استقال نبيل عمرو أخيراً من مناصبه، مستشاراً اعلامياً للرئيس الفلسطيني، وسفيراً في مصر، ورئيساً لفضائية «الفلسطينية» التابعة لحركة «فتح»، وشرع في تأليف كتاب عن عمله مع الرئيسين، الراحل ياسر عرفات والحالي محمود عباس. وفي حديث الى «الحياة» يكشف عمرو عن جوانب من التجربة الفلسطينية، من شخصية الزعيمين اللذين يجمعهما عامل مشترك، هو أنه قدر لهما ان يقودا السفينة الفلسطينية في ظروف كانت معظم الأحيان غير مواتية. تردد أنك تؤلف كتاباً عن الرئيسين ياسر عرفات ومحمود عباس، ماذا ستكشف من جديد عن شخصية كل منهما؟ - لم أكتب شيئاً عن الرئيس الراحل ياسر عرفات وذلك بسبب الحيرة من أين أبدأ، وأين أنتهي. كُتب الكثير عن عرفات. وما قرأته لم يعجبني، لأنه تراوح بين التأبين بإظهار المناقب، والتحيز المطلق لكل ما فعل في حياته. وهذا لم يترك اي أثر لمصحلة الرجل الذي اعتبره ويعتبره كثيرون غيري شخصية ملحمية ذات ابعاد متعددة. أفضل ما في عرفات انه يخطئ ويصيب. يحسب ويغامر. يقرر بعد تفكير، ويجازف في حالات معينة من دون تفكير. الكتابة الترويجية عن عرفات تنتقص من قيمته الحقيقية. لهذا، ونظراً لعلاقتي الشخصية الحميمة معه، ولشدة ولائي له، وكثرة اختلافي معه، أعترف ان حيرة تملكتني، وتؤثر في قراري الكتابة عن هذا الرجل. ولماذا الآن؟ - حسمت الأمر بفكرة جديدة شجعني عليها انني شهدت مؤتمرين لحركة «فتح» قادهما عرفات، ومؤتمراً قاده محمود عباس. وشهدت العديد من المجالس الوطنية التي قادها عرفات، ومجلساً وطنياً صغيراً قاده محمود عباس. لقد شجّعت فكرة معينة فكرة أخرى. فكرة أن أكتب ليس فقط عن ياسر عرفات، وإنما ساكتب أيضاً في ظله وفي صداه وفي ما يقابله، عن محمود عباس. الكتاب لن يكون سرداً تاريخياً للوقائع، إنما سيتخذ طابعاً روائياً، فيه كم كبير من الوقائع، وجزء كبير منها لم ينشر من قبل. وهذه الوقائع تعكس قدرات الرجلين، وكيفية تعاملهما مع القضايا والأحداث من حيث الوعي والسلوك. على سبيل المثال كيف تصرف عرفات أثناء انعقاد المؤتمر الرابع في سورية تجاه الصراع الداخلي في حركة «فتح». وكيف نجح في جعل المؤتمر يخرج بنتيجة مطابقة لواقع التوازنات في الحركة. كيف ناور اثناء المؤتمر، وكيف غضب لإظهار أهميته في حياتنا من خلال إظهار فداحة غيابه. وكيف ذهب اليه حتى أعتى خصومه ومنهم أبو خالد العملة وأبو موسى لاسترضائه. وكيف أعلن الرجلان ولاءهما المطلق له مقابل أن يكمل المؤتمر. وقائع من هذا النوع لم تسجل من قبل. وأدى دوره بالطريقة نفسها في المؤتمر الخامس في تونس، غير انه لم يتمكن من تحقيق ما يريد، فحوّل اللجنة المركزية التي جاء معظمها من خارج رغبته الى جسم بلا مضمون. منذ المؤتمر الخامس وحتى الآن لم يحدث ان عملت اللجنة المركزية كإطار. وللإجهاز على دورها حيث كان «العتاولة» لا يزالون على قيد الحياة: خليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو اياد) وخالد الحسن (أبو السعيد)، فقد نجح قبل عقد المؤتمر في تحييد نفوذهم. وحين عقد المؤتمر نجحوا، لكن، بلا فاعلية. ثم كيف اسقط رفيق النتشة (أبو شاكر) الذي كان إسقاطه هدفاً معلناً لأبو عمار. وكيف أدار اللعبة. ما هي مزايا عرفات في رأيك؟ - عرفات كان لديه فائض في القوة. المقصود القوة الذاتية. قوة الإمساك بزمام القيادة، وعدم التساهل بأي تفصيل منها. قوة الإدراك بمكامن الأهمية الفلسطينية في الحياة العربية والدولية. قوة التجسيد الإنساني والتمثيلي لثورة فلسطينية طال انتظارها. قوة الكوفية وبدلة الكاكي والمسدس والحضور خارج نطاق اي بروتوكول. في الكرملين وفي القصر الملكي في الرياض، وفي خربة في اقصى جنوب لبنان مع ساكنيها ومقاتليه. كان لدى عرفات شعور بأن العالم مجبر على التعامل معه. يشبه ذلك النوع من الاشخاص الذين يتمتعون بقوة معنوية خارقة، وفي الوقت ذاته ليست لديهم اوراق فعلية توازي هذه القوة المعنوية. سافرنا مرة من بيروت الى دولة اخرى، وكان معنا صحافي لبناني ذكي. قال الصحافي لعرفات: الآن انت تغادر القمقم وغداً ستعود اليه. سأله عرفات: ما المقصود بذلك؟ قال الصحافي: باسم القضية الفلسطينية تنفتح أمامك كل الدنيا. ومن اجل القضية الفلسطينية ستعود أسيراً لشوارع بيروت الضيقة. وما هي مزايا أبو مازن؟ - فائض التواضع. فلم يتوفر في أبو مازن شرط نفسي للزعامة، وهو الرغبة الجامحة فيها. ولم يخطر في باله انه سيكون يوماً الرجل الأول. كان يخاطبنا مازحاً: عندما تقولون سيادة الرئيس اخالكم تخاطبون شخصاً آخر. ليست لديه الرغبة في ان يكون زعيماً شعبياً. لقد ظل لفترة طويلة أسير وضعه كمفاوض. وهنا تنقلب المعادلة لتصبح على النحو الآتي: حين يضطر الزعيم الشامل للتحول الى مفاوض يخسر. وهذا ما حدث مع عرفات. وحين يضطر المفاوض للتحول الى زعيم شامل يخسر أيضاً. وربما يكون هذا هو سر المعادلة. غير ان للرجلين مشتركاً هو السقف. فكلاهما يمارس قوته وضعفه تحت سقف منخفض هو الإمكانات المادية. وهذا يجعل كلمة قوي وضعيف في تصنيف الرجلين نسبية الى أبعد حد. لكن، في الإمكان استبدال كلمة قوي أو ضعيف بكلمة موجود أو غير موجود. فأي منهما ما دام موجوداً فهو على رأس المائدة. لكن، ألم يتحول أبو مازن في السلطة الى عرفات جديد. لقد ظهر في ادارته مؤتمر «فتح» السادس كأنه يحيي العرفاتية، او يستنبط منها عرفاتية جديدة خاصة به؟ - لا، عرفات لم يكن نتاجاً موضوعياً، انما كان معادلة تكامل فيها الموضوعي مع الذاتي. ولعل اهم ما يثير اللغط حول الاداء القيادي للرئيس عباس هو انه دخل تركيبة اسسها ياسر عرفات من دون ان يمتلك إمكانات عرفات في ادارة هذه التركيبة. لقد قبل كل ما ورثه عن ياسر عرفات، وتعامل معه، وبالتالي ظل عرفات ماثلاً. وليس صحيحاً ان أبو مازن تخلص في مؤتمر فتح من شبح ياسر عرفات، بل على العكس، إذ لم يجد أبو مازن ما يشد به اعضاء المؤتمر سوى الاسترشاد بياسر عرفات منذ بدء المسيرة حتى يومنا هذا. لم يُذكر عرفات في خطاب قدر ما ذُكر في خطاب أبو مازن في المؤتمر. تغير أبو مازن، ليس من أجل ايجاد صيغة بديلة عن صيغة عرفات، وإنما لإفهام الرأي العام انه امتداد لعرفات. وهنالك فرق بين الامتداد وصاحب الصيغة الجديدة. أبو مازن لم يخرج من عباءة عرفات، وإن رغب في ذلك. لأن الامر لا يتم بالتصويب او بتغيير الصيغ، وانما بالإمكانات والمواهب. كيف تعرّف لنا أبو مازن او تصفه؟ - أبو مازن يعشق العمل السري. هو أول من بادر الى الاتصال بالقوى اليهودية. والتحضير لهذا الأمر يجب ان يكون سرياً. وهو اول من أدار استعادة وحدة منظمة التحرير الفلسطينية بعد الانشقاق. والتحضير لمعظمها كان سرياً. وهو كذلك من تمرد على صيغة مدريد - واشنطن لاستحالة نجاحها، وفتح خط اوسلو السري. وهو راغب بشدة في الوصول الى حل، لذلك انعكس عمله كمفاوض وكمبادر جريء على أدائه القيادي في منظمة التحرير، وأيضاً حينما اصبح رئيساً للوزراء، ومن ثم رئيساً للسلطة، والمنظمة، والدولة. من هنا أصبح مفهوماً ضعف الأداء المؤسساتي لمنظمة التحرير. ولولا توفقه باكتشاف المواهب القيادية للدكتور سلام فياض لتراجع وضع السلطة الى أسوأ حد، تماماً كما تراجع وضع منظمة التحرير. منظمة التحرير، التي من المفترض ان تكون الاطار الاهم في حياتنا الوطنية، هي الآن في اضعف حالاتها. وفي كل الاحوال فإن الرئيس محمود عباس هو الآن الأقوى على الساحة الفلسطينية، ولذلك سبب آخر هو ان جميع المنافسين في فتح وغير فتح في اشد درجات الضعف. هل كان للرئيس محمود عباس معسكر خاص اثناء المؤتمر؟ - لا أعرف لأنني أعيد تقويم تحليلي، وقد صدق الرئيس حين أقسم بشرفه انه لن يتدخل لمصلحة اي من المرشحين. لكنه أعطى اشارات دعم للبعض؟ - هذا حدث. ووصلتني معلومات انه لم يكتف بالاشارات. على أي حال ان إغراء التدخل وارد في مؤتمر أغرق بالأشخاص الى حد ظهور طرفة تقول ان المرشحين احضروا ناخبيهم معهم. وهل تعتقد ان الرئيس سعى للحصول على قيادة جديدة مريحة؟ - نعم، أي رئيس يعمل من أجل ظهور قيادة مريحة. والديمقراطية ليست هدفاً بحد ذاتها. كل رؤساء العالم يعملون على ان يأتوا بالمقربين منهم. لكن بأقرب الصيغ الى الديموقراطية. أعرف ان الرئيس طلب من عدد من المفاتيح الانتخابية أربعة اسماء قائلاً: أريد هؤلاء بأي ثمن. ومن هم؟ - منهم من تم الترويج له أكثر من مرة. وقد ظهر ضعفهم الانتخابي. حتى أداؤهم لم يكن مقنعاً. وهنا كان لا بد من تدخل قوي. وأنا اتفهم هذا ولا اعتبره تزويراً كما اعتبر البعض نتائج المؤتمر. الرئيس أعطى اشارات دعم لسليم الزعنون وأبو ماهر غنيم وصائب عريقات. - الرئيس يرغب في رؤية صائب عريقات في اللجنة المركزية وفي اللجنة التنفيذية، وصائب يعرف ذلك. انت استقلت من عملك سفيراً لفلسطين في القاهرة ومن ادارة المحطة الفضائية لحركة «فتح». لماذا؟ - أنا تركت عملي في القاهرة قبل المؤتمر عملياً، وكنت متفقاً مع الرئيس على القاهرة على الإعلان عن ذلك بعد المؤتمر، سواء كنت من الفائزين او من الفاشلين. وما ان انتهى المؤتمر حتى طلبت من الرئيس ذلك، واستجاب. لماذا تركت القاهرة؟ - هنالك اسباب كثيرة من ضمنها ان القاهرة هي عاصمة الحوار الوطني الفلسطيني، وأنا لي موقف، يعرفه الرئيس وتعرفه «فتح»، من طريقة ادارة الحوار. لذلك لم أشارك فيه منذ البداية. والسبب الاهم انني اريد ان اكون في المركز. ليس مركز السلطة أو المنظمة، وانما المركز الفلسطيني. لكن كيف يترك دبلوماسي واعلامي عمله في الديبلوماسية وفي الاعلام؟ - فتح لم تصوت لي في المؤتمر السادس، على رغم انها اعتمدت طويلاً على أدائي السياسي والاعلامي خلال الفترة الماضية. لقد دفعت ثمناً باهظاً لحسن ظني بالرأي العام في «فتح». في المجلس الثوري وقف إبراهيم أبو النجا وقال: كانت غزة تشعر بالأمل والثقة حين كانت تشاهد نبيل عمرو يتحدث باسمها على الشاشات. وربما كان ذلك أول اطراء على هذا المستوى لرجل ما زال على قيد الحياة. لكن، حين اطلعت على نتائج التصويت من غزة تحديداً صدمت، وعتبت، وتمنيت لو انني لم اطلع. عندما لا تريد فتح واحداً من قادتها، على رغم أنني كنت منشعلاً في تأسيس اعلام حديث لها، من الطبيعي ان أسلمها الأمانة. ذهبت الى الرئيس وقلت له لم أعد قادراً على تحمل الخذلان والاذى الذي لحق بي. بالتالي سأسلمكم فضائية «فتح» بعد ان انجز مشروعها بنسبة 90 في المئة. لن تترك نتائج المؤتمر في نفسي عقدة. والغصة تختلف عن العقدة. في صدري غصة، لكن في روحي ووعيي لا توجد عقده. ان «فتح» التي اعرفها والتي كدت افقد حياتي غير مرة وأنا أقاتل في صفوفها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ليست هي التي رأيتها في المؤتمر السادس. رأيت عدداً كبيراً من بطاقات العضوية في جيوب البعض. ورأيت اناسا كانوا مراقبين، فأصبحوا اعضاء. ولم أعرف احداً من الذين اضيفوا في المرة الاخيرة (700-800 عضو). الوضع الطبيعي والحال هذه ان اسلم لهم امانتهم وابتعد الى موقع آخر من العمل، من دون التنكر لجذوري ولكل ما هو جميل في فتح التي امضيت اربعة عقود عضواً فيها. هناك من طالب بعد المؤتمر بتأسيس «فتح الصحوة». - ردة الفعل الاولى على الفشل في الانتخابات تأخذ إشكالاً متعددة. وفي كل الأحوال دعنا لا نتوقف عند امر الصحوة التي يعقبها الاسترضاء او تليها غفوة. نقول ان أحداً لا يستطيع تشكيل قوة فعالة تتحدى نتائح المؤتمر وتغيرها. أما العمل الوطني فمهامه كثيرة، وبوسع اي شخص لم تنصفه «فتح»، كما يعتقد، ان يتخذ موقعاً ينضم فيه لقوافل المناضلين من أجل الوطن. ان منظمة التحرير اطار بالغ الأهمية، وأن «فتح» كذلك، والمنظمات غير الحكومية أيضاً، ومعها العمل الثقافي والاعلامي. وماذا ستعمل الآن؟ - عملي سيكون بعيداً عن المواقع الرسمية في «فتح» والسلطة. سأتفرغ للعمل في منظمة التحرير. فأنا عضو في المجلس المركزي، وبدأنا اتصالات لجعل منظمة التحرير إطاراً شعبياً، وليس مجرد جسم بيروقراطي. لقد أُهملت المنظمة بما فيه الكفاية، وتهتكت شرعيتها على نحو يجلعنا نشعر بالخجل.