تكمن مسؤولية المدرسة في أن تؤدي دور الممرّن العمومي بالنسبة للأطفال. ولن يتسنى لها ذلك إلا بعد أن توجد مسافة بينها وبين الفرد، وبينها وبين المجتمع والدولة. وأكثر من هذا أن تضع نفسها في خدمة الأطفال الذين سيكوّنون الجيل القادم. لا يجب أن يتدخل أحد في تعليم الأطفال لكي لا يشكّلوا منهم ما يريدون هم وليس ما تريده منهم الحياة حين يكونون راشدين. أهم ما يمكن أن تدرب عليه المدرسة الأطفال هو أن يرفضوا الأفكار المسبقة التي تقف عائقاً أمام أي ابتكار أو تجديد في مستقبل حياتهم. أحد هذه الأفكار المعيقة أن الأسرة تتخيل العلاقة مع الآخرين من خلال مفهوم الحدود. فمثلما يكون هناك حدود للأسرة هناك حدود للثقافة. وما يجب على المدرسة هو أن تدرب الأطفال على أن يهتكوا هذه الحدود الوهمية بتبنّي مفهوم العلاقة. *** ما يجب أن أنبه إليه هو أن القيم ربما تتحول إلى فخ تقع فيه المدرسة. وهنا لن أقول جديداً لو قلت إن القيم تتبدل، ذلك أن هذا قيل مئات المرات وبألسنة مختلفة، غير أن تبدل القيم لا يحدث بالسرعة نفسها، ولا أجد هنا أفضل من المشهد الذي يعرضه لنا بول ريكور عن الكيفية التي تتبدل فيها القيم وتتغير سرعة وإبطاء. يشبه القيم بملامح مناظر طبيعية تشاهدها فيما لو أنك ركبت القطار. حيث تجلس تتنقل من المشاهد الأمامية إلى المشاهد التي تقع في مدى متوسط ثم تلك المشاهد الخلفية التي تبدو لك وأنت الراكب في القطار على أنها ثابتة قياساً على المشاهد الأمامية التي تراها تمر بصورة أسرع. ما يعادل المشاهد الخلفية من القيم هو ما يجب أن تركز عليه المدرسة مثل الحرية والعدل والمساواة والسعادة... إلى آخره، ما يشكل قيماً خلفية لكل العصور. *** عُرضت في مدارسنا بشكل سيئ، واُستغلت من بعض الجماعات أسوأ استغلال. وأكثر من ذلك استخدمتها أداة لمهاجمة العصر الحديث وأفكاره. أمام موقف كهذا يجب أن تدرك المدرسة أن قيم العصر الحديث المكبوتة الآن بحكم التهجّم عليها من جماعة مهيمنة هي القيم الأكثر حيوية في ما يتعلق بمستقبل الأطفال، وبالتالي مستقبل المجتمع السعودي. بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا وهو أن حديث بعض الجماعات المهيمنة عن خصوصيتنا هو حديث مستهلك ولن ينفع الأطفال في شيء في مستقبل حياتهم. نحن في أمس الحاجة إلى من يعيد النظر في القيم التي تعتبرها بعض الجماعات المهيمنة قيماً سامية ومطلقة ليُماط اللثام عمّا تعرضت له من تنميقات بلاغية ومثالية. *** نجد إعادةُ النظر في القيم في مساءلتها، مما يستدعي أن تكون الكتب المدرسية عرضاً للتفكير المتباين عن الكون والإنسان والمعتقد. وأن تشمل نشاطات تعلمها اشتغالاً فكرياً للتساؤل عن القيم تدفع الأطفال في ما بعد إلى أن يذهبوا بعيداً عمّا هو مكتوب ومقروء، وأن يتدربوا في المدرسة على أن ما يقرؤونه في الكتب عن القيم ليس إلا بداية البحث، وليس نهايته. *** القيم خطرة إذا ما استخدمت استخداماً سيئاً كأن يموّه الدفاع عنها مشاريع مضمرة واستبداداً وسيطرة، والحصول على امتيازات اجتماعية وثقافية. إن إحدى وسائل التمويه هذه هي أن يُدّعى أن القيم هي ما يرادف «ما يرضي الجماعة»، ذلك أن مفهوم الجماعة إذا ما كان قيماً فقط فإن ذلك يعني أن في إمكان الإنسان أن يستغني عنه