هل تأتّى التأخّر غير الاعتيادي في جلسة التداول لإعلان جائزة «نوبل» للفيزياء لأكثر من ساعة، عن قلق علميّ حيال الإنجاز الذي ذهبت إليه الجائزة، بمعنى استمرار نوع عدم الحسم تجاهه؟ فمنذ مدّة، يجري تداول اسمي عالميّ الفيزياء النووية، البريطاني بيتر هيغز (84 سنة) وزميله البلجيكي فرانسوا آنغلبرت (80 سنة) بوصفهما مُرشّحين للجائزة، بل أنهما من أبرز علماء الفيزياء النوويّة الأحياء. في المقابل، ثمة شكوك علميّة نسبيّاً عن التجربة التي استندت إليها اللجنة في تحديد الفائزين، بأنها لم تكن حاسمة كليّاً، وبالتالي بقي «شيء ما» ناقصاً في هذا الأمر. بالاختصار، ضرب «بوزون هيغز» مُجدّداً. ففي تموز (يوليو) من العام 2012، هزّ الإعلام والمجتمع العلمي إعلان علماء «المركز الأوروبي لبحوث الفيزياء» (اختصاراً «سيرن» CERN) أن تجارب في «مُصادم هادرون الكبير» عن المكوّنات الدقيقة داخل الذرّة، نجحت في التثبّت من وجود جسيمات «شديدة الشبه» بتلك التي توقّع بحوث هيغز (وقبله انغلبرت) وجودها، بوصفها اللبنات الأولى المُكوّنة للجسيمات الفائقة الصِغَر التي تكوّن الذرّات. وعلى رغم أن كثيراً من وسائل الإعلام أشارت إلى هذه التجارب بعناوين مثيرة مثل «جسيمات الخالق»، إلا أن المجتمع العلمي لم يفته ملاحظة أن الأمر يتعلّق بترجيح قوي حملته كلمات «جسيمات شديدة الشبه» بال «بوزون»، وليس بتجارب حاسمة كليّاً. وظل حساب «تويتر» ل «نوبل» يردّد خلال ساعة التأخير أن «الجلسة قيد الانعقاد»، قبل أن تعلن جائزة الفيزياء للعام 2013. «بوزون هيغر»: بداية التكوين ففي منتصف الستينات من القرن الفائت، حاول هيغز أن يقدّم تفسيراً لتطوّر الكون في اللحظات الأولى التي تلت «الانفجار الكبير» أو ال «بيغ- بانغ» Big Bang الشهير قبل قرابة 13.5 بليون سنة. فوفق هذه النظرية، كان الكون المادي كله، بمجرّاته ونجومه وكواكبه وشموسه وأجرامه، «مضغوطاً» في نقطة لا متناهية في الصغر، بل إنها لم تكن سوى انضغاط هائل لطاقة ضخمة لا يوصف مداها وحرارتها. ثم انفجرت تلك النقطة قبل 13.5 بليون سنة في «الانفجار الكبير». وأخذت تلك الطاقة تبرد شيئاً فشيئاً، بالترافق مع تحوّل جزء منها إلى مادة، أي إلى ذرّات تجمّعت في غيوم ضخمة، تشكّلت منها أجرام السماء. ووفق هيغز، ظهرت جسيمات متناهية في الصغر (تسمى كل منها «بوزون» Boson)، فشكّلت «الجسر» الذي عبرته الطاقة لتصبح مادة، بل الجسيم الأشد صغراً للمادة التي صنعت منها الغيوم الأولية للغبار النووي الذي تشكّل الكون منه! وبعبارة أخرى فإن ال «بوزون» هي أول ما ظهر من المادة، إنها الجسيمات الأولى التي تجمّعت لتؤلّف المُكوّنات الدقيقة التي صُنِعَت منها الأجزاء الداخلية للذرّة ، بمعنى أن جسيمات «بوزون هيغز» رافقت عملية تشكّل الكون. وسبق آنغلبرت أن تقدّم ببحوث مماثلة في العام 1964، لكنه لم يكن حاسماً في شأن ال «بوزون»، كما فعل هيغز بعده. لعلها سابقة في جائزة «نوبل» أن يأتي النجاح من قلب غيوم الشك، على رغم أنها غيوم خفيفة تماماً. هل آثرت «نوبل» أن تكون واقعيّة، بمعنى أن تجاري حقيقة أن كثيراً من أمور العلِم ليست محسومة تماماً من دون أن يمنع ذلك القول بأهميتها الهائلة، أم يكون «وراء الأكمة ما وراءها»؟ لننتظر. ولنر.