بعيداً من الأسماء الكبيرة الحاضرة في مهرجان أفينيون لهذه السنة والمحتفى بها ضمن تظاهرة «أيام فناني المهرجان (وجدي معوض، توماس اوسترماير، جوزيف نادج، ساشافالس)، برزت ضمن البرنامج الرسمي أعمال وتجارب مسرحية من مختلف أنحاء العالم. وحاول معظم أصحابها إيجاد شكل فني خاص بهم، وذلك عبر طرحهم أفكاراً حداثية تتسق مع توجهم الإخراجي. هكذا، اتسمت معظم المشاريع المسرحية بصيغتها التجريبية، والتي تنمّ عن بحث طويل اعتمده صانعوها، في سبيل إيجاد علاقة جديدة مع «المتلقي»، لتكون خشبة المسرح حاضنة لحوارات تعيد النظر عملياً بصفة «التلقي». ذلك، على غرار معظم التجارب الحديثة في الفنّ المسرحي، التي اتخذت من كسر العلاقة النمطية مع المتلقي، غاية أساسية لها. «بداية شيء ما» تأخذ المخرجة التونسية الأصل مريم المرزقي جمورها إلى مكان متخيل جديد في هذا العالم، حيث تتوافر الرفاهية، وتغيب المشاكل الداخلية. اختارت المرزقي مكاناً أشبه بشاطئ البحر، بدأت تتوافد إليه شخصيات المسرحية تدريجاً، لتوجد في ما بينها علاقات جديدة، ضمن منظومة أفكار جديدة تخصّ المكان المتخيل. شخصيات المسرحية حاولت أن تتحرر من سلطتي الزمان والمكان، فكان التفكك سمتها الأساسية. لقد ذهبت لكي ترفّه عن نفسها في مكان جديد، في محاولة إيجاد عزلة عن العالم الخارجي، لكنّ الوحدة قتلتها وكأنها أرادت في رحلتها أن تختار اللامكان وطناً لها. تجاوزت سينوغرافيا العرض حيّز الممثلين، لتشمل مقاعد المتفرجين. فالجمهور الذي كان امتداداً مكانياً لمجهول شخصيات المسرحية «البحر»، صار عاملاً أساسياً في عزلة الشخصيات. الشاشة السينمائية التي كانت صلة هذه الشخصيات مع العالم الخارجي، كانت هي أيضاً مصدراً للضوء، فكلّ الأخبار وأحوال المتغيرات السياسية العالمية الآتية من الخارج، توجد حواراً بين الوافدين إلى المكان الجديد. الشاشة نفسها ستشهد موت الشخصيات بطريقة «غروتسكية»، على مشارف العالم الحقيقي. هكذا يموت الضعفاء بصمت، وهم يرقصون. اشتغلت المرزوقي مع الكريوغراف التونسي رضوان المؤدب، الذي سبق له أن عرض عمله «الجنة تحت أقدامهن» في بيروت، ضمن برنامج «أشغال داخلية» الأخيرة. اللوحات التي صمّمها الكريوغراف التونسي في «بداية شيء ما»، جاءت لتؤدي وظيفتها الدرامية، لا سيما في المشهد الختامي. أما اللوحات الراقصة فجاءت متقطعة خلال العرض ومنسجمة مع العزلة المُرادة، وهي تنم عن هشاشة الشخصيات الداخلية، حيث تتشابه المجاميع في رغبتها في الانتماء، في البحث عن أثر المكان على السلوك البشري. وأكدت تصاميم «المؤدب» على إنسانية الحكاية، بعيداً من دلالات مكانية أو زمنية، فاستخدمت في السياق نفسه مقاطع موسيقية من مختلف الثقافات العالمية. استطاعت المرزوقي أيضاً أن تعزل الجمهور، أن تورطه مكانياً، ليبدو كأنه في وحدة حال مع هذه الشخصيات التي تتسم بالتفكك. وكانت شاشة العرض بالنسبة إلى الجمهور صلة وصل بينه وبين العالم