تحتفل مدينة أفينيون، منذ السابع من الشهر الجاري حتى الثامن والعشرين منه، بالمسرح وفنون الخشبة، كعادتها في كل سنة، تحت سماء زرقاء صافية الأديم ثابتة الضياء، تتحدّى أمطار باريس المزمنة ونور سمائها الضنين. تركتُ باريس في صبيحة نهار تغمره الأمطار والعواصف، والشوارع لا ترى فيها إنساناً كأنك في مدينة هجرها سكانها، ووجدت نفسي، بعد أقل من ثلاث ساعات، في مدينة باهرة النور، جميلة الحرّ، تكتظّ شوارعها وساحاتها بالفنانين والمشاهدين، وجدرانها بملصقات المسرحيات الزائدة على الألف التي يتضمنها مهرجان الoff – أي المهرجان غير الرسمي الذي يزدهر إلى جانب المهرجان الرسمي – مهرجان الin. وجدت نفسي إذاً، في مدينة أفينيون حيث تتتالى العروض وتدور دوران أسراب السنونو وهي تطلق صيحاتها المرحة فوق أحجار أفينيون القديمة، دوراناً جنوني السرعة، فائق الدقة، كأنه في تناسق سرّي مع ما يجري ضمن المدينة. ذلك أنّ أفينيون قد تكون المكان الأمثل الذي يجسّد كنه هذا الفنّ ونبله في صلته بالزمن، فنّ المسرح في دورانه الزائل والأبدي في آن، الذي يزول حين تنطفئ أضواء الخشبة في ساعات الليل المتقدمة كي يعود ويحيا من جديد في اليوم اللاحق، مشهداً مماثلاً لأَمْسِه، مختلفاً عنه كلياً. تتميز الدورة السادسة والستون لمهرجان الin ببرنامج يطبعه، في قسمه الأول على الأقلّ، بطابع خاص فنان «الشرف» المشارك، المسرحي الإنكليزي سَيْمون ماك بُرناي، وصديقه فنّان «الشرف» الثاني، الكاتب الإنكليزي جون برْغر المتعدّد الكفاءات. ومن المعلوم أنّ جون برْجر ناقد فنّ وروائي وشاعر ورسّام، وقد نال جائزة بوكر بريز (Booker Prize) على روايته «ج.» عام 1972، كما أنّ بعض كتاباته في نقد الفنّ غدت كتابات كلاسيكية تُدرّس في الجامعات. وقد تكون صداقة الفنّانَيْن الوثيقة ووجودهما القديم العهد على الساحة الفنية هو الذي يضفي على مهرجان هذه السنة ذاك الطابع الفريد بحيث تأتي بعض الأعمال الفنّية إلى جوهر الأسئلة مباشرة من دون أن تربك نفسها بذاتية ترغب في الظهور أكثر مما في إظهار ما تتحدّث عنه. وقد يكون للأيام وأزماتها – الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبا في جهدها اللاهث لإنقاذ اليورو، المشهد السياسي العالمي المحتقن، الثورات العربية، الدور الفاعل في إرساء المهرجان في أرض الواقع. هذا ما أكده لي فانسان بودرييه، مُدير المهرجان إلى جانب أورتونس أَرْشامبُو، حين طلبت منه التعليق على لوغو الدورة السادسة والستين هذه، وهو رسم للفنّان الأفريقي الجنوبي، وِليَم كانتريدغ، يمثّل رجلاً ينادي عبر مذياع، جسده نفسه نداء إذ ينحني في حركة تدفعه دفعاً إلى الأمام. فالمسرح نداء، نداء للآخر، يعطف الآخر إليه، يدعوه صوتاً وجسداً. لا مسرح من دون مشاهدين. ولكن إلام تدعو هذه الدورة تحديداً مشاهدها؟ «السيد» وماك برناي ما من شكّ في أنّ تأكيد الصلة الوثيقة بين الأدب والمسرح هو النداء الأول لهذه الدورة وهو خيط أساسي من الخيوط الجامعة لبرنامجها الذي يتضمّن ستة وثلاثين عملاً. واحد وعشرون منها أعمال مسرحية جديدة. وقد استقبلت ساحة شرف القصر البابوي من السابع حتى السادس عشر من تموز عملاً مسرحياً مميّزاً في إخراجه كانت تنتظره ساحة الشرف منذ سنوات، حيّاه المشاهدون والنقّاد. قدّم هذه المسرحيّة الفنان المشارك سَيْمون ماك برناي وفرقته «كومبليستي» (Complicite) وقد استقى ماك برناي عنصرها الدرامي من رواية بولغاكوف «السيّد ومارغريت». وهي رواية ذات هندسة معقّدة يتشابك فيها السرد في حكايات متفاوتة الأزمنة والأمكنة بقي الكاتب الروسي الذي اضطهده ستالين أكثر من عقد يُعيد كتابتها وأنهتها زوجته بعد مماته في عام 1941 ولم تُنشر كاملة في الاتحاد السوفياتي إلّا في عام 1973. والمسرحيّة - بعد الرواية - تشبك ثلاث حكايات شخصيّتها الرئيسة بل عمادها الجامع، إن لم يكن رَاوِيها، هو الشيطان الذي يأتي إلى موسكو الثلاثينات الرازحة تحت الديكتاتورية الستالينية في صورة البروفسور وُولَند، فيُظهر الفساد ويقطع الرؤوس، والرأس المعني هو رأس الموظف الستاليني المسؤول عن الأدب الذي يريد أن يُثبت أنّ المسيح لم يوجد يوماً. ويؤكد الشيطان أن يسوع الناصري قد وُجد حقّاً وها نحن نرى على الخشبة، في مشاهد تتشابك مع الأولى، بيلاطوس البنطي في لقائه مع يسوع الناصري وفي تردّده وندمه على الحكم عليه. لكنّ قصّة بيلاطوس هذه هي، في الحقيقة، القصة التي يرويها «السيّد» في روايته و «السيد»، الذي يُكَنّى سيّداً لأنه سيّد حبيبته، مارغريت، هو كاتب قادته ردود الفعل السلبية التي لقيَتها روايته إلى مستشفى الأمراض العقليّة. وها نحن نشهد أيضاً جهد مارغريت المستميت لإنقاذ سيّدها، في سرد ثالث يوازي السردَين الأوّلين. وفي الحقيقة، فإنّ ماك برناي هو الذي بدا في هذا العمل سيّد السرد والإخراج وسيّد ساحة الشرف. فهو الذي يُسمي نفسه «صانع حكايات» ويؤكد أنّنا «نعيش في عالم ليس إلّا عملاً مُتَخيَّلا معقّداً... نحسب أنّه الواقع»، نجح في حبك الحكايات الثلاث، على رغم تعقيدها، في سرد جلِيّ، واضح، تابعه المشاهدون الألفان الذين ملأوا المدرج كل ليلة في صمت لاهث. فالإخراج يعجّ بالصور المشهدية المبهجة، البسيطة واللعوب، من رأس مقطوع - يمثّله رأس بطيخ - يتطاير لِيَرسو في يد قريبة وعلى صفحة تي - شرت استعملها المخرج شاشةً، إلى مشهد تحلّق فيه مارغريت فوق موسكو، إلى عصا تمثّل في ارتفاعها وانخفاضها نافذة تُفتح وتُقفَل. ولعلّ الذي يفرض الإعجاب مطلقاً في إخراج ماك برناي هو استعماله حائط القصر. فالمعلوم أن ساحة الشرف الشاسعة هذه، صعبة الاستعمال كخشبة، صعبة الإضاءة. وقد يكون العنصر الهندسي الأصعب ترويضاً فيها هو حائط القصر الذي يرتفع وراء الخشبة، في خَيْلاء أمتاره الثلاثين. ودرجت معظم الأعمال المسرحية التي قُدّمت في ساحة الشرف في السنوات الماضية إلى عزل قسم من هذا الحائط واستعماله ديكوراً تتّكئ عليه