كان يفترض أن يناقش مجلس الشورى في جلسته يوم الأحد الماضي «24 صفر» نظام توثيق ومعادلة الشهادات العليا، وذلك في محاولة للحد من انتشار ظاهرة شراء الشهادات العليا من جامعات وهمية لا وجود لها على أرض الواقع، لقد طرح الموضوع خلال الأسابيع الماضية بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي، وأثار اهتمام المعلقين، وأحسب أن هناك إدراكاً عاماً للآثار السلبية لهذه الظاهرة على التنمية بكل أبعادها العلمية والتعليمية والإدارية والثقافية. لا أعرف – حقيقة - لماذا تم تأجيل مناقشة النظام في مجلس الشورى، وهل هناك أفكار جديدة في الموضوع، أم أن التأجيل لسبب إجرائي؟ ولكن أحسب أن النظام المقترح إذا أقر بصورة نهائية سيتصدى لهذه الظاهرة من زاوية قانونية، بحيث يضع أمام من يبحث عن شهادة وهمية، تبعات قانونية لها عواقب معنوية ومادية مكلفة. أتوقع أن يميز نظام مجلس الشورى المقترح في العقوبات، فأكثرها خطراً – وأحسب أنها الأقل انتشاراً – هي الشهادات المزورة التي قد تبدو أنها صادرة من جامعات معترف بها، ولكنها مزورة بأختام وتواقيع غير صحيحة لإيهام القارئ بأنها حقيقية، ويلي ذلك الشهادات الوهمية التي تصدر عن مكاتب ومؤسسات تجارية تبيع شهادات من مؤسسات جامعية غير موجودة على أرض الواقع، حتى لو استخدمت تلك المؤسسات بعض الرتوش الأكاديمية كطلب كتابة رسالة علمية، أو حضور بعض الدورات. ويلي تلك الشهادات غير المعترف بها، وهي شهادات صادرة من مؤسسات جامعية حقيقية ولكنها لا ترقى بمعاييرها الأكاديمية إلى مستوى أكاديمي معقول، فترفض وزارة التعليم العالي الاعتراف بها، ويندرج ضمن هذا النوع الأخير كثير من الشهادات التي يحصل عليها الطالب عن طريق التعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد. لكن على رغم أهمية هذا الجانب القانوني، إلا أنني أعتقد أن النظام لن يحد من انتشار الظاهرة ما لم يتم التعامل معها كقضية ثقافية، وأخلاقية، وحضارية، وما لم يتم التصدي لها من خلال رفع الحس الأخلاقي في المجتمع، وسحب الذرائع الثقافية والاجتماعية التي تغذي انتشار هذه الظاهرة. فمن جانب عززت ثقافتنا الإدارية المحلية من أهمية المؤهل العلمي والشهادة أكثر من أهمية الكفاءة والخبرة في المفاضلة للحصول على الوظيفة الحكومية، وفي ما يتعلق بالترقيات والامتيازات الوظيفية، كما أنها معيار أساسي في العمل في القطاع الخاص، وإن كانت بدرجة أقل من القطاع الحكومي، وبالتالي أصبحت الشهادة، بغض النظر عن جودتها، وعن جهة المصدر، وعن نوعية التخصص، هي المطلب الذي يبحث عنه الباحث عن عمل، أو الباحث عن ترقية وظيفية، ولهذا فلو طورت وزارة الخدمة المدنية معايير التوظيف، وأدخلت معايير جدية وجديدة، فستؤثر هذه المعادلة على أهمية الشهادة في التوظيف، وستجعل الشخص الذي يبحث فقط عن الشهادة يُعيد حساباته قبل أن يغامر بالبحث عن مكتب يمنحه شهادة جامعية لا قيمة لها. من جانب آخر عززت ثقافة المجتمع المعاصرة، متأثرة بانحطاط القيم الثقافية التي تسود في