كان لهزيمة الصليبيين في حطين، واسترداد بيت المقدس منهم، وعودته لحوزة المسلمين، ردود فعل قوية جعلت رئيس أساقفة صور «جوسياس» يغادر إلى أوروبا سنة 583ه/ 1187م، لينقل إلى البابا «كلمنت الثالث» أخبار الصليبيين في الشام، وهناك تمكن «جوسياس» من مقابلة ملك إنجلترا وفرنسا، واتفق الملكان على أن يخرجا بجيوشهما جنباً إلى جنب إلى بلاد الشام، إلا أن اندلاع الحرب بينهما مرة أخرى تسبب في تأخر وصولهما إلى الشام.أما صلاح الدين، فإنه بجهاده المتواصل ضد الصليبيين تمكن ما بين سنة 583 585ه/ 1187 1190م، من استرداد المدن والمعاقل الإسلامية من الصليبيين؛ حيث لم يبق في أيديهم سوى صور، وطرابلس، وأنطاكية، واستطاع صلاح الدين بذلك أن يغير الخريطة السياسية لبلاد الشام كما كانت عليه من قبل، نتيجة لما خاضه من معارك حسمت الصراع لصالحه. أما عن الصليبيين الذين سلموا من الأسر، أو القتل، فإنهم تجمعوا في مدينة صور؛ حيث كان صلاح الدين يسمح للصليبيين المستسلمين بمغادرة المدن الإسلامية والذهاب إلى صور؛ فشكلوا بذلك قوة صليبية لا يستهان بها، الأمر الذي شجعهم على الزحف إلى عكا، ومحاصرة المسلمين الذين فيها في شهر شعبان من سنة 585ه، وقد طال حصار الصليبيين لعكا؛ حيث امتد إلى عامين، ويعود ذلك إلى أن حامية عكا الإسلامية كانت محتمية داخل المدينة، والصليبيون المحاصرون لعكا محتمون في الخنادق التي حفروها أمام عكا، مما جعل أمد الحرب يطول. وفي خضم الصراع الحربي الدائر بين المسلمين والصليبيين على عكا، وصل ملك بريطانيا «ريتشارد قلب الأسد» في جمادى الأولى سنة 587ه/ يونيو 1191م، إلى ساحل عكا، وبعد مضي شهر من قدومه، تمكن الصليبيون من دخول مدينة عكا، بعد هدنة عُقدت بين الجانبين الإسلامي والصليبي، وكان سبب موافقة صلاح الدين على عقد هذه الهدنة عدم تمكنه من الوصول إلى المسلمين الذين داخل عكا، وإمدادهم بالسلاح والمؤن، وكان من ضمن شروط هذه الهدنة السماح للمسلمين الذين في عكا بالخروج بأموالهم وأنفسهم، إلا أن ريتشارد قلب الأسد نقض العهد، وغدر بالمسلمين، وقبض عليهم، واحتجزهم لديه، وكان عددهم يقارب الثلاثة آلاف مسلم، بعدها توقف صلاح الدين عن تنفيذ بقية شروط الهدنة، حتى يتم الإفراج عن المسلمين المحتجزين، وطالت فترة المفاوضات بين الطرفين حتى انتهت فترة الهدنة التي حُددت بين الجانبين؛ مما جعل «ريتشارد قلب الأسد» يخرج بالأسرى خارج مدينة عكا، ويأمر بضرب أعناقهم جميعاً، وينقض جميع شروط الهدنة التي بينه وبين المسلمين، وبهذا التصرف المشين الذي قام به «ريتشارد قلب الأسد» أثر ذلك على نفسية صلاح الدين، حتى أنه أصبح يأمر بقتل كل من يُقبض عليه من الصليبيين، ولا يتم أسره كما كان يُفعل في السابق. عموماً، يُعد دخول الصليبيين إلى مدينة عكا نقطة تحول في رسم إعادة الخريطة السياسية للمنطقة مرة أخرى؛ حيث أصبحت مدينة عكا هي عاصمة المملكة الصليبية الجديدة بدلاً من بيت المقدس، وأصبحت تعرف بمملكة عكا، وبدخولهم إلى عكا أيضاً تأخر وجودهم في بلاد الشام قرناً آخر من الزمان. دارت معارك عنيفة بين صلاح الدين و»ريتشارد قلب الأسد»، إلا أن «ريتشارد» فشل في تحقيق أي نجاحات كبيرة؛ مما جعله يضطر إلى عرض هدنة على صلاح الدين الأيوبي، فاستشار صلاح الدين أمراءه ومستشاريه حول قبول الهدنة من عدمه، فأشاروا عليه بقبولها، بسبب التعب والعناء الذي أصاب الجيش الإسلامي جراء مواجهته للصليبيين، فتم توقيع الهدنة بين المسلمين والصليبيين في 21 شعبان 588ه/ 2 سبتمبر 1192م، وعُرفت هذه الهدنة «بصلح الرملة»، حيث تُعد هذه الهدنة من أشهر الهدن التي وقعت في تاريخ العصر الوسيط بين المسلمين والصليبيين، وما لبث أن توفي صلاح الدين الأيوبي في 27 صفر 589ه/ 3 مارس 1193م. ولكن ماذا حدث للدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي؟