الغربة قد تكون أمرا صعبا ..لا تكاد تجد من ينظر إليها كفعل إيجابي، فلا أحد يرغب في فراق أهله ووطنه وأحبابه، غير أنّ الشعراء والأدباء ينظرون إلى هذا الموضوع من زوايا متعددة، ولهم فلسفتهم التي تحيل الغربة إلى فعل إيجابي وابداعي، هذا ما رأيناه لدى شعراء وأدباء عاشوا تجربة الغربة. غربة الفقد الشاعر المصري إبراهيم منصور رأى أنّ المكان لم يعد محركا للشجون كما كان؛ ويشير إلى غربة أخرى يمكن أن نسميها غربة المرحلة العمرية «فالغربة ليست غربة أبدان لكنها غربة أرواح، والإبداع حالة من التخيّل تحيل ما هو كائن إلى ما يريده المبدع. ويصف منصور تعاطي روحه مع الأمكنة والمدن « الفرح في الغربة فرح ناقص لأنك في بلدك الثاني - إن أنصفك المهذبون - ، ولأنه لافرق بينك وبيننا ، ولأنك شريك معنا ، ولأنك ... ، وكلها تذهب بك إلى البحث في تاريخ إقامتك متى ينتهي ، وهنا أنظر إليَّ ماذا أريد ؟ ، وأعرف أن الأوراق القيمة في حياتي ليست أوراق البنكنوت لكنها أوراق الشعر والكتابة «. ويضيف « الهمّ الحقيقي الذي أعيشه ويدفعني إلى الإبداع هي رؤيتي لروحي التي تودّ التحليق تارة في سماوات مكةوالمدينة وتارة في ربوع الأحساء التي عوضتني الفقد الذي يؤلمني في كل عودة، وهو فقد لمكان كنت تستحقه وملأه غيرك. يقول منصور « قصائدي الأخيرة تحوم حول الموت كصورة من صور الفقد، لكنني لا أراه الصورة الحقيقية للفقد فكثير من الأحياء لاقيمة لهم وموتى عاشوا ولايزالون معنا، لكن ما أعانيه حقا هو فقد الجمال الذي يغذي الأرواح « الهمّ الحقيقي الذي أعيشه ويدفعني إلى الإبداع هو رؤيتي لروحي التي تودّ التحليق تارة في سماوات مكةوالمدينة وتارة في ربوع الأحساء التي عوضتني الفقد الذي يؤلمني في كل عودة،اغتراب إبداعي أما القاص والروائي حسن الشيخ فهو يفرّق بين الغربة والاغتراب، ويرى أنهما مختلفان رغم تلازمهما، وهو يجد أثر الغربة (البعد عن الوطن ) في العديد من قصصه القصيرة ونتاجه الروائي، « فهي تفجّر طاقات المبدع إذ تشده إلى الماضي، حيث المسكن الأول، والحب الأول، وملاهي الصبا، « . اما الاغتراب فيعرّفه الشيخ بأنّه « تلك الغربة المكانية والزمانية وأنت في داخل الوطن، . فقد يعيش المبدع اغتراباً من نوعٍ ما وهو بين أهله واصدقائه ووطنه حين لا يستطيع الالتقاء معهم فكرياً». ويشير الشيخ إلى تضمّين روايته ( الفوارس ) الكثير من الغربة والاغتراب، وختم الشيخ أنه يجد تأثير الغربة واضحا وصارخا في بعض قصصه، رغم أن تأثير الغربة أقل أثراً من تأثير الاغتراب، فالنصوص الغارقة في الاغتراب هي أشد وقعاً، وأكثر ألما، وأجمل إبداعا «. شكل وموسيقى وتؤكّد الشاعرة أشجان هندي أنّ للغربة أثرا في بعض ما كتبته وهو يظهر في بعض قصائدها، و لكن ليس لها أثر في (كل إبداعها) . وتشير هندي إلى أنها تجد للغربة أثراً على مستوى الصورة وطريقة التقاطها و سيناريو تسجيلها في القصيدة، « أو في الحديث بزاوية رؤية معينة في موضوع معيّن داخل القصيدة، أما عن أثر الغربة في القصيدة بشكل عام فلا أجد له (شخصيا) أثراً في قصائدي». وتضيف « في (بعض) قصائدي أشرت إلى أماكن بعينها في مدن سافرت إليها أو عشت في بعضها لفترة، و تحدثت عن مشاهد و تفاصيل؛ معينة كما في قصيدة (بن الرتابة) المنشورة في ديوان (ريق الغيمات)، و هناك أجواء شبيهة بذلك أيضاً في قصيدة (حبة كرز باريسية)، و أجواء و لقطات أخرى في قصيدة (صباحك سكري) و غيرها». وتؤكّد هندي أنّ الشاعرة أو الشاعر لا يتعمد ذكر أو إبراز ذلك الأثر في قصائده؛ فهو يأتي و يظهر شئنا ذلك أم