مع أن التاريخ يعيد نفسه، فلن أبدأ كما بدأ صاحبُنا قبل 57 عاماً، بقول الشاعر الطائي: وإِذا تَكُونُ كَريهَةٌ أُدْعَى لَها وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ فنحن عُتقاء من الكريهة بفضل الله، وأما الحيس - وهو ما يُعمل من التمر والطحين - فقد يعجز عنه نادي الفروسية الليلة، ونستعين على صنعه بيد أم عبدالعزيز، لكن هذا المساء يعود بالذاكرة إلى عام 1377 - 1957م، عندما زار مدينتي «عنيزة» شاب ال28 في الشهر الأول من وظيفته، مفتّشاً على المعهد العلمي، فيصادف ليلةً ثقافيةً شهريةً، شارك فيها - كضيف شرف - بكلمة استهلها بذلك البيت الذي عبّر عن ملامح الهيبة في شخصيته، وكأني به أشفق على طفولتنا من أن يُسمعنا بقية القصيدة التي تقول: وإِذا الشَّدائِدُ مَرَّةً أَشجَتْكُمُ فأَنا الأَحَبُّ إِليكُمُ والأَقْرَبُ عَجَبٌ لتلكَ قَضِيَّة، وإِقامَتِي فِيكُمْ على تِلْكَ القَضِيَّةِ أَعجَبُ أَلِمالِكِ خِصْبُ البلادِ ورعْيُها وليَ الثِّمادُ ورعْيُهُنَّ المُجْدِبُ (والثماد: الماء القليل). وقد نشر انطباعاته عن تلك الزيارة التفتيشية لمعاهد المملكة في صحيفة اليمامة في حينه، لكنني ما أزال باسم طلبة معهدنا أُطالب أبا عبدالعزيز بتفسير استشهاده الشعري هذا. ثم تعود بي الذاكرة 54 عاماً، عندما أصدر ذلك الأديب اليافع أول مرجع يُعرّف بشعراء نجد المعاصرين، ويتحدّث فيه عن أدبهم وحياتهم، كتاب تتجدد قيمته وطبعاته مع كتب مماثلة صدرت في الحجاز، تحكي بدايات الأدب السعودي بأطيافه الشعرية المتنوّعة. صار هذا الشاعر، منذ ذلك الحين، يتّخذ مكانه باقتدار بين أدباء الجيل المخضرمين، ويتربّع في الوقت نفسه على سدّة الشعر، ينحو منحى مجدّداً فيه، ويدخل عالم الصحافة من أبوابها الواسعة، ليصبح نسيجاً مركّباً من التعليم والأدب والإعلام. وكنا في آواخر شهر رمضان المبارك 1384- 1965م الذي افتتحت فيه إذاعة الرياض قبل 50 عاماً نطرق باب بيته، لنستعين به في كتابة فقرات أدبية رومانسية، تربط بين منوّعات العيد، إذ حققت الإذاعة في أيامها الأولى - في شارع الفرزدق المجاور لمنزله في شارع الجامعة - مركزاً نوعياً مرموقاً بين مثيلاتها من الإذاعات العربيات. وعلى مدى 50 عاماً - منذ افتتاح إذاعة الرياض ثم التلفزيون الذي يُكمل في العام المقبل أيضاً نصف قرن - استمرّت صلة معه لا تنقطع، ولا تتأثر إلا بعمق وازدياد، يمثّل بالنسبة إلى جيلي مرجعية الأستاذية والأخوة، ترفدها صداقة امتدّت مع أبنائه وبيته الكبير المفتوح. ولقد عشت خصوصاً مع أسلوبه الشيّق وطرَفٍ من بيئة نشأته الأولى، وذكرياته في رباط الطلبة في ميدان دخنة ومسجد سلام، وأيامه مع مفتي البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم، وأخيه الشيخ عبداللطيف في دروسهما المسجدية وفي المعاهد والكليّات، ومع بقية مدرّسيها في إلماحات تناولها ضمن مشواره الدراسي، وسردها في «قافية الحياة» بقلب مفتوح، وبشفافية ذكّرتني بالأجواء الدراسية نفسها التي عايشتها بعده ببضعة أعوام. لا أودّ أن أُفسد على القارئ متعة قراءة هذه السيرة الذاتية التي طال انتظارها، لكنني الليلة أغبط أبا عبدالعزيز متمتّعاً بحب الجميع، واستطاع التوفيق هذا العام بين معشوقته (القصيدة) وتدوين مذكراته، وأن يكون لوالديه، ولمدينته الوادعة العريقة (حَرمه في سدير) ولوصف الحال المعيشية والتعليمية والفلاحية فيها، والرياض التي أدرك دروازاتها الست وحاراتها القديمة، والمشايخ الذين قرأ عليهم، وصِلاته بعدد كبير من الشخصيّات الرسمية والإعلامية والثقافية التي مرّت في حياته، وقصة شطب الملك فيصل لاسمه ضمن منشئي مؤسسة اليمامة الصحفية، وقصيدته الهجائية الأولى عند اختبار دخول المعاهد، وبداياته الشعرية في جريدة المدينة، والمقالة الأقدم في جريدة البلاد، ومطارحاته حول العامية، وخصوماته الأدبية مع أحمد عبدالغفور عطار وعبدالقدوس الأنصاري وعبدالله بن خميس، وعن ارتباط اسمه بشعر التفعيلة، وقصة مجلة الدعوة وطبخة «الكونياك» التي اشتمّ مجلس الوزراء رائحتها، والعمل في المعاهد والكليات، وفي وزارة المعارف، وجامعة الإمام، ونادي الرياض الأدبي، وعن رحلاته السياحية ومشاركاته في المهرجانات الثقافية، وزيارة الوهابي للنجف، وأن يفرد لشريكة عمره الوحيدة (أم عبدالعزيز) ما استحقّته منه من مشاعر، وبخاصة قصيدته الشجيّة معها، وقصيدته المؤثرة عن مؤذّن الرياض الشهير «ابن ماجد» عند تجديد بناء الجامع الكبير، وهي وقفات موجزة لبعض محطات حياته التي اجتهد في اختصارها عن أن تبلغ أضعاف حجم الإصدار، وأتمنى لو أفردت السيرة كشّافاً (فهرساً) للمواقع والأسماء، يسهل معه الرجوع إليها خدمةً للباحثين. وبعد، إن «قافية الحياة» هي سيرة ذاتية للشخصية، كما عرفناه عبر خمسة عقود ونيّف، أستاذاً وأديباً وصديقاً، وتنويرياً وسطياً، وأباً لأسرة متصافية، ومبدعاً متدفقاً لشعر عذب، جعله حاضراً في ذاكرة الوطن، وطوداً من أطواد الفكر في المجتمع، وعلامة فارقة في الثقافة والتربية والإعلام، ونهجاً يلتزم الإسلامية والعروبية والوطنية، ألبسه الله ثوب الصحة والعافية، ومدّ له في العمر والعمل الصالح. * مؤرخ سعودي .. والكلمة أُلقيت في مناسبة تدشين كتاب «قافلة الحياة» لعبدالله بن إدريس ليل أمس بنادي الفروسية في الرياض.