الخارجي أيضاً. في نهاية المسرحية، يقع جمهور المسرحية في مأزق حقيقي بعد تأكّل شخصيات المسرحية أمامه، ذلك عند محاولتها التحرر من المكان الدرامي الذي تشاركته مع الجمهور خلال ساعتين من العرض. «ساحة الشرف» تعد «ساحة الشرف» الواقعة ضمن قصر البابوات الأثري مسرحاً من أعرق الأماكن في تاريخ مهرجان أفينيون، وفيها قدم فيلار عروضه الأولى التي أسست لنشوء أهم مهرجان مسرحي في عالمنا اليوم، إضافة إلى روعة تصميمه معمارياً واتساعه لأعداد هائلة من المتفرجين. «ساحة الشرف» هو أحد أعمال هذا العالم، أتخذ من هذا المكان المسرحي والأثري موضوعة له. الحكاية بدأت عندما طلب المخرج الفرنسي جيروم بيل أن يقدم أحد عروضه في هذا المسرح عام 2010، إلا أن إدراة المهرجان رفضت طلبه. لكنه بدأ العمل منذ عام 2011 على مشروع آخر. قام جيروم بيل بالعمل مع مشاهدين من مدن فرنسية مختلفة، سبق لهم أن حضروا عروضاً في هذه الساحة، وعندهم حكايات خاصة عن هذا المكان. هكذا جاء العرض، الجمهور يحاور الجمهور، يجلس من اشتغل معهم جيروم على كراس حديدية على الخشبة الفارغة الضخمة، بالترتيب يقوم كل منهم بإخبار الجمهور عن حكايته، أو بالأحرى ما يقبع في ذاكرته عن هذا المكان. المؤدون كانوا بأعمار مختلفة، فمن الطفلة ذات الإحدى عشرة سنة إلى العجوز السبعينية. كان لافتاً الاشتغال الدراماتورجي للمخرج الفرنسي على الحكاية الخاصة بكل شخصية، فظهرت وكأنها جسد واحد، لا سيما إضفاء صيغة الدرامية عليها، فكل شخصية لها فرادتها، وتمتلك أفكارها الخاصة عن هذا المكان. العرض الذي جاء بمثابة إنعاش للذاكرة، كان أيضاً وفاءً للجمهور، فهو نوع من أنواع تكسير الحنين عند المؤدين أنفسهم، فمعظم الأعمال التي أُتي على ذكرها، أو بالأحرى الصورة أو المشهد الباقي في ذاكرة المشاهد، تم تجسيده على الخشبة بواسطة الممثل الأصلي، فأُعيد الزمن إلى أحد أعمال روميو كيستولوتشي عندما جاء الممثل نفسه وتسلق الجدران الهائلة الارتفاع في قصر البابوات، كذلك أيضاً بمشهد آخر من أحد الأعمال الروسية التي قدمت في المسرح نفسه، ومشهد من «مدرسة الزوجات» لموليير... الممثل الأصلي الذي لم يتسن له الحضور، حضر عبر شاشة العرض، كما حضر بعض من المتفرجين الذين اشتغل معهم بيل على تقديم رأيهم عبر مقاطع فيلمية. هكذا، كانت تتقلص المسافات بين الخشبة والجمهور يوماً بعد الآخر، لتأتي لحظة يجد الجمهور نفسه فيها على الخشبة، يتأمل دراماتورجيا الحياة، يقول ما يحلو له، لتعود القناعة الراسخة له بأنه هو صاحب الأحقية دائماً. العجوز التي ولدت بعد عام من تأسيس المهرجان ، تحدثت كيف جاءت إلى أفينيون وهي في الخامسة عشرة، لم تقاوم نفسها فبدأت بالبكاء في المشهد الأخير، ليسأل الجمهور الحاضر نفسه من جديد: ما هو الحقيقي؟ وما هو المسرحي؟ خلال ساعتين من العرض كان الجمهور يمتلك أسئلة جوهرية شغلت طويلاً بال رواد المسرح عبر التاريخ: ما هو المسرح ؟ وما غايته؟