حال الهستيريا التي سيطرت على القيادة الإسرائيلية بعد دعم 138 دولة، بينها دول صديقة لحكومة بنيامين نتانياهو، قبول فلسطين دولة بصفة عضو مراقب في الأممالمتحدة، تعكس أبعاد هذه الخطوة على إسرائيل عموماً، وحكومة اليمين في شكل خاص. فبعد جهود هائلة لإقناع عشرات الدول بالتصويت ضد القرار، أدرك الإسرائيليون أن قضيتهم هذه المرة خاسرة وأن تأييد فلسطين سيكون كبيراً، فدخلوا في إرباك وعصبية، وخططوا للانتقام الشديد. لكن التحذيرات التي وصلتهم من الولاياتالمتحدة وأوروبا بعدم اتخاذ إجراءات من شأنها تقويض السلطة الفلسطينية وإسقاط رئيسها محمود عباس، خشية أن يكون الرد تقوية حماس في الضفة، ساهمت في التخفيف من حدة ردود الفعل. وحاولت إسرائيل حتى في يوم التصويت تقزيم أهمية الحدث، ودعا نتانياهو وزراء حكومته ونواب حزبه إلى الكف عن إطلاق التصريحات التي تظهر موقف إسرائيل المرتبك من هذه الخطوة. أما العصبية التي سيطرت على نتانياهو ووزير خارجيته، أفيغدور ليبرمان، بعد دقائق من نتائج التصويت فلم تكن رد فعل على الحدث وحده فحسب، إنما على الأجواء التي سادت إسرائيل قبل وخلال وبعد التصويت، وظهر فيها الانقسام ما بين مؤيد ومعارض، وانتقاد للحكومة على فشلها. المؤيدون لموقف نتانياهو وليبرمان قالوا إن هذه الخطوة أحادية الجانب وتتناقض مع التفاهمات بين الطرفين في اتفاقات أوسلو وهي دليل على أن محمود عباس، ليس شريكاً في المفاوضات وبأن القرار، كما قال نتانياهو، سيؤدي إلى إقامة قاعدة إيرانية «إرهابية» في الضفة إلى جانب غزة ولبنان لتحيط بإسرائيل من مختلف الجهات. والمعارضون لهذا الموقف، حملوا أكثر من وجهة نظر. فهناك من عارض نتانياهو واتهمه بأن وصول عباس إلى الأممالمتحدة نتيجة طبيعية لغياب العملية السلمية ولسياسته الرافضة للسلام والداعمة للاستيطان. وهناك إسرائيليون ممن باركوا الخطوة ورأوا أنها قد تفضي إلى حل للصراع. ومن وجهة نظر هؤلاء فان قرار الأممالمتحدة رسالة عالمية واضحة إلى نتانياهو وحكومته تؤكد أن معظم الدول، حتى المؤيدة والصديقة لإسرائيل، لم تعد تقبل استمرار الاحتلال والاستيطان وحرمان شعب بأكمله من حقه في العيش في دولة مستقلة. أكثر المواقف وضوحاً ظهرت لدى أوري أفنيري، الذي كان قد وقف إلى جانب الفلسطينيين في أقسى الظروف وتمسك بموقفه الداعم للفلسطينيين ولحقهم في إقامة الدولة الفلسطينية، باعتبار أن هذه مصلحة وطنية لإسرائيل. لم يتردد أفنيري بالقول إنه شعر بفرحة كبيرة... فرحة خاصة به كما هي فرحة الشعب الفلسطيني وكل من يأمل في سلام، ليس فقط بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية إنما مع العالم العربي كله. أفنيري رد على الأصوات التي رأت أن خطوة كهذه لم تغير شيئاً من الواقع بتأكيده أن وجود فلسطين كدولة في الأممالمتحدة يشكل خطوة مهمة للكفاح من أجل السلام القائم على التعايش بين دولتين. اختار أفنيري أن يستذكر التاريخ ليعود إلى الوراء خمسة وستين عاماً، فقال: «في حرب عام 48 توصلت إلى الاستنتاج بأنه يوجد شعب فلسطيني وأن إقامة دولة فلسطينية، إلى جانب دولتنا الجديدة، هو شرط ضروري للسلام. أملت في أن ننجح في الحفاظ على وحدة البلاد وأقنعتني الحرب بأن الواقع حطم هذا الحلم إلى الأبد. فلسطين شطبت من الخريطة. 