ضرب صلاح الدين الأيوبي أروع الأمثلة في التسامح والعفو عند المقدرة حين دخل القدس 1187 منتصراً، فلم ينتقم من أهل المدينة من فرنجة الغرب (الصليبيين) كما فعلوا حين دخلوها عام 1099 عندما قتلوا كل من صادفهم من مسلمين ومسيحيين، حتى افتخر أحد مؤرخيهم بقوله: «الخيول غاصت في الدماء إلى ركابها»، وقُدر من قتل يومئذ من أهل القدس بثلاثين ألفاً، أما صلاح الدين فقد سلك سلوك الفارس النبيل المنتصر الذي يعف عن ارتكاب جرائم تشبه جرائم أعدائه. وخير مثل على ذلك تصرفه حين دخل القدس عندما أمَن أهلها وسمح لهم بالخروج مقابل فداء من المال، ووفر لهم الحماية حتى بلغوا مأمنهم في مدينة صور، كما لهجت المؤرخات الأوروبية بالثناء عليه حين اهتم بأمر فتاة ضاعت من أمها، وهي من عامة الإفرنج فلم يسترح حتى أعادها إليها، في حين اعتبره بعض المؤرخين الأوروبيين المثال الناصع للفارس المسلم في العصور الوسطى. لكن الأمر الذي ندر الاهتمام به هو رؤية الأقباط لهذا البطل، بخاصة أنه تولى حكم مصر في فترة عصيبة وقام بإجراءات أفضت إلى القضاء على نظام قديم، تمثل في الدولة الفاطمية الشيعية وأنشأ نظاماً جديداً هو الدولة الأيوبية السنية، التي دانت بالولاء الروحي للخليفة العباسي. وعلاوة على ذلك، حمل صلاح الدين على عاتقه قضية تحرير فلسطين، وباقي الساحل الشامي من الاستعمار الصليبي، ولم يكن ذلك ليتم من دون توحيد مصر والشام، ولم يكن ذلك بالأمر الهين، كل ذلك حتّم اتباع بعض السياسات التي ربما تتخذ منها بعض فئات سكان مصر مواقف شتى، تباينت وفق تأثير هذه التصرفات في كل فئة على حدة. وكي نتعرف الى رؤية الأقباط لصلاح الدين كان يجب أن نبحث في ما دوّنه قبط مصر من تواريخ، وهي بالطبع غير رسمية، أي أنها تعبّر عن رؤية هذه الطائفة لما يجري من أحداث بعيداً من ضغوط القرب من الحكام، التي تؤدي أحياناً الى كتابة التاريخ في شكل يخدم النظام القائم. ووجدنا ضالتنا في أحد مؤرخات الأقباط وهي من نوع كتب التاريخ الكنسي، أي أنه لم يكن مطروحاً للتداول بين عامة المثقفين في مصر، ومن ثم دُوّن من خلال نظرة قبطية صرفة، غير عابئة بخوف من الحاكم. وتتمثل هذه المؤرخة في «تاريخ البطاركة» لساويرس بن المقفع. كان ساويرس أسقفاً لمنطقة الأشمونيين، فكتب هذا الكتاب عن البطاركة الذين تولوا الكنيسة المصرية حتى وفاته في عهد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله العام 987 ثم أكمل الكتاب عدد من المؤرخين الأقباط المتعاقبين حتى عهد عباس حلمي الثاني خديوي مصر عام 1895. وعلى رغم أن عنوان الكتاب يشي بأنه خُصص لمجرد التأريخ لسير البطاركة القبط، فإنه مع كل سيرة بطريرك كان الكتاب يؤرخ لأهم الأحداث التي جرت في عصره، مع التركيز على انعكاس هذه الأحداث على قبط مصر سلباً أو إيجاباً. وبناء على هذا المنهج أرخ الكتاب لسيرة صلاح الدين بشيء من التفصيل منذ قدومه إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه للتدخل في ما دار في البلد من صراع على منصب الوزارة، مروراً بتصفية الخلافة الفاطمية وترتيب أوضاع مصر، واهتمام صلاح الدين بأمر الجهاد وانتصاره في حطين واسترداد جل المستعمرات الصليبية والتصدي للحملة الصليبية الثالثة، وعقد صلح الرملة ثم وفاة صلاح الدين. ولم يختلف كتاب تاريخ البطاركة - في كل ذلك - عن حوليات التاريخ العام المشهورة مثل «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، و «البداية والنهاية» لابن كثير وغيرهما، ولكن الجديد الذي قدمه الكتاب هو انعكاس حكم صلاح الدين على أوضاع الأقباط سلباً وإيجاباً، ومن ثم سنغض الطرف عما اشترك فيه تاريخ البطاركة مع كتب التاريخ العام ونركز على ما انفرد به من أثر على القبط. فقد أشار كتاب «تاريخ البطاركة» إلى أن أهم