تحتفل الصين الشعبية الشهر المقبل بالذكرى الستين لقيامها. وعندما يقرأ العربي المعاصر فصولاً من التاريخ الصيني، بخاصة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى منتصفه، يشعر بعزاء وأمل كبيرين في استعادة النهوض العربي من دروس تجربة الأمة الصينية التي تعرضت خلال تلك الفترة لأهوال بدت وكأنها مقيمة ومتكررة إلى أن حسمت الإرادة القومية الصينية ذلك الوضع، وبدأت الصين منذ 1949صعودها الهادئ إلى مستوى القمة الدولية ... شرط أن يدرك كل عربي أن النتائج لم تأت مجاناً وكانت وراءها دموع وكد وعرق ومسيرة طويلة مؤلمة وإرادة صلبة قبل كل شيء. إن استيعاب العقل العربي للتجربة الصينية مطلب ملح في غاية الأهمية. وأحدث تنبيه عنها جاء من الكاتب النابه زياد عبدالله الدريس في «الحياة» وذلك عن معاينة وزيارة ميدانية قام بها للصين ضمن عمله كممثل للسعودية في «اليونيسكو». أبدعت الصين واحدة من أرقى الحضارات الإنسانية في التاريخ، وكانت على اتصال وتفاعل مثمرين مع الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الأخرى. ولكن عندما أحاطت القوى الغربية بها مدفوعة بوسائلها الحضارية الجديدة، رفض العقل الصيني في البداية «الاعتراف» باولئك «البرابرة» الذين أحاطوا ب «مملكة السماء» الصينية في عقر دارها وبدأوا يتدخلون – من أجل مصالحهم الذاتية – في شؤونها الداخلية طوعاً أو كرهاً. وتقف «حرب الأفيون» التي شنتها «الديموقراطية» البريطانية على الصين عام 1838 من أجل اقتطاع هونغ كونغ واستخدامها كمعبر للتجارة المحرمة مع البر الصيني الكبير، تقف هذه «الحرب الغريبة» نموذجاً للتعامل الغربي بعامة مع الأمة الصينية. (ويقال أن «الديموقراطيات» لا تشن حروباً ... فما تفسير تلك الحرب، وبريطانيا في ذلك التاريخ قد نضجت مؤسساتها الديموقراطية ... كاملة غير منقوصة ؟!) ولكن «رب ضارة نافعة» فحرب الأفيون – كهزيمة حزيران 1967 في تاريخ العرب المعاصر - جاءت بمنزلة خروج الصينيين من القرون الوسطى. كانت «حرب الأفيون» عملية في غاية الصعوبة والمشقة وامتلأت بالدم والنار ... إذ لم تتعرض الصين أبداً للإذلال على هذا النحو، ولكن ذلك الإذلال هو – في الوقت ذاته «تاريخ المقاومة والنهوض والتقدم أيضاً» وهو الظاهرة التي عبّر عنها كارل ماركس بأنها: «ثورة فجر عهد جديد في آسيا كلها» – (الصينيون المعاصرون، عالم المعرفة الكويتي، الرقم 210 ، ج 1 ، ص 173). هكذا دخلت الصين العصر الحديث بمشاعر عداء عميق للغرب. وحيال التبشير والتدخلات الغربية في ظل الهزيمة القومية والحضارية، نشأت تنظيمات إرهابية صينية معادية للغرب والرجل الأبيض وديانته وحضارته الجديدة، ولجأت إلى سلاح «الإرهاب» المماثل إلى حد كبير لظاهرة «الإرهاب» المنتشرة حالياً في البلاد العربية والإسلامية، الأمر الذي يدل تاريخياً، وقطعياً، على أن للإرهاب جذوره السياسية والدينية والنفسية وانه لا يقتصر على دين من دون آخر أو قوم من دون آخرين، فالظروف التاريخية المتشابهة – ظروف الإذلال والهزيمة واليأس – تخلق ظواهر متشابهة: إرهاباً كانت أو غير ذلك. وقد سمى المؤرخون تلك العناصر الإرهابية الصينية ب «الملاكمين» «حيث قاموا بانتفاضة دموية حدثت شمال الصين عام 1900 وفيها قتل مئات الصينيين، وما يزيد على 200 شخص من أقطار أخرى، وبلغت ثورة الملاكمين ذروتها أواخر القرن التاسع عشر ضد انتشار التأثير الغربي (والياباني) على الصين ... انطلق «الملاكمون» وحطموا كل شيء اعتبروه أجنبياً، فذبحوا الصينيين النصارى، والبعثات التنصيرية ... وكل فرد يؤيد الأفكار الغربية، وأحرقوا المنازل والمدارس والكنائس، وعندما استنجد الديبلوماسيون الأجانب في بكين بفرق الإنقاذ، أعلنت حكومة المانشو (العائلة الحاكمة في الصين) الحرب على القوى الأجنبية» ... وكانت حكومة المانشو تتظاهر في السابق بعدائها لهذه التنظيمات. «حاصر الملاكمون وفرق الحكومة مقر الإقامات الرسمية للديبلوماسيين الأجانب في بكين من 21 حزيران (يونيو) وحتى 14 آب (أغسطس) من عام 1900، وأخيراً سحقت قوة إنقاذ من تسعة أقطار (غربية مع اليابان) تلك الانتفاضة» (الموسوعة العربية العالمية ، ص 81 – 82 ). هكذا تسبب الملاكمون