مثل كثير من الأفلام، ينطلق الفيلم الجديد للمخرج الروماني كريستيان مونجو من حادثة تناولتها الصحف ذات يوم. ومثل كثير من الأفلام ايضاً، يبدو عنوان الفيلم في نهاية الأمر غير ذي علاقة فعلية بأحداث الفيلم نفسها. الفيلم هو «ما وراء التلال»، وهو الفيلم الثالث الذي يحمل توقيع مونجو، المخرج الذي يعتبر الآن زعيم تيار موجة جديدة في السينما الرومانية بدأ يفرض حضوره على الساحة السينمائية العالمية خلال السنوات الأخيرة، وهو الفيلم الثالث له الذي يعرض في مهرجان «كان»، بعد بداية خجولة بفيلمه الأول «الغرب» في نصف شهر المخرجين (2002). كان الفيلم الأشهر الذي أطلقه إذاً، وتحفته التي عرضها في العام 2007 في المسابقة الرسمية ونال بها السعفة الذهبية «4 شهور 3 أسابيع ويومان»... الفيلم الذي لم يكفّ عن التجوال حول العالم منذ ذلك الحين، معطياً السينما الرومانية، في طريقه، مكانة متجددة، فاتحاً المجال لحضور سينمائيين رومانيين آخرين على الساحة العالمية، ما وطّد بالتالي لهؤلاء مكانة في بلادهم التي كانت خارجة لتوها من دكتاتورية صمت مريع. اليوم لم يعد كريستيان مونجو في حاجة الى تقديم، حتى وإن كان الفيلم التالي له، الذي عرض في «كان» من توقيعه، فيلماً جماعياً عنوانه «حكايات من العصر الذهبي». وآية ذلك أن فيلمه الجديد «ما وراء التلال» كان واحداً من الأفلام المنتظرة بتشوّق في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» ، وتحديداً في المسابقة الرسمية. كانت حاله في هذا حال كبار «مبدعي كان»، من كين لوتش الى دافيد كروننبرغ، ومن والتر ساليس الى ليو كاراكس، مروراً بآلان رينيه وبرناردو برتولوتشي. ولئن كان كثرٌ من اصحاب الأسماء المبجلة في عالم السينما قد اوقعوا المنتظِرين في الخيبة بعد أن عرضت أفلامهم، فإن حال مونجو هنا كانت استثنائية: كان واحداً من قلة وفت بوعودها وقدمت جديداً أدهش المتفرجين، جمهوراً ونقاداً... بل إن مونجو بدا بفيلمه الجديد وكأنه تجاوز نفسه، بحيث إنه لولا وجود فيلم ميكائيل هانيكي في التنافس على السعفة الذهبية –التي نالها هذا على أي حال– لكان من شأن السعفة ان تذهب اليه. بكل وضوح، منذ العرض الأول ل «ما وراء التلال» كان الحكم قاطعاً: ستكون السعفة الذهبية له. غير ان قوة «حب» هانيكي بدّلت الأمور كما نعرف، ما جعل فيلم مونجو يكتفي بجائزتين –ربما يمكن حسبانهما ثلاثاً طالما ان جائزة أفضل تمثيل نسائي ذهبت الى بطلتي الفيلم معاً-. اما الجائزة الأخرى التي نالها فيلم مونجو، فهي جائزة أفضل سيناريو. ومهما يكن، كان «ما وراء التلال» الوحيد الذي فاز بأكثر من جائزة، كما كان الوحيد تقريباً الذي لم يثر فوزه أي احتجاج. فتاتان في الدير كما قلنا أول هذا الكلام، أخذ مونجو فيلمه الجديد هذا من حادثة جرت فعلاً في احد الأديرة الريفية الأورثوذكسية، ويقع في منطقة غير بعيدة من العاصمة بوخارست. ونكاد نقول هنا إن الحادثة في حد ذاتها هي من نوع حوادث تقع هناك بكثرة، ولكن نادراً ما تجري الإشارة اليها في الإعلام، او تثير سجالات دينية او قانونية. غير ان هذه الحادثة بالذات كان من شأنها أن أثارت ضجة واستتبعت محاكمات وقرارات لا بد من القول إن الفيلم، في