العالم العربي، من أهمية شهادة الدكتوراة في حياة الأشخاص أكثر من أهمية الفكر الخلاق والثقافة والإبداع والعطاء، فأصبحت شهادة الدكتوراة بالذات مطلباً للوجاهة الاجتماعية، فرفعت ثقافة المجتمع من مكانة «الدكاترة» في السلم الاجتماعي، وأصبح لقب دكتور يتصدر الأسماء في وسائل الإعلام، وفي المؤتمرات، والمناسبات الرسمية، وفي المناسبات الاجتماعية أيضاً، حتى أصبحنا نفاخر بأن أكثر من نصف أعضاء مجلس الشورى من حملة الدكتوراة، وأصبح يستخدم اللقب للحصول على امتيازات معنوية ومادية بفعل سحرها لفتح الأبواب المغلقة في كثير من الجهات، ولفتح القلوب الهشة التي تبحث عن مكانة ضائعة في دهاليز الحياة المعاصرة. لا أحتاج إلى بيان أن هذه الظاهرة تحولت إلى ما يشبه المرض الاجتماعي لدينا، ولا أعتقد أن هناك مجتمعات في العالم، غير العالم العربي، من يستخدم لقب «الدكتور» في كل مناسبة، فلقد عجبت من تكرار استخدام لقب «دكتور» عند الحديث عن رئيس جمهورية إحدى الدول العربية، حتى أصبح عرفاً سائداً ينادى به لدى الموالين والمعارضين ووسائل الإعلام، على رغم أن شهادته للدكتوراة كانت في العلوم، ولم تكن في الرئاسة أو الإدارة، فلقب «الرئيس» الأعلى مستوى في الهرمين القيادي والإداري، لم يكن كافياً بل لا بد من استخدام مصطلح «الرئيس الدكتور» عندما يذكر اسمه، وهذا الاستخدام لا يوجد في معظم دول العالم المتقدم، حتى عند رؤساء الجامعات الأكاديميين الذين يحملون اللقب عن جدارة واستحقاق، فغالباً ما يستخدم الاسم المباشر في المخاطبات وفي التعاملات اليومية الشخصية. لقد تعاملت مع كثير من الأجانب في حياتي العملية وأصبحت أعرف أن الدهشة تعلو محيا كثير منهم عندما يسمعنا نستخدم لقب «دكتور» في كل صغيرة وكبيرة، خصوصاً إذا كان يزور بلادنا للمرة الأولى، والبعض منهم أصبح يتعامل مع هذا الموضوع بحساسية وبذكاء أحياناً، فأصبح يمنح اللقب لمن هب ودب من المسؤولين، إما لرغبته في تجاوز الحرج في ما لو استخدم الاسم من دون لقب فتثير امتعاض البعض، أو لإرضاء غرور البعض بهذا اللقب اللامع حتى لو كان يعرف أن هذا الشخص لا يملك حتى الشهادة الجامعية المتوسطة. من أجل ذلك كله دعونا نعمل على محاربة هذه الظاهرة ما أمكن، وحصر استخدام هذا اللقب في العمل الأكاديمي البحت في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي إذا كان هناك ضرورة لهذا الاستخدام، وإلا فلا أحسب أن هذا اللقب سيضيف تميزاً للأستاذ الجامعي، مهما كان عمله ووظيفته الأكاديمية، وأتمنى لو يصدر أمر من خادم الحرمين الشريفين يمنع فيه استخدام لقب «دكتور» في وزارات الدولة ومؤسساتها الرسمية وفي وسائل الإعلام المحلية، وأتمنى أيضاً لو بادر أساتذتنا وكبراؤنا بعدم استخدام هذا اللقب في حياتهم العملية والعامة حتى يكونوا قدوة لغيرهم، وأحسب أننا لو حجمنا استخدام هذا اللقب فسنجد أن البريق الذي يحوط بهذه الشهادة قد تلاشى، ولسحبنا الذرائع أمام من يبحث عنها بكل وسيلة غير مشروعة. * أكاديمي سعودي. [email protected]