أعمال صلاح الدين في مصر، بعد تصفية الخلافة الفاطمية واستقرار الأحوال له، هو إبطال المكوس، وعبّر عن ذلك قائلاً: «ولما كان شهر ربيع الآخر سنة ثلاثة وسبعين وخمسماية خرج أمر السلطان الناصر صلاح الدين بإبطال المكوس من الديار المصرية، صعيدها وبحريها، شرقيها وغربيها، وبرها وبحرها، عن كل من فيها من المسلمين والنصارى والغني والفقير والأمير والمأمور». ويوضح تركيز الضوء على هذا الخبر أن قبط مصر - مع جل سكانها - عانوا من الضرائب المتنوعة التي فرضت من دون وجه حق، غير أنهم لم يكن في إمكانهم الاعتراض ومن ثم دفعوا غير راضين. وأوضح كتاب «تاريخ البطاركة» مداومة صلاح الدين على متابعة أحوال الرعية في مصر باستمرار على رغم غيابه في الشام لفترات طويلة، وحين نمي إلى علمه أن بعض أصحاب الإقطاعيات والجنود عادوا لجمع المكوس من دون إذنه كتب على الفور إلى نائبه في مصر - الملك العادل - يقول له إنه: «... لم يقطع أحداً من المقطعين ناحية من النواحي انه يستأدي فيها مكساً ولا يستبيح الرعية مالاً ولا يضيق فيها على مستور مشاعاً، فليكشف جميع بلاد المقطعين ويحظر عنها جميع المظالم والمكوس فإنها غير داخلة في إقطاع المقطعين، ومن رضي بإقطاعه بعد وضع مكوسها وإلا فليرتجع عنه إن شاء الله تعالى». ويشدد صلاح الدين في هذه العبارات على الالتزام بشروط الحصول على الإقطاعات، التي كانت في صورة مساحات كبيرة من الأرض تقطع لبعض كبار القادة ليتمكنوا من تجهيز عدد معين من الجند يشاركون بهم في الجيش وقت الحاجة، وكان أهم شروطها الإفادة من الإقطاع وحده من دون جمع الأموال من أي باب آخر، مثل الضرائب غير الشرعية التي عرفت بالمكوس. وأشاد كتاب «تاريخ البطاركة» بطريقة معاملة صلاح الدين لمن كان في القدس من الفرنج، وعلق على تسامحه بأن صلاح الدين رغم عدم علمه بما في التوراة والإنجيل، فإنه عمل بما فيهما، فقد جاء في التوراة «إذا عبر عليك حمار عدوك وأنت جالس ووسقه مايل فقم واعدل وسقه عليه»، وقول الإنجيل: «أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وصلّوا على من يشتمكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم». وأوضح الكتاب أن هذا إلهام من الله لصلاح الدين، بسبب صفاء نيته وتجنبه المظالم، كما أكد أن إحسانه إلى البشر أفضى به إلى حسن عاقبته في نفسه وفي ذريته، كما أوضح أن من كمال إحسان صلاح الدين أنه بعد أن فتح حصن برزية في فلسطين بالأمان سمح لحاكم الحصن بالخروج آمناً بعد أن دفع مبلغاً كبيراً من المال غير أنه خرج بثروة طائلة، واستأذن السلطان أن يذهب إلى الإسكندرية، فكتب صلاح الدين إلى والي المدينة أن يحسن وفادته ويكرم نزله وينفق عليه من مال السلطان الخاص، حتى تنقضي أيام إقامته في المدينة هو ومن معه الذين بلغ عددهم خمسمئة نفس، ففعل الوالي كل ما أمر به صلاح الدين حتى أنه كان يركب إليه كل يوم ليتأكد من قضاء حوائجه، حتى رحل الرجل شاكراً إلى بلاد الروم. أما عن أحوال مصر الاقتصادية في عصر صلاح الدين، فقد وصفها «تاريخ البطاركة» بأنها «كانت من أولها إلى آخرها راخية الأسعار كثيرة الخيرات»، حتى أن عشرة أردب قمح كانت تباع بدينار، والشعير عشرين أردب بدينار وقنطار العسل بدينار. وأطال الكتاب في ذكر أسعار السلع ليؤكد حال الرخاء التي سادت مصر في عصر صلاح الدين على رغم نفقات الحرب التي لم تنقطع طوال فترة حكمه. وأكد أن «التجار يبيعون ويربحون والبركة حالّة في كل شيء»، وأكد أن «كل أيام دولته كانت حسنة طيبة وأحوال الرعية مستقيمة ولم يصادر أحد من رعيته ولا ظلم أحد كعادة من تقدمه والطرق آمنة والأمور صالحة». كانت هذه هي أهم النقاط التي تمس قبط مصر في سيرة صلاح الدين التي وردت في كتاب «تاريخ البطاركة»، فهل من صلاح الدين جديد؟ * كاتب مصري