الإرهابيون في تعريض بكين، عاصمة الدولة والحضارة في الصين للاحتلال الأجنبي المشترك، كما احتلت «تحالفات عسكرية دولية» عاصمة الخلافة العثمانية اسطنبول عام 1921، وعاصمة الخلافة العباسية بغداد، عام 2005. مرت الصين في مأزق العداء للغرب مع الحاجة لفكرة التحديث. فوجدت ضالتها في الماركسية، أي في فكرة غربية المنشأ، مناهضة للغرب ... سجل الزعيم الصيني ماوتسي تونغ هذا الإشكال بقوله: «في فترة طويلة جداً تمتد من حرب الأفيون إلى حركة ايار (مايو) 1919 أي أكثر من سبعين عاماً، كان الصينيون يفتقرون إلى السلاح الفكري لمقاومة الامبريالية ... واضطر الصينيون إلى تعلم نظرية النشوء والارتقاء، والحق الطبيعي، والجمهورية البورجوازية وغيرها من الأسلحة الفكرية ... ولكن كانت تلك الأشياء ضعيفة جداً، ولم تستطع الصمود ... إن الثورة الروسية عام 1917 أيقظت الصينيين من سباتهم ... و(تعلموا) الشيء الجديد وهو الماركسية اللينينية ... ومنذ ذلك الحين تغير اتجاه الصين ... ومنذ ذلك الحين يجب إنهاء عصر احتقار الصينيين والثقافة الصينية من تاريخ العالم الحديث» – (الصينيون المعاصرون، المصدر السابق، ص 263). وتفسيره لذلك: «إن الماركسية من الثقافة الغربية ... ونتاج الثقافة الاجتماعية الصناعية الغربية، وتتسم بالفكر العلمي للثقافة الغربية، ومغزى التقدم ... كما أن الماركسية هي الثقافة الغربية المناهضة للغرب أيضاً، ونقدت التاريخ الغربي والحقيقة الاجتماعية نقداً عميقاً وكشفت النقاب، بصورة مفضوحة، عن النظام الاجتماعي للرأسمالية، وطبيعة الاستغلال، ويمكن أن تتجاوب مع الحالة النفسية للوطنية والقومية الصينية المتعاظمة وقتئذ ...» – (الصينيون المعاصرون، المصدر السابق ، ص 262) غير أن الماركسية لم يُسمح لها بأن تظهر بمظهر الفكرة «المستوردة» وتم التركيز على «تصيين» الماركسية، أي «تحقيق الدمج المتبادل بين النظرية الماركسية والممارسة المحدودة للثورة الصينية والبناء ... ويعد ذلك بمنزلة قيام الصينيين (وبخاصة الصينيين الشيوعيين)، بإغناء الماركسية وتطويرها من خلال الممارسة» – (الصينيون المعاصرون، المصدر السابق، ص 265). تأسس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921. ومر بتجارب مريرة عدة من الإخفاق والفشل. ثم لجأ إلى الأرياف – خلافاً للتنظير الماركسي – وقاد ماوتسي تونغ «المسيرة الطويلة» الناجحة من هناك. وأخذ يوحد الصين مقاطعة بعد أخرى، إلى أن دخل بكين عام 1949، وأعلن في اول تشرين الاول (أكتوبر) قيام جمهورية الصين الشعبية من ميدان «تيانانمن». والمفارقة أنه بينما تصدى الشيوعيون في الصين لإنجاز الوحدة القومية الحديثة، وقادوها، وقف الشيوعيون العرب ضد حركة الوحدة القومية وحاربوها ... إرضاءً للحسابات المرحلية للأممية الشيوعية! ومنذ توحيد الصين في دولة قومية حديثة، وهذه القوة الآسيوية المتحضرة في صعود هادئ متصل الحلقات ... «ضد الامبريالية» حيناً وبمهادنتها تارةً أخرى، ضد «التحريفية» الشيوعية الروسية طوراً، وبالتحالف مع روسياالجديدة طوراً آخر! ... وصولاً إلى الأممالمتحدة ومقعد دائم في مجلس الأمن يتمتع بحق «الفيتو». وبالنظر إلى تحسن العلاقات مع تايوان في ظاهرة جديرة بالتأمل، فإن هذه الجزيرة قد كفت عن محاولتها العودة إلى عضوية الأممالمتحدة مراعاةً لمكانة الدولة الأم ... وعلى رغم أن الدولة الصينية انتقلت إلى «اقتصاد السوق» الموجّه – وصارت أدبياتها تتحدث عن أهمية صيد القطة للفئران بغض النظر عن كونها سوداء أو بيضاء - ولم تعد سائرة على النهج التقليدي للماركسية، وتحررت من سيطرة زعمائها «التاريخيين» مثل ماوتسي تونغ، فإنها لم تتنكر لهم ولدورهم التاريخي. وأمامي «روزنامة» صينية رسمية، خاصة بالذكرى الستين لقيام الدولة الحديثة تبدأ بصورتين لماو: الأولى وهو يعلن قيام الدولة الموحدة، والثانية عام 1954وهو يعلن دستورها «الاشتراكي» الأول... إن التجربة الصينية في الشرق واحدة من أبرز تجارب التحديث التي ينبغي أن يدركها العقل العربي، وأهميتها أنها مدت ذراعاً واحدة تغرف من الغرب أعمق أفكاره، ومدت الذراع الأخرى إلى مخزونها الحضاري تغرف منه أعمق مكنوناته. * كاتب من البحرين.