دراسة تاريخ الجماعات الرهبانية العسكرية التي جمع أفرادها بين الدين والحرب في مبادئهم وقواعدهم وارتدوا ملابس الرهبان وهم يمتطون جيادهم ويقاتلون من فوق ظهورها، هي دراسة خصبة ومهمة، خصوصاً أن منطقة الشرق الإسلامي هي موطن تلك الجماعات التي قام الصليبيون بتكوينها وسريعاً ما أخذت في التطور والنمو التدريجي وشاركت في ما يجري فوقها من أحداث، وأخذت من الصليب شعاراً، والقدس هدفاً، وفي ظل الشعار والهدف ارتكبت أبشع ما يمكن البشر أن يتصوره حتى بمقاييس العصور الوسطى. ففي تموز (يوليو) 1099م/ شعبان 492ه سقط بيت المقدس في أيدي الصليبيين، وأصبح في ما بعد حاضرة تلك المملكة الصليبية، وبدأ الكثير من الصليبيين يعودون إلى بلادهم بعدما حققوا الهدف الذي خرجت من أجله الحملة الصليبية الأولى، وكان ذلك بداية المصاعب التي ستواجهها تلك المملكة الصغيرة الناشئة، فقد كانت في حاجة إلى المزيد من الرجال القادرين على الدفاع عنها. يضاف الى ذلك ان المناخ كان صعباً على أولئك القادمين الجدد، فانتشر المرض وارتفع معدل الوفيات بينهم في الفترة الأولى. فكانت هذه عوامل أدت إلى عدم تكوين طبقة من الفرسان في المرحلة الأولى من تاريخ المملكة الناشئة. (من هنا كان اهتمام إسرائيل بدراسة المشكلات الأساسية التي أدت إلى فشل الكيان الصليبي ككيان دخيل، ودراسة إمكان النجاح للكيان الإسرائيلي المشابه مع مراعاة الثوابت والمتغيرات في الحركة التاريخية والعلاقات الدولية، من ناحية أخرى)، وفي ظل تلك المصاعب، نشأت تلك الجماعات الرهبانية العسكرية التي جمعت بين الدين والحرب في مبادئها، وليدة ظروف ذلك المجتمع الصليبي الناشئ ونتيجة احتياجاته. وكانت أولى الجماعات التي اتخذت هذا النمط هي جماعة الداوية - التي ظهرت بين عامي 1118 /1119 وشاركت للمرة الأولى في الدفاع عن المملكة عام 1128، وكان اللقب الرسمي لها هو فرسان المسيح Milites Chrisiti وكذلك لقب فرسان المعبدMilites Templi - وقد وجدت أفكار هذه الجماعة القبول في الغرب الأوروبي فتنافس الجميع في منحها الامتيازات والعطايا، فانتشرت من الأراضي المقدسة إلى أوروبا حتى صارت قوة هائلة وكان لاستقلالها وتبعيتها مباشرة للبابوية أثر في تطورها وقوتها الروحية، وظهر دورها في الدفاع عن الكيان الصليبي ليس في القدس فحسب، بل في بقية الإمارات الصليبية، بل وفي أرمينية وقبرص خصوصاً في القرن الثالث عشر الميلادي، وأصبحت هي القوة الوحيدة القادرة على مواجهة الهجمات الإسلامية. إلى جانب تلك الجماعة، ظهرت جماعة «التيوتون» أو الجماعة الألمانية التي مثلت قوة لا يُستهان بها بفضل دورها في نشر المسيحية على شاطئ بحر البلطيق إلى جانب ما امتلكته من ثروات وكان لذلك كله أثره في جعلها فوق رأس مملكة بيت المقدس (القدس)، بل وفوق رجال الكنيسة اللاتينية نفسها التي كان فرسان التيوتون ينتسبون إليها اسمياً فقط. وفي خضم تلك الأوقات الصعبة قام أحد الألمان ومعه زوجته بإنشاء مضافة لاستقبال من يفد إلى القدس من بني جلدته في حدود عام 1128، ولاستضافة الفقراء والمرضى من الألمان. ونتيجة