إن استعصى عليك فهم الواقع الرديء، ابنِ له صرحاً في الخيال. ستقوى «حماس» يوماً ما، وسيصبح لديها ترسانة من الصواريخ عابرة للقارات، وحين تبدأ بصناعة الماء الثقيل في أول خطوة نحو تخصيب اليورانيوم في برنامجها النووي، حينها فقط ستضطر إسرائيل للدخول في مفاوضات مع الحركة على مبدأ «الأمن مقابل الكهرباء». تكون «حماس» قد بنت هذه الترسانة العسكرية مستندة إلى المولدات الكهربائية الضخمة التي هربتها من مصر عبر الأنفاق. لاحقاً، تدمر مصر كل الأنفاق ما يحول دون تهريب الديزل لتشغيل المولدات. يجلس رئيس وزراء حكومة «حماس» في غزة إسماعيل هنية وجهاً لوجه قبالة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على طاولة واحدة. ويبدأ النقاش بطرح من هنية بإعادة انتشار «المرابطين» على الحدود الشرقية من قطاع غزة مع إسرائيل، كبادرة حسن نية. في المقابل، يقترح نتانياهو تزويد القطاع لشهر كامل بالديزل المخصص لتشغيل محطة الكهرباء في غزة، كاختبار لجدية الحركة في ضبط الحدود. ينتهي الاجتماع ببيان إعلان مشترك من الطرفين يحمل اسم «الأمن مقابل الكهرباء». وما أن ينتشر الخبر حتى تحتشد جموع الغزيين أمام حاجز إيريز لاستقبال الوفد الفلسطيني المفاوض. يصل الوفد إلى الأراضي الفلسطينية، يُكبّر فيهم هنية من أجل سجدة الشكر لله على تراب وحشيش أرض بيت حانون، ثم تحملهم الجماهير على الأعناق، وتجوب بهم شوارع غزة. ينهار الاتفاق بعد أيام، بسبب إطلاق عناصر من حركة الجهاد الإسلامي صواريخ على جنوب إسرائيل، خصوصاً أن الحركة أعلنت مسبقاً حقها في تقرير المصير عبر حكم ذاتي في إقليم مستقل شرق غزة، يمتد من حي الزيتون حتى حي الشجاعية. وبما إن الحركة بنت في الإقليم المستقل محطات لتوليد الكهرباء بالطاقة الشمسية، فإنها تحاول إحراج «حماس» مع إسرائيل، وفي الوقت ذاته تريد إجبار «حماس» على شراء فائض الطاقة لدى الإقليم بأسعار مخفضة لتعزيز القطاع الاقتصادي هناك. تخرج الأقلية الحمساوية في الإقليم في تظاهرات احتجاج على إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل، وفي الوقت نفسه، داعمة لحق «حماس» في اتفاقها المبرم مع إسرائيل «الأمن مقابل الكهرباء». تقمع شرطة الإقليم التظاهرات بالغاز المسيل للدموع والرصاص الحي. تدين «حماس» قمع أنصارها بأقوى العبارات، وتطالب قيادة الإقليم باحترام حقوق الأقليات. تستمر التظاهرات أياماً من دون توقف، ويستمر معها إطلاق الصواريخ من الإقليم على إسرائيل. توقف إسرائيل تصدير الديزل إلى محطات الكهرباء في غزة، فيعم الظلام من جديد. وفي الليلة نفسها، تغير الطائرات الإسرائيلية على محطات الطاقة الشمسية للإقليم وتدمرها بالكامل. «حماس» لا تدين الغارات، وتلتزم الصمت، فيفهم ذلك على أنه موافقة مبطنة من الحركة على ما أقدمت عليه إسرائيل، وتتهم قيادة الإقليم «حماس» بالتواطؤ مع إسرائيل، ويعلن الإقليم «حماس» «جارة عدوة»، ما يزيد حدة التوتر بين الإقليم والمركز. تمضي أيام على العتمة في غزة، بعدها تدخل «حماس» في مفاوضات مكوكية جديدة مع إسرائيل في محاولة لمعاودة تصدير الديزل إلى غزة، لا سيما بعد خروج تظاهرات ضخمة تطالب فيها الجماهير «حماس» بسرعة إنجاز أي اتفاق من شأنه أن يعيد الحياة إلى مكيفات الهواء المركزية الضخمة التي أنشأتها الحركة مجاناً للتجمعات السكانية الغزية، إذ إن درجة الحرارة في ذلك الصيف بلغت 47 درجة مئوية. بعد سلسلة جديدة من المفاوضات بين «حماس» وإسرائيل، تشترط الأخيرة لتزويد