الخشبة، وجهدت في نسيان القسم الآخر وعلوّه الشاهق، فبقيت ضخامة القصر المظلمة تسيطر أبداً على الخشبة. وكأنّ ماك برناي لم يَهَب حائط القصر وتاريخه البابوي الذي يطلّ علينا من سموّ القرون، فاستعمله من أدناه إلى أعلاه ديكوراً طبيعياً تنبسط عليه، باهرة، صور الفيديو، من خريطة لموسكو تدور وتَكْبُر لتُظهر نقطة محدّدة من المدينة، إلى صورة ضخمة لستالين تجسّد جبروته الساحق للبشر، كما تنطبع على الحائط آفات التاريخ فُسُوخاً تهدّد وجوده. وينتهي العرض بمشهد رائع يطول ذكره في تاريخ الساحة، ترى فيه الحائط يتقوّض وحجارته تتدحرج، حجراً حجراً، في قرقعة عظيمة، بينما ترى معاون الشيطان والراوي يُطِلّان من نافذة القصر العُليا. وسحر هذا العمل المسرحي هو سحر يخاطب الحَوَاس الخمس، جميعها. فهو سحر الصورة، وسحر الإضاءة وسحر الصوت معاً. وهو بخاصة سحر التمثيل الذي يبقى حِرَفيّاً على رغم استعمال العرض لأحْدث وسائل التكنولوجيا. والمدهش حقّاً هو قدرة الممثّلين البارعة على خلق صلة مباشرة بل تواطؤ (!complicite) مع المشاهد لا ينتفي حتّى نهاية العرض، مع أنّ العرض في لغة أجنبية - في إنكليزيّة صعبة – تضطر معظم المشاهدين إلى قراءة الترجمة. وقوة هذا المسرح تكمُن في القيم الإنسانية التي يجسّدها الإخراج ببراعة. فهو يطرح بقوّة مسألة دور الكاتب والفنان في مجتمعاتنا، وقوّة الحبّ، واستمرار المعتقدات، وكيفية تحوّل عمل يسعى إلى إرساء العدالة الى ظلم مطلق. نداء الحياة هذه التساؤلات في صلب أعمال جون برغر منذ زمن طويل. فالكاتب الإنكليزي الذي يعيش منذ عقود في فرنسا درس مليّاً في نصوصه جماليّة الصورة وبالتحديد جماليّة الصورة الفنيّة المرسومة على لوحة، جائلاً في أعمال الرسّامين الكبار. كما أنه التزم في كتاباته قضيّة العدالة وحرية الشعوب، ووقف في طليعة الداعين إلى المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل. والنصّ الذي قرَأَتْه له الممثّلة الفرنسية جولييت بينوش في ساحة الشرف في التاسع من تموز يأتي في الحقيقة صدًى معاصراً لنصّ بولغاكوف وهو نصّ يطرح تحديداً نداء الحياة، نداء الحبّ والشغف بالعدل والتحرّر، يطرح هذا النداء قوةً تخترق كل الأسوار، مهما عظُمت. والرواية المقتطف منها النص تُرجمت إلى العربية تحت عنوان «من عايدة إلى كزافيه» وصدرت في عام 2010 عن الدار العربية للعلوم - ناشرون. تأتي هذه الرواية كأنّها مجموعة رسائل من عايدة العاشقة كزافيه المحكوم عليه مرّتين بالسجن المؤبد. هذه الرسائل التي غدا صاحبها ومتلقّيها شَبَحين مجهوليْ المصير، احتفظ بها الراوي. كأنّ الكاتب هو المسؤول عن الذاكرة، عمّا يجب عدم نسيانه من آمال الناس وآلامهم، من قصص المقهورين الذين قاوموا وصمدوا، وإن غابوا. ويذكر برغر أنه استمع طويلاً إلى قصص فلسطين قبل كتابة هذا النص الذي تُذكر فيه... الملوخيّة! وقد أعادت بينوش بصحبة برغر وماك برناي، القراءة في اليوم التالي أمام المساجين في