لتردد الكثيرين من أولئك الألمان على منزله لكي يستطيعوا التحدث باللغة التي يعرفونها، وبموافقة البطريرك اللاتيني، قام ببناء كنيسة ملحقة بالقرب من هذه المضافة وأوقفها للقديسة مريم. ويقع هذا المستشفى الألماني في الجنوب الشرقي من القدس على مقربة من منطقة الداوية حيث كان أحد الشوارع الجانبية المؤدية من باب صهيون إلى معبد سليمان وقد أطلق عليه اسم منزل الألمان أو مستشفى القديسة ماريا للتيوتون Hospitale sanctae Mariae Theutonicorum وأخذ المستشفى في النمو سريعاً وضم الكثير من الاستراحات والإدارات إضافة إلى من يتولى الإشراف على ذلك كله. وفي 9 كانون الأول (ديسمبر) 1143 أصدر البابا كلستين الثاني مرسوميه، بعد التشاور مع كاردينالاته، وبمقتضاهما أخضع المستشفى الألماني في القدس (للأخ ريموند وخلفائه). واشترط البابا أن يكون للأخوة الاسبتارية فقط حق اختيار الراهب أو رئيس هذا المستشفى وخدمه على أن يكونوا جميعاً من الألمان وأن يديروه بلسانهم الخاص؛ ذلك أنه يجب توفير الخدمة للزائرين والمرضى الألمان، كما يتضح منها، فإن الاسبتارية ربما شعروا بالخطر من ناحيته، مما جعل مقدم أعلى الاسبتارية يطلب من البابا إخضاع المستشفى لسيطرة الجماعة حتى يضع حداً للخلافات التي كانت تثيرها تطلعات ذلك المستشفى الألماني للاستقلال والتي كانت تزداد يوماً بعد يوم. وقد أراد توفير الهدوء له بوضعه تحت سيطرة الاسبتارية. وبحكم صفتها الدولية أرادت الاسبتارية إخضاع تلك المؤسسة المحلية فضلاً عن الرغبة في حسم مسألة التنافس حول جمع الصدقات في ألمانيا وما ثار حولها من صراع، خصوصاً أن هذه الجماعات تعتمد أساساً على الصدقات في موازنتها. ونتج من هذا حصر مهمات المستشفى الألماني في مهماته الأصلية وهي رعاية المرضى وتجميع الألمان في القدس. بيد أن أمر التبعية لم يتأكد بصورة واضحة فأخذت تخبو مع مرور الوقت. وتزداد الفترة المتبقية من تاريخ ذلك المستشفى صعوبة في ما يتعلق بوثائقها أو إشارات المصادر اليها، وتمتد الفترة هذه من عام 1187 إلى عام 1190 أو بعبارة أخرى، منذ سقوط القدس في قبضة صلاح الدين الأيوبي ونهاية المستشفى الألماني به وحتى نشأة المستشفى الميداني الألماني أمام عكا. وحاول بعض الوثائق والمصادر الأجنبية والإسلامية إماطة اللثام عنها، فقد أورد مؤرخ مجهول وصفاً لبيت المقدس في ربيع 1178 حيث وصف فيه طريق يؤدي إلى منزل اسبتارية الألمان ويسمى هذا الشارع طريق الألمان. وكما هو واضح، فإنه لم يزودنا بأية تفاصيل عنه أو عن الذين يديرونه. وحول مصير المستشفى بعد استرداد صلاح الدين القدس، تباينت آراء المؤرخين المحدثين أيضاً، فقد أشار البعض إلى استحالة تطور هذه المؤسسة الألمانية؛ لأن سقوط القدس وضع نهاية لها. وذكر رأي آخر أنه ربما اختفى جميع أعضائه بسقوط القدس، وذكرت بعض الآراء الأوروبية أن على رغم سقوط القدس ونهاية نشاط المستشفى، إلا أنه ربما ظل يقوم ببعض مهماته في ظل السيادة الإسلامية على المدينة. وكما ورد في إحدى الوثائق: «ان أي مسيحي كان يمكنه البقاء فيها (أي القدس) في ظل دفع