تعد الحركة الصليبية أحد أهم مظاهر العلاقات بين الغرب الأوروبي المسيحي والشرق العربي المسلم في العصور الوسطى. وتتشابك الأسباب والدوافع المؤدية للحروب الصليبية ما بين دوافع دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية. ويعود الفضل للبابوية الكاثوليكية في إذكاء نار هذه الحروب على الأرض العربية، فقد شهد البابا أوربان الثاني (1088-1099) التناقضات الموجودة في مجتمع الغرب الأوروبي في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وبخاصة الحروب الإقطاعية بين النبلاء والسادة الإقطاعيين، كما أدرك فشل الكنيسة الكاثوليكية في إيقاف هذه الحروب عبر ابتداعها صيغتي «سلام الرب» و»هدنة الرب»، مع استمرار نزيف الدم المسيحي. تفتق ذهن البابا أوربان عن حل سحري لعمليات الاقتتال اليومي بين الفرسان المسيحيين، وذلك عبر تصدير المسألة برمتها إلي الخارج فوجد أن الوسيلة الوحيدة الناجعة هي حل مسألة نقص الإقطاعات في الغرب، أو ما أسماه المؤرخون «حالة الجوع إلي الأرض». فعقد اجتماعاً في مجمع كليرمونت في جنوبفرنسا عام 1095 دعا فيه إلي شن حملة صليبية مباركة باسم الرب من أجل الاستيلاء على مدينة القدس من المسلمين، واستعادة كنيسة القيامة، و «قبر الرب» بحسب الأدبيات الصليبية. تمكن الصليبيون من الاستيلاء على القدس في تموز (يوليو) 1098 بعد مذبحة مروعة مستغلين ضعف الخلافة الفاطمية والصراع مع العباسيين. ثم بدأ مشروعهم العسكري في الامتداد في فلسطين وبلاد الشام. وتفيض المصادر التاريخية الإسلامية والصليبية في الحديث عن الأوضاع السياسية والمواجهات العسكرية بين المسلمين والصليبيين طوال تلك الفترة. على أن هناك العديد من الأسئلة العلمية الجادة حول كيفية نجاح الصليبيين في الاستقرار قرنين من الزمان في بلاد الشام، عبر دراسة نظمهم الاقتصادية والاجتماعية، وكيفية تمويل الحملات الصليبية، ودور البابوية والظهير الأوروبي في ذلك. وعلى أي حال، على رغم الصبغة العسكرية للمجتمع الصليبي، امتلك الصليبيون نظاماً اقتصادياً مكنهم من الاستمرارية، عبر النظم الإقطاعية التي أقاموها على الأرض المغتصبة، في مواجهة حركة الجهاد الإسلامي بأبطاله، عماد الدين زنكي الذي نجح في استرداد مدينة الرها 1144، وابنه نور الدين محمود الذي استطاع ضم مدينة دمشق الموالية للصليبيين إلي المعسكر الإسلامي 1154، ثم صلاح الدين الأيوبي الذي جعل جهاد الصليبيين همه الأول. ونتيجة لعدم إحساس الصليبيين بالأمان، بفضل سياسة صلاح الدين وهجماته المتوالية عليهم، فرضت مملكة بيت المقدس ضريبة على سكانها عام 1183 لمواجهة الهجمات العسكرية لصلاح الدين الأيوبي. وجاء نجاح البطل المسلم في الانتصار على الصليبيين في حطين 118م، واسترداد المسلمين لمدينة القدس، ليحدث صدمة وذهولاً لدى البابوية والدول الأوروبية، فأصدر ملك إنكلترا هنري الثاني مرسوماً بفرض ضريبة على شعبه عرفت باسمها الصريح هذه المرة «ضريبة عُشر صلاح الدين الأيوبي 1188» من أجل تمويل حملة صليبية جديدة لاستعادة مدينة القدس. وهي الحملة التي عرفت بالحملة الثالثة بقيادة فيليب أغسطس وريتشارد قلب الأسد، التي فشلت في استعادة المدينة، ولم تنجح سوى في إعادة احتلال مدينة عكا 1189. وسنحاول معاً، بعد تصفح المصادر التاريخية الصليبية، عرض تلك الضرائب وكيفية جمعها في مملكة القدس الصليبية، وكذلك في إنكلترا من أجل التصدي للمشروع الجهادي لصلاح الدين الأيوبي. في ما يتعلق بضريبة عام 1183، قرر ملك القدس الصليبي بلدوين الرابع اختيار أربعة من رجاله الثقاة من مختلف مدن مملكة القدس لأداء القسم، ثم يقومون بدعوة سكان مدنهم إلى دفع ضريبة تبلغ 1 في المئة من قيمة دخولهم وممتلكاتهم، بحيث يجب على هؤلاء الأربعة أن يحتفظوا بالأسرار المتعلقة بالحال الاقتصادية للسكان سواء كانوا أغنياء أم فقراء، رجالاً أم نساء. بعد ذلك أصدر ملك القدس الصليبي مرسوماً يوجب على مواطنيه دفع 2 في المئة إضافية عن قيمة دخولهم وممتلكاتهم، كما أوجب على التجار وأصحاب رؤوس الأموال والسادة الإقطاعيين والبارونات وكذلك الكنائس والأديرة دفع ضريبة تعادل 2 في المئة عن إيجارات الأماكن التابعة لهم. كما يدفع السادة الإقطاعيون ضرائب عن أراضيهم وممتلكاتهم. كما يدفع الفلاحون في مزارعهم ضريبة تتناسب مع دخولهم... وبذلك لا يستطيع الغنى أن