سجن بونتي (Pontet). وثمة عمل آخر مميّز مستقًى من رواية. وهو العمل الذي قدّمته المسرحيّة الإنكليزية الأصل كذلك، كاتي ميتشيل. وقد نقلت إلى المسرح نصّاً للكاتب الألماني وِنفريد جورج سيبالد مداره أيضاً حفظ الذاكرة وعنوانه: «حلقات زحل». وهو نص قريب من يوميات السفر يروي فيه الكاتب سفراً قام به راجِلاً على الساحل الشرقي من إنكلترا في منطقة سوفولك المهدّدة اليوم بسبب ارتفاع مستوى بحر الشمال. والنص كئيب، قاتم، فخطوات الراوي تقوده أبداً إلى آثار الدمار التي خلّفها الإنسان، من أقدمها إلى أحدثها، ومنها بالطبع آثار الحربين العالميتين. وتقترح ميتشيل في عملها سفراً داخل دماغ الراوي فتنجح في إيحاء جمال النص. إلّا أنّ عملها يشكو من سينوغرافيا لا تفرض نفسها، وهي سينوغرافيا تسعى مبدئياً إلى اسماع المشاهد وَقْعَ خطوات المسافر، بينما يقرأ الممثلون النص بالألمانية. والمشكلة أن المشاهد يلهث وراء قراءة الترجمة الفرنسية للنص التي تتالى جمله الكثيفة المتسارعة أمامه فلا يكاد يرى ما يجري على الخشبة. «الرواية الجديدة» ويقدّم المهرجان أعمالاً مسرحيّة أخرى مستقاة من أعمال أدبية، منها في القسم الثاني منه، عملًا للمخرج الهنغاري كورنيل موندروكزو وهو ينقل إلى المسرح رواية «وصمة عار» (disgrâce)، وهي للنوبلي جون ماكسويل كوتزي. ومعلوم أن هذه الرواية التي نال عليها كوتزي جائزة بوكر برايز في عام 1999، تتحدّث عن الواقع الجنوبي الأفريقي بعد الأبارتايد حيث يبدو البلد مقسوماً قسمين. كلٌ منهما يحلم في إبادة الآخر، ولا أمل في الصفح والاتفاق، جماعة لا تحلم إلا بالانتقام بعد ما عانته من قهر وذل وأخرى ترزح تحت وطأة الشعور بالذنب والخجل. وينطلق المخرج من عمل كوتزي ليتأمل في الخوف الذي يسيطر على كل جماعة بشريّة تجرف الظروف عوائدها وقيمها الموروثة وتضطرّها إلى تغيير نمط حياتها. وقد قدّم المخرج الفرنسي كريستوف أونوري (Christophe Honoré) مسرحيّة لا تستند إلى نص أدبي، إنّما موضوعها أصحاب النصوص، وأعني هنا كُتّاب «الرواية الجديدة» في فرنسا ومسارهم الفكري في الخمسينات من القرن الماضي حول جيروم ليندون (Jérôme Lindon)، صاحب دار نشر «مينوي» (Minuit). فالمسرحيِة تقدّم المعروفين منهم، وفي طليعتهم مارغريت دوراس وناتالي سارّوت، كما تقدّم من هو أقل شهرة مع أهميّة دوره مثل آلان روب - غرييه وميشال بوتور وروبر بنجيه وكلود مورياك وكلود سيمون... وتتوخى المسرحيِة تكريمهم باستذكار مسارهم وجرأتهم في رفض القوالب الأدبية الجاهزة. إلا أنّ النتيجة بقيت سطحية لا تُقنع، يصح عليها نقد الروائيين الجدد أنفسهم للشخصيّة الروائية، والكلام الذي يلي لآلان روب - غرييه: «في الواقع، إنّ مُبدعي الشخصيات، بالمعنى التقليدي، لا ينجحون إلّا في أن يقدّموا لنا دُمًى كَفّوا بأنفسهم عن الإيمان بها». غير أن عمل أونوري يبقى لحظة مسرحيّة مَرِحة ودعوة حثيثة للعودة إلى هؤلاء الروائيين وقراءة أعمالهم.