78 في المئة من البلاد أصبحت دولة إسرائيل، أما ال 22 في المئة المتبقية فوزعت بين الأردن ومصر. ونفت المؤسسة الإسرائيلية الرسمية نفياً قاطعاً وبغضب مجرد وجود شعب فلسطيني. وتحول هذا النفي حقاً إلى موضوع إيمان». ويتابع أفنيري: «غولدا مائير قالت أن ليس هناك شيء كهذا اسمه شعب فلسطيني. وكتب معلقون محترمون كتباً «تثبت» بأن العرب الفلسطينيين هم متخفون، وفي شكل عام جاؤوا إلى البلاد في الزمن الأخير فقط. وكانت القيادة الإسرائيلية واثقة بأن المشكلة الفلسطينية اختفت، مرة واحدة وإلى الأبد. في عام 1949 لم يكن في العالم كله مئة شخص يؤمنون بهذا الحل. ولم تؤيده أي دولة واحدة في العالم. الدول العربية آمنت بأن إسرائيل ببساطة ستختفي. بريطانيا أيدت دولتها الدمية، الأردن. وكان للولايات المتحدة طغاتها في المنطقة. أما الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين فأيد إسرائيل. كنا وحيدين في المعركة، يقول أفنيري، وعلى مدى الأربعين سنة التالية طرحت هذا الموضوع كل أسبوع تقريباً على صفحات الجريدة وعندما انتخبت للكنيست فعلت ذات الشيء، وبعد ذلك عملت هكذا في «كتلة السلام». ويتابع أفنيري الأحداث التي عايشها آنذاك من أجل إقامة الدولة الفلسطينية ولم تأت بنتيجة خلال خمسة وستين عاماً قائلاً: «عام 1969 سافرت إلى واشنطن كي أنشر هذه الفكرة هناك. استقبلوني بكياسة في وزارة الخارجية، في البيت الأبيض، في بعثة الولاياتالمتحدة إلى الأممالمتحدة وكذا سيناتورات وأعضاء كونغرس وأبو قرار 242 (لورد كارادون). وكان الجواب الموحد لهم جميعاً من دون استثناء: دولة فلسطينية غير واردة». أفنيري يؤمن اليوم أن هذه الخطوة، وإن لم تغير شيئاً من الواقع على الأرض لكنها مهمة وضرورية ولا بد من أن تساهم في تحريك القضية. ويوافقه الرأي الكاتب حانوخ بار طوف، الذي اختار هو الآخر العودة خمسة وستين عاماً ليذكّر بتزامن قرار الأممالمتحدة مع صدور وعد بلفور: «كنت في ذلك اليوم في غرفتي في القدس طالباً جامعياً شاباً واحتفلت مع رفاقي وكان الفرح مدهشاً لا يمكن وصف قوته تقريباً. وقد شربنا الخمر إلى أن سكرنا وعدت في الغد مثقلاً بالسُكر إلى الجامعة العبرية، بعد ذلك بيومين قال قائدي من الهاغاناه إنه يجب علينا أن نحضر بعد ساعة. وقد جُندت لحرب الاستقلال وأنا لا أزال في نشوة الخمر. كنا، من اليسار ومن اليمين، نعارض التقسيم في البداية. وكان الفرق أننا أدركنا في 1947 أنه لا يوجد مفر آخر، بيد أننا اصطدنا دباً بعد ذلك اسمه «أرض إسرائيل الكاملة»، وهو الآن يحتضننا بقوة كبيرة بحيث قل هواء التنفس، ومن منا يعلم إلى متى سنستطيع التنفس بعد». «نحن نحيا في ظل الدب منذ عشرات السنين ولا نزال نصر على غير الممكن»، يقول بن طوف ويضيف :»ها هو العالم يدخل الصورة مرة أخرى. فقد عاد التاسع والعشرون من تشرين الثاني (أكتوبر) ليُمكّن من العودة إلى طريق سلامة العقل والخلاص من هذه المهانة التي دفعتنا إليها حكومة إسرائيل بحيث أصبح العالم كله ضدنا حتى الممتنعون. ولا يوجد الآن سبيل سوى الحضور إلى مائدة المصالحة والتخلص من عناق الدب». ويعكس بن طوف موقفاً أجمعت عليه الجهات الإسرائيلية، التي واجهت موقف نتانياهو وحكومته، بأن السبيل الوحيد هو التفاوض في حدود عام 67 والاعتراف بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم. وإقامة الدولة هذه، هو العنوان الذي استغله نتانياهو للتحريض على السلطة الفلسطينية ورئيسها ونجح في تجنيد الكثيرين. وكما اعتاد نتانياهو في كل مرة أراد التفافاً إسرائيلياً حول موقفه بإثارة أجواء تخويف وترهيب، فعل هذه المرة أيضاً، إذ اعتبر أن في تحسين العلاقة بين عباس وحركة «حماس» وإمكانية التفاهم بين فتح وحماس، أسباب كافية لأن تتخذ حكومته موقفاً رافضاً لقبول عباس كشريك للسلام. ولم يتوقف نتانياهو