نهاية المطاف، فضّل ان ينأى بنفسه عنها. الفيلم أخذ الجوهر الفكري للحادثة ليبني عليه عالمه الخاص وأسئلته الحميمة بحيث إن الحدث نفسه لم يعد سوى ذريعة ينطلق منها المخرج محاولاً طرح جملة من القضايا المتعلقة بالحب والإيمان والاختيار الحر، وتضافر البؤس المادي مع البحث عن السموّ الروحي... طبعاً يمكن القول هنا ان مونجو لم يقحم اهتماماته ومشاغله هذه كلها على الفيلم من خارجه... غير أنه عرف كيف يركز عليها بحيث يستوعب الحدث الخارجي والهمّ الداخلي في بوتقة واحدة. ومع هذا، نعرف ان مونجو إنما استقى موضوعه من كتابين أصدرتهما تباعاً صحفية رومانية كانت تعمل مراسلة لمحطة ال «بي بي سي» في بلادها حينما انتشرت اخبار عن موت صبية في دير تحت وقع محاولات لإخراج «الشيطان من جسدها»، حتى توجهت الى المكان مستطلعة، وتابعت القضية في تفاصيلها، فاضحة ممارسات كانت دائماً من نوع المسكوت عنه، ما أسفر عن فضيحة دينية/سياسية أدت الى عقوبات وحرمان كنسي وما شابه. حدث ذلك في العام 2005، ويومها تابع مونجو الأخبار مثل غيره من الناس عبر شاشة التلفزة، ومن دون ان يخطر في باله أن في إمكانه ان يحقق فيلماً انطلاقاً من تلك الأخبار. فكرة الفيلم جاءت لاحقاً، في العام 2007، ففي ذلك الحين كان مونجو في نيويورك مرافقاً عرض فيلمه «4 شهور...»، وحدث ذات يوم ان تعرّف هناك على الصحافية تاتيانا نيكولسكو بران، صاحبة الكتابين اللذين فصّلا القضية، وقدمت اليه هذه واحداً من كتابيها، وما إن قرأه في ليلتين، حتى وجد فيه امكانيات سينمائية مدهشة، ناهيك بأنه وجد في تلك الإمكانيات مجالاً لطرح اسئلة تشغل باله... وكان أهم ما في الأمر بالنسبة اليه، ليس فقط موت الفتاة، بل قصة الحب واللامبالاة، ومن ثمة قصة تتعلق بموقف الإنسان من ناحية والدين من ناحية، من قضية الاختيار الحر. إذاً، من صورة فتاتين في دير ومن هذه القضية الأخيرة ولد الفيلم، الذي يمكن اعتباره واحداً من أعمق أفلام هذا العام. الحب والشيطان قصة الفيلم ، كحدث، تبدو بسيطة الى حد ما: تصل الصبية ألينا (كريستينا فلوتور) من المانيا حيث تعيش وتعمل منذ فترة، الى الريف الروماني ساعية الى الوصول الى دير تنتمي اليه الآن رفيقتها منذ طفولتهما اليتيمة، فويشيتا (كوزمينا ستراتان). ان كل ما تريده ألينا الآن إنما هو اصطحاب رفيقتها الى»منفاها» الألماني كي تعيشا معاً بعد ان كانت ظروف الحياة وقسوتها قد فرقت بينهما . لم يكن لألينا في الحياة اي شخص آخر غير فويشيتا، بيد ان الأمر ليس على النحو نفسه بالنسبة الى هذه الأخيرة: فهي صار لها حبيب آخر أبدي ومتملّك لا يمكن ألينا أن تنافسه مهما فعلت ومهما كان عمق ارتباط فويشيتا الماضي بها، وهذا الحبيب الجديد هو الإيمان... هو الأعلى الذي لم ترتبط فويشيتا به الا باختيارها الحر. بالتدريج تسعى ألينا وقد اقامت في الدير الى اقناع رفيقتها بالسفر معها، غير ان هذه الأخيرة لم تعد قادرة على سلوك اي اختيار آخر، لذلك ترفض رغم الحاح ألينا... وهي ترفض من دون ان ايّ ضغط عليها من رؤسائها في الدير. والحقيقة ان واحدة من نقاط القوة الرئيسية في الفيلم –ومن دون ان نصل الى الاعتقاد بأن الأمر كان على هذه البساطة