يتهرب من الدفع، ولا يثقل الفقير بما ليس في طاقته واحتماله». كما فرضت ضرائب بسيطة للغاية على السكان الفقراء أصحاب الدخل البسيط. أما العمال الأجراء فيدفعون ضريبة تبلغ 1 في المئة فقط. وإذا اشتكى أحد سكان مملكة القدس من ارتفاع قيمة الضريبة المفروضة عليه. يجب عليه أن يقدم كشفاً بدخله وأمواله وممتلكاته الحقيقة، كي يمكن تخفيض الضريبة عليه. ثم يحمل الرجال المكلفون جمع تلك الضريبة من الموجودين في المدن الواقعة من حيفا إلى القدس، الأموال إلى مدينة القدس بحضور بطريرك المدينة وأمين خزانة المملكة الصليبية. وتوضع الأموال في صُرر مختومة بالشمع. بحيث تكون أموال كل مدينة على حدة. ثم توضع الأموال جميعها في صندوق بخزينة كنيسة القيامة، له ثلاثة مفاتيح، يحتفظ البطريرك بأولها، بينما يحتفظ المسؤول عن الكنيسة بالثاني، والمفتاح الثالث يكون مع أمين القصر الملكي والرجال الأربعة المكلفين بجمع الضريبة. وتحمل أموال الضريبة التي يتم جمعها من المدن الواقعة ما بين حيفا وبيروت إلى مدينة عكا، وتوضع في صُرر مختومة وفي صندوق يحتفظ بمفاتيحه كل من رئيس أساقفة مدينة صور، وحاجب الملك، والرجال الأربعة المكلفين بجمع الضريبة. وكان أهم بنود ضريبة 1183، أنه لا يجوز صرف عائد هذه الضريبة على الشؤون العادية لمملكة القدس الصليبية، لكنها جُمعت فقط من أجل العمليات العسكرية، والدفاع عن البلاد ضد هجمات المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي. بعد فشل الصليبيين في التصدي لصلاح الدين، ونجاحه في استرداد القدس، وتهديده باقي الأراضي والممتلكات الصليبية، قرر الغرب الأوروبي مد يد العون للكيان الصليبي. فأعلن الملك الإنكليزي هنري الثاني فرض «ضريبة عُشر صلاح الدين 1188»، التي كان أهم بنودها أن يدفع كل مواطن ضريبة تبلغ عُشر قيمة دخله وممتلكاته خلال هذا العام. بعد ذلك يتم جمع أموال الضريبة داخل كل أبرشية في حضور القس ونائب المطران، بالإضافة إلى ممثل الفرسان الداوية، والفرسان الاسبتارية، وممثل عن ملك إنكلترا، وكاتبه الشخصي. كما جرى تكليف الأساقفة ونواب المطارنة بإصدار قرار الحرمان الكنسي ضد الأشخاص الذين لا يقومون بدفع ضريبة عُشر صلاح الدين الأيوبي. وإذا دفع أحد الأشخاص ضريبة تقل عن عُشر دخله وممتلكاته، يتم اختيار رجال عدة موثوق بهم لتقدير ثروته وما يجب عليه دفعه. وعلى هؤلاء أن يقسموا في الأبرشية على قيمة ممتلكاته. وعلى قيمة العُشر الذي يجب عليه دفعه. ويجب على هذا الشخص المتقاعس أن يقوم بدفع ما سبق تقديره عليه تماماً. وإلا تعرض لعقوبة الحرمان الكنسي. بالإضافة إلى ذلك توجب على أساقفة الأبرشيات في مدن إنكلترا أن يعلنوا للسكان في أعياد الكريسماس، وعيد القديس ستيفن في 26 كانون الأول (ديسمبر)، والقديس يوحنا في 24 حزيران (يونيو)، ضرورة دفع أموال ضريبة عُشر صلاح الدين الأيوبي، التي كان يتم جمعها بحلول عيد القديسة مريم في الثاني من شباط (فبراير) 1189، والأيام التالية له، وتسليمها إلى أولئك الرجال الموثوق بهم. ولأن فلسفة ضريبة «عُشر صلاح الدين»، كانت تهدف إلى تمويل حملة صليبية جديدة لاستعادة مدينة القدس من المسلمين ثانية، فكان من البديهي ألاّ يتم فرضها على رجال الدين والفرسان الذين سيشاركون بأنفسهم في الحملة الصليبية الجديدة. كذلك لم تفرض هذه الضريبة على قيمة الأسلحة والخيول والملابس التي يرتديها الفرسان الصليبيين، وكذلك خيول رجال الدين وما يحملونه من كتب وعلى المجوهرات الخاصة برجال الدين والأواني المقدسة الخاصة بالكنيسة. ... وكعادة مسألة جمع الأموال، فلم تعدم ضريبة عُشر صلاح الدين الأيوبي في إنكلترا من بعض رجال الدين والفرسان الذين حاولوا الاستيلاء على أموال الضريبة لأنفسهم. من ذلك ما فعله أحد الفرسان الداوية في لندن عندما حاول سرقتها، وهو ما دفع ملك إنكلترا إلى سجنه وتوقيع أقصى العقوبة عليه. ... على أي حال، فشلت ضريبة عُشر صلاح الدين 1188، ومن قبلها ضريبة عام 1183 في التصدي لهجمات صلاح الدين الأيوبي. واستمرت حركة الجهاد الإسلامي إبان الفترتين الأيوبية والمملوكية، حتى تمكن السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون من الحاق الهزيمة النهائية بالصليبيين وطردهم نهائياً من فلسطين بعد فتح مدينة عكا 1291. * أستاذ في كلية الآداب، جامعة الملك فيصل، الأحساء.