عند هذا الحد بل اعتبر الأمر إرهاباً حقيقياً على إسرائيل «لأن عباس يطمح في المصالحة مع حماس وبالتالي إتاحة المجال لتعزيز قوة الحركة في الضفة ومن ثم إقامة «قاعدة إيرانية إرهابية». وهذا الموقف حظي بدعم جهات متعددة في إسرائيل حتى أن مدير مركز أبحاث الشرق الأوسط، ألكسندر بلييه، زاد من تخويف الإسرائيليين من القرار معتبراً إياه وسيلة لإقامة «دول إرهاب على مشارف تل أبيب»، كما قال. بلييه، وخلافاً لمن يرى أن القرار لن يغير شيئاً من الواقع يجزم أن الصفة التي حصلت عليها فلسطين في الأممالمتحدة تمنحها مكانة خاصة. وبرأيه فإن مكانة المراقب في الأممالمتحدة مميزة، وذلك لأنه يتمتع بكل الحقوق التي تنطوي عليها العضوية باستثناء التصويت. وبالتالي، ففي المعنى العملي لن يكون رفع المستوى مهماً إلا في شيء واحد: كدولة (حتى لو كان هذا وهمياً) سيكون من حق منظمة التحرير الفلسطينية رفع الدعاوى القضائية على قادة إسرائيل أمام الهيئات القضائية الدولية على جرائم حرب» يقول رئيس مركز أبحاث الشرق الأوسط. ويضيف: «الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو، هو إعلان خطير يسرع في إقامة دولة إرهاب على مشارف تل أبيب ومطار بن غوريون، كجزء من خطة المراحل الفلسطينية من عام 1974 التي تدعو إلى تحرير أجزاء من فلسطين بوسائل ديبلوماسية كجزء من عملية التحرير الشامل». ويروج هذا البروفسور لضرورة أن تتخذ إسرائيل خطوات حاسمة وقاسية وجريئة تبدأ بإلغاء اتفاقيات أوسلو وما اعتبره «ثمارها الفجة المسماة السلطة الفلسطينية». وليقنع الإسرائيليين برأيه يقول:» إن أي رد آخر سيفسر للعالم كنوع من الموافقة الصامتة على المكانة الرسمية الجديدة لمنظمة يظهر في دستورها نداء واضح ولا لُبس فيه لإبادة دولة عضو في الأممالمتحدة، أي إسرائيل»، على حد قوله. أما زميله في هذه المواقف الصحافي اليميني، نوح كليغر، فاعتبر خطوة السلطة الفلسطينية مجرد صفقة واختار التعامل معها باستهتار داعياً الإسرائيليين إلى عدم الذعر متسائلاً: - هل تمنح هذه المكانة الفلسطينيين أو نصفهم دولة؟ طبعاً لا. - هل يحدد لهم ذلك حدوداً واضحة ومعترفاً بها؟ من المؤكد لا. - هل يمنحهم ذلك استقلالاً اقتصادياً؟... وهنا يصل في رده إلى ذروة الاستهتار بالقول: «الحقيقة إنكم أضحكتمونا». وفي محاولة منه لتهميش الحدث وتقزيمه وتفريغه من أية أهمية تحدث كليغر بنفسية ذلك الإسرائيلي المتعالي الذي يصر على ترويج جبروت بلاده. فلم يكتف بالهجوم والاستهتار بالسلطة الفلسطينية بل وصل إلى حد تقزيم دور الأممالمتحدة وجعلها مجرد هيئة دولية شكلية فقال: «إن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي ذلك الجسم العاجز الذي ليست له أية سلطة، أجازت قراراً سخيفاً بلا أي منطق وهو أن تمنح دولة غير موجودة البتة ولن تكون موجودة أبداً إذا لم تتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، مكانة دولة مراقبة. غير مهم من هي الدول التي دعمت القرار وغير مهم أيضاً عددها المهم هي الحقيقة أنه لا توجد دولة فلسطينية من غير موافقة إسرائيل». ونفسية هذا الصوت اليميني هي النفسية التي تسيطر على نتانياهو وليبرمان والقيادة التي اختارت الرد على قرار الأممالمتحدة بإجراءات مشددة تعزز الاحتلال والاستيطان الإسرائيليين. وتؤكد للعالم أن كل ما طرحه نتانياهو حول رغبته في السلام ورفض الفلسطينيين له واتجاههم نحو التطرف والإرهاب بما يهدد أمن ووجود الدولة العبرية، ما هي إلا شعارات سنسمعها كثيراً حتى انتهاء المعركة الانتخابية في إسرائيل.