في الحادثة الحقيقية– تكمن هنا: في ذلك الصراع الذي يصوّره لنا بين قوة الحب من ناحية، وقوة الإيمان من ناحية أخرى. وفي هذا الإطار بالتحديد يمكن القول ان مونجو قد سيطر على الموضوع تماماً، صارفاً النظر عما حدث في الحقيقة بعد ان سيطر «الجنون» على ألينا، وصار مسؤولو الدير يرون ان الشيطان هو المسيطر عليها، وبالتالي بات يتوجب أسرها وتقييدها وإخراج ذلك الشيطان من جسدها، ومن روحها كذلك. ولقد أشرنا اول هذا الكلام ان الحادثة الحقيقية بما فيها ممارسات «التخلص من الشعوذة» و «طرد الشيطان» من طريق التعذيب الجسدي قد حركت السلطات وكذلك رؤساء الكنيسة فحرمت الأم الراهبة وسجن رئيس الدير. غير ان الفيلم لا يركّز على هذه المسائل الحدثية. صحيح انه يصوّر لنا رئيس الدير قاسياً حاسماً، ولا سيما في ضروب العقاب التي يفرضها على الخطاة الذين قد يقترف الواحد منهم واحدة او اكثر من بين نحو 500 خطيئة يعاقب عليها القانون الكنسي الأورثوذكسي... غير ان الفيلم يحاذر في الوقت نفسه من اتخاذ موقف، فليس ثمة هنا اشرار وطيبون. ما يهمّ هنا ليس سوى الصراع بين حب ألينا وإيمان فويشيتا... بل بالأحرى يمكن القول ان جوهر الفيلم انما بني حول شخصية فويشيتا نفسها، وبشكل أكثر تحديداً، من حول قوة الإيمان التي تتملكها، فيقيناً هي تحب ألينا، ويقيناً أنها لولا حبها الكبير الآخر لكان من شأنها ان ترافقها إلى ألمانيا. لكنها لا تفعل... كذلك فإن حب ألينا لها وإصرارها على اخذها معها ثم الجنون والموت في سبيل ذلك... كل هذا يتركها غير مبالية على صعيد شخصيّ، إنها تحنو على صديقتها ورفيقة عمرها وتساعدها... ولكن من الخارج، من دون ايّ وعد... والأدهى من هذا، من دون أية تساؤلات او شكوك. فالحاجز في داخلها، الحاجز هو الإيمان الكبير الذي يملأ قلبها، جاعلاً من غير الممكن أيَّ كائن ان يتسلل الى داخل ذلك القلب حتى ولو كان -كحال ألينا بالنسبة اليها- أناها/الآخر. هنا إذاً الموضوع، إنه عن تلك القوة الإيمانية التي تتملك فويشيتا ولا يقوى عليها اي فاعل بما في ذلك الحب نفسه. إنه عن الأسئلة التي تجابه ، بين الحين والآخر، الإنسان المعاصر –وفي أحيان كثيرة انسان الماضي ايضاً وانسان كل زمن وكل الأزمنة- حول الإيمان وقوة فعله... حتى في مقابل قوة العقل. الأسئلة التي تلتفت بكل بساطة الى هذا المحرك القوي، الذي لعله في كل مكان وزمان، المنافس الأقوى والأكثر قابلية للانتصار على كلّ عقلانية وعلى كل شغف وتفكير. انه الإيمان الذي ينبع، في رأي مونجو، من الاختيار الحرّ. وهو غير الإيمان الذي يأتي من طريق القسر والإكراه، فمن خلال هذا الفيلم يقول لنا مونجو –ومرة أخرى لا بد من القول ان هذه نقطة القوة في الفيلم والنقطة التي تجعل مسافة كبيرة بينه وبين الحادثة الحقيقية كما يمكننا ان نتصوّر–، ان كلّ اسئلتنا حول الحب والعقل والسلطة، سيتوجب ذات يوم ان نحيلها الى المكان الأصعب: الى ذلك المكان الذي يشهد الصراع الداخلي العنيف بين الوعي والإيمان، بين حرية الإختيار... وحرية التفكير. ترى أفليس علينا هنا ان نستعيد في ذاكرتنا، لولوج الفيلم بشكل أعمق ، بعض اقوى صفحات كتاب «العبودية الطوعية» للفيلسوف الفرنسي لابويسي؟