غزة بالديزل، أن تتصدى «حماس» «للإرهاب» في الإقليم المتمرد، والقيام بإجراءات فورية في هذا الاتجاه. بعد يومين، تعلن «حماس» وضع الإقليم على قائمة الإرهاب، وتجمد حسابات أبرز قادته في البنوك لديها، وكذلك تفعل الولاياتالمتحدة وأوروبا. مرة أخرى يتهم الإقليم في بيان له، الغرب بالتواطؤ مع «حماس» لتضييق الخناق عليه. تشدد «حماس» قبضتها الأمنية على الإقليم من جهة الغرب، فيما تتكفل إسرائيل بذلك من جهة الشرق. ولزيادة الضغط على الإقليم، تقطع «حماس» علاقاتها الاقتصادية معه، وأبرز خطواتها في هذا الاتجاه، سحب كل «بائعي الفلافل» المنتمين إلى «حماس» من هناك. تُبقي الحركة على توريد الأدوية والمستلزمات الطبية للإقليم، لكن بأسعار باهظة جداً. ترتاح إسرائيل لهذه الخطوات، لكن بحذر، ومن ثم تستأنف العمل باتفاق «الأمن مقابل الكهرباء»، فتضيء غزة من جديد. لا يرتاح مقاومو الإقليم أن تكون غزة مضاءة بينما يغط ساكنوه في ظلام دامس. تخرج جماهير الإقليم إلى الشوارع لمطالبة سياسييه ومقاوميه بالتحرك. فجأة، تخرج السلطة في رام الله عن صمتها، لتذكر «حماس» بفترة التسعينات، حين كانت تقوم الأخيرة بعمليات تفجير داخل إسرائيل في كل مرة تقترب فيها السلطة من إبرام أي اتفاق جديد مع إسرائيل. تدور الدائرة حالياً على «حماس». فما أن تضيء إسرائيل غزة، حتى يطلق مقاومو إقليم الجهاد الإسلامي الصواريخ على جنوب إسرائيل، لتغط في موجة جديدة من الظلام، تليها سلسلة جديدة من المفاوضات لتعديل بنود اتفاق «الأمن مقابل الكهرباء». تدخل «حماس» وإسرائيل في دوامة لا تنتهي من المفاوضات للحفاظ على ما تبقى من اتفاق «الأمن مقابل الكهرباء». مفاوضات تشبه كثيراً تلك التي تجريها إسرائيل مع السلطة الفلسطينية منذ أكثر من عشرين عاماً، على مبدأ «الأرض مقابل السلام». وتستمر المفاوضات سنوات، «حماس» تفاوض إسرائيل من أجل الحصول على كهرباء، فتعيش معظم أيامها في ظلام. والسلطة تفاوض إسرائيل من أجل الحصول على أرض تقيم عليها دولة موعودة، فيزداد التهام المستوطنات لها. وفي كلا الحالتين يتحقق لإسرائيل الأمن المنشود وبأيد فلسطينية، وتضمحل الرغبة في المقاومة شيئاً فشيئاً. بعد خمسين عاماً، تشيب أجيال وتولد أخرى. تدور عجلة الزمن، تطوي أحداثاً وتفرز أخرى. تتغير تضاريس المكان، وينحت الزمن على خريطة ما كان يسمى «وطن» معالم جديدة، سيكون لها تأثير في الوعي الجمعي للجيل الجديد من الفلسطينيين والعرب. تغير «حماس» خريطة فلسطين في المناهج الدراسية، لتتحدد تضاريس الوطن الجديد وفق تموضع محطات الكهرباء في غزة. وتصبح محطة الكهرباء علامة سياحية مميزة لغزة، تماماً مثل محطات التليفون العمومي التي تميز لندن، أو أبو الهول والأهرامات في مصر. أما لدى السلطة في الضفة الغربية، فتنحصر معالم الدولة الوليدة في ما لفظته المستوطنات الإسرائيلية من أراض لا لزوم لها. ويشيع في الإعلام العربي والغربي مفردتان جديدتان مرادفتان لفلسطين: «كهرباء وأمن». وتغزو العالم كوفية جديدة مليئة بصور محطات كهرباء، تربطها أسلاك شائكة، بدلاً من الكوفية الفلسطينية المعروفة حالياً. يشيخ جيل الفايسبوك الحالي، وينصب حديث الآباء للأبناء عن النكبة التي حلت بهم عقب انهيار اتفاقي «الأمن مقابل الكهرباء»، و«الأرض مقابل السلام»، وتضمحل ذكرى النكبة الحقيقية في وعي الجيل الجديد، ويصبح تاريخ انهيار هذين الاتفاقين «نكبة جديدة»، تحتفل الأحزاب الفلسطينية «الافتراضية» بذكراهما السنوية في الإنترنت.