الضريبة (يقصد الجزية) وفضل البعض البقاء، وبقي بعض الممرضين لرعاية الفقراء». والرأي الأرجح هو أن صلاح الدين الأيوبي حين بدأ حصاره للقدس في 20 أيلول (سبتمبر) 1187، وذلك من الناحية الغربية، ثم ظل يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل لأنها في غاية الحصانة والامتناع، فحاول في 25 أيلول (سبتمبر) اقتحامها من الناحية الشمالية ونصب مجانيقه وظلت القذائف تنهال عليها، وبعد محاولات مستميتة نجح المسلمون في الوصول إلى أسوارها وبدأوا في نقبها، وعندما أدرك الصليبيون فشل محاولتهم مقاومة المسلمين وإصرار صلاح الدين على دخول المدينة «اجتمع مقدموهم يتشاورون في ما يأتون ويذرون، فاتفق رأيهم على طلب الأمان»، وبعد مفاوضات بين الجانبين تم الاتفاق على السماح للصليبيين بالخروج وكان من جملة ما شرط على الفرنج أن يتركوا خيلهم وعدتهم. ويتضح من الوصف السابق لحصار القدس أن صلاح الدين بدأ بالناحية الغربية ثم انتقل إلى شمالها لكي يجد ثغرة ينفذ منها إلى المدينة، وكما أوضحنا من قبل أن ذلك المستشفى الألماني كان يقع في الجنوب الشرقي للمدينة فقد كان بمنأى عن القذائف والأحجار التي ألقاها صلاح الدين، وربما كان ذلك عاملاً مساعداً على بقاء هذا المستشفى الألماني وكنيسته. ومهما يكن من أمر، فإن الصليبيين انقسموا بعد خروجهم من القدس إلى ثلاث مجموعات: مجموعة الداوية وأخرى الاسبتارية وثالثة باليان دي إيلين وكانوا في حراسة المسلمين حتى أوصلوهم إلى صور لكي لا يتعرضوا لهجمات اللصوص وقطّاع الطرق. وبنجاح صلاح الدين في استرداد القدس كانت نهاية المستشفى الألماني في المدينة، ولا نعلم ماذا آل إليه مصير أولئك الأخوان الرهبان، فهل ظلوا في الشرق مع بقايا قوات الصليبيين التي تجمعت قرب صور، أم عادوا إلى ألمانيا حيث كانت أملاكهم هناك؟ ولكن التساؤل المهم الذي يبقى هو: هل أسهم أولئك الأخوة الألمان بأي دور عسكري في العلاقات الصليبية الإسلامية؟ يشير بعض الوثائق الأوروبية إلى أن أخوة ذلك المستشفى مارسوا الكفاح ضد «الأعداء» وأنهم ارتدوا الرداء الأبيض مع وضع صليب أسود عليه لتمييزهم، كما أنهم اتخذوا قواعد الداوية والاسبتارية، خصوصاً أن جماعة الاسبتارية اعتبروا حمل السلاح عملاً موازياً لجمع الصدقات بل امتداداً له. ومن ناحية أخرى أجمعت المصادر الإسلامية والأجنبية على أنه أثناء حصار القدس حشدت الجماعة عند أسوار المدينة كل الرجال القادرين على القتال، بمن فيهم رجال الدين على رغم أن ذلك يتعارض مع وظائفهم، إلا أنهم قاموا بدور الجنود طبقاً للحالة الطارئة وقاتلوا باستماتة دفاعاً عن القدس. ومن الطبيعي أن يشارك أخوة المستشفى الألماني بدور ما بحكم وجودهم أثناء الحصار، ولا شك في أن تاريخ المستشفى الألماني في القدس كان سيصبح أكثر وضوحاً لو عثرنا على أرشيف المستشفى ولكشف لنا النقاب عن تأسيس جماعة الرهبان الألمان وتحولهم إلى جماعة عسكرية بعد تأسيسهم المستشفى الألماني في عكا بعد رحيلهم من القدس في آذار (مارس) 1198 م والاعتراف الرسمي به من بابا روما أنوست الثالث. * كاتب مصري