أبينا. وتختم هندي قائلة « الأهم: إن القصائد (تغترب) أحياناً و نحن لم نبرح أماكاننا؛ ولهذا أمثلة و شواهد كثيرة لدى الشاعرات والشعراء العرب المعاصرين، و بالتأكيد أنا منهم! . الغربة والوطنيّة من جهته يرى الشاعر المصري السيد الجزايرلي أن مصطلح «الاغتراب» يعد من أكثر المصطلحات جدلية لأنه متعدد التفسيرات والتأويلات، ويختلف باختلاف الحقل المعرفي الذي يتم وضعه فيه، أما «الغربة» فقد تكون تعريفاً مبسطاً لجزئية من مضمون هذا المصطلح . يقول الجزايرلي: للغربة أثر كبير جداً في شعري، ليست الغربة المرتبطة بمفهوم هجرة الجسد من مكان إلى مكان، ولكنها الغربة المرتبطة بمفهوم جوهري متصل بالمشاعر الذاتية التي ترفض واقعاً مراً مهيناً . ويضيف « في قصائدي المبكرة وحتى قبل سفري خارج مصر كان للغربة حضور واضح ، وهذا يعني أن شعوري بالغربة كان مرتبطاً دائماً بمشاعر الغربة داخل الوطن، والغربة كما أوظفها في شعري ترتدي عباءة الرفض.. رفض واقع غائم وغامض وملتبس ومهين، « يقول الجزايرلي: « قصدية التعمَّد قد تجرُّ الشاعر إلى «فخِّ النظم» ، ولكنه موضوع يتسلل إلى القصيدة بقوة الدفع الداخلي للذات الشاعرة التي ترى «الغربة» صورة من صور تفريغ الوطن من كائناته المفتونة بترابه، الذات المجهولة أما الشاعر جاسم الصحيح فيقول : « مفردة الاغتراب تحمل دلالة كبرى في معناها الإنساني خصوصا وأنَّ جذورها القديمة تتحدَّث عن وجود الإنسان على هذه الأرض بوصفه اغتراباً بعد أن تمَّ طرده من السماء. ولا يمكن للشاعر أن يتجاوز هذا المعنى الأوَّل للاغتراب، لكن يمكن أن يربطه بالمعاني اللاحقة مثل غربة الإنسان في الجغرافيا بعيدا عن الوطن، أو غربته النفسية داخل وطنه ووسط مجتمعه وهذه من أقسى الغربات». ويؤكّد الصحيح أنّه عاش ويعيش « جميع هذه الغربات وأكثر. ويختم الصحيح قائلاً « الغربة عن المكان تمثِّل القلق وعدم الشعور بالأمان، بل وعدم الشعور بالاكتمال وكأنَّ جزءاً من هذا الغريب مبتورٌ من نفسيَّته. كلّ هذا يدعو الشاعر للارتفاع بمستوى القلق من المرض إلى حالةٍ إبداعية. فلا شكَّ أنَّ الغربة ذات تأثير إيجابي على الكتابة بمقدار ما هي أليمة على النفس البشرية «. انعكاسات عنيفة الشاعر اللبناني وليد حرفوش يرى أنّ الاغتراب حالة عرفها الشاعر العربي منذ القدم « وهي حالة من عدم التجانس مع البيئة المعاشة مما نتج عنها ما يعرف بشعراء الصعاليك . أما في ما يتعلق بتجربته الشخصية فهو يشعر أنه يعيش الغربة المركبة فهي مزيج من الغربة المكانية، والاغتراب الذاتي، الذي يجعل الروح تعيش غربتها الداخلية . ويعتقد حرفوش إن الاغتراب الذاتي هو دافع كبير للاغتراب المكاني «حيث يضيق الإنسان ذرعا بمجتمعه لظروف متعددة، فيدفعه هذا إلى التمرد، .. أشعر أنني نتاج غربة واغتراب.. وكأن الاغتراب الذاتي يجعلك نسيجا مختلفا لا تشبه أيا من الأنسجة . فرصة للابتعاد أما الروائية أميرة المضحي فتنظر إلى الغربة كفرصة كبيرة لاكتشاف الذات وإعادة صياغتها من جديد وفق رؤى مغايرة « كما أنها محاولة لنكون ذواتنا أو لنكون ما نحلم أن نكونه». وعن تجربتها في الكتابة عن الغربة تقول» كتبت عن مدينة ميامي، التي أحلم بزيارتها وبرغم ذلك فأنا زرتها من خلال القراءة والاطلاع. وتؤكّد المضحي أنها « حساسة جدا تجاه المدن، بعضها يعيش في ذاكرتي لأني زرتها، وبعضها يعيش في قلبي لأني عشقتها ما قبل الزيارة الأولى، ولأننا نكتب عما يسكننا وعما نحب، كتبت عن بيروت. هذه المدينة التي تعيش في داخلي وتسكنني بمعالمها وشوارعها ومقاهيها ومكتباتها.