما لم يلامس الجرح الأميركي (النرجسي) العميق تماماً، وفي شكل ملائم. هذا فعله فيلم آخر بدا أكثر واقعية من أي فيلم آخر ويمكن اليوم لمخرجه (بول غرينغراس) أن يعتبر نفسه صاحب أول مبادرة واضحة وحقيقية في السينما «الأيلولية» وذلك بفضل فيلمه المتوازن «يونايتد 93» الذي عرض في «كان» عام 2006 لينال إعجاباً عاماً: فالفيلم، بجودة تقنية لافتة وباتزان سياسي مشهود، روى بصيغة بدت وثائقية الى حد كبير حكاية تلك الطائرة الي سقطت في ولاية ماساشوستس عاجزة عن بلوغ هدفها الإرهابي التدميري بفضل مقاومة ركابها للإرهابيين حتى سقطوا وقتلوا معاً. طبعاً نعرف أن القصة حقيقية مع أن فصولها رسمت تخييلياً إذ لم يبق أحد حقاً من الركاب ليروي حقيقة ما حدث: بنيت الأحداث السينمائية انطلاقاً من مكالمات هاتفية تمكن الركاب من إجرائها. ومع هذا اعتبر الفيلم واقعياً الى أبعد الحدود. في نفس السياق الواقعي، ولكن ضمن بعد ميلودرامي جديد عليه – وكان من الواضح فيه أنه يسعى الى التصالح مع بلده الذي كان دائماً راديكالياً الى حد الأفراط في التعامل معه -، أتى بالتالي فيلم أوليفر ستون «مركز التجارة العالمي» الذي غاص من خلاله في الحدث النيويوركي مباشرة إنما من خلال حكاية شرطيّ وإطفائيّ حقيقيين ساهما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه عند دمار البرجين واعتبرا – في الواقع وفي الفيلم – من أبطال التاريخ الأميركي... لقد أتى الفيلم امتثالياً تصالحياً من نمط لم يعهد في سينما أوليفر ستون من قبل. وقيل أن تقدم الرجل في السن أعاده الى أحضان الوطن. وهو أمر سعى كثر الى تأكيده بعد حين عندما عرض ستون فيلماً تالياً له دنا بدوره جزئياً من نفس الأحداث ولكن من خلال تأريخه لمسار الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش. عنوان الفيلم «دبليو» ما يشرح موضوعه من دون إسهاب. غير أن اللافت هنا هو أن الفيلم، وعلى عكس ما كان متوقعاً منه، لم يكن «شريراً» في تعامله مع شخصيته الرئيسية!.. بشكل أو بآخر تكررت هنا من قبل أوليفر ستون حكايته مع فيلم سابق له تناول جزءاً من سيرة الرئيس السابق «نيكسون»: التباس سياسي وما يشبه الافتتان الشخصيّ... وانطلاقاً من هنا كان من الطبيعي أن يرى كثر أن أحداث أيلول النيويوركي قد غيّرت – في ما غيّرته - ذلك المخرج الذي جعل من نسف الأساطير الأميركية خبز سينماه اليوميّ. نسف للتابوات مهما يكن فإن مايكل مور وستيفن سبيلبرغ وبول غرينغراس وحفنة غيرهم، في نسفهم بعد سنوات الصمت والانتظار، التابوات التي حالت بين هوليوود وتعاملها المباشر مع أحداث أيلول 2001، طوال سنوات إنما تضافروا معاً ليخلقوا سينما جديدة فيها ما فيها من الالتباس لكنها تصب معاً في خانة التناول الجدي الذي راح يأخذ في اعتباره أن ما حدث هو أكثر خطورة بكثير من أن يصار الى التعامل معه بخفة هوليوودية معتادة وبلعبة الأبيض والأسود. لقد كان واضحاً بالنسبة الى هؤلاء وغيرهم أن نمطاً معيناً من النتاج الهوليوودي قد وصل الى سن الرشد بسبب تلك الأحداث... بل إن هذا البعد تسرب حتى الى السينما الهوليوودية الأكثر جماهيرية بحيث إن من يبحث في عمق الأعماق لن يفوته أن يلمح تأثيرات أيلولية في عشرات الأفلام التي على شاكلة أعمال ضخمة من نوع « آيرون مان» أو «سبايدر مان 4» أو «الفارس الأسود» أو حتى «ميونيخ» لستيفن سبيلبرغ وصولاً الى عشرات الأفلام التي حكت وتحكي عن حرب العراق أو حرب أفغانستان، لم يعد في إمكانها أن تتحقق متناسية ذلك اليوم المظلم من تاريخ نيويورك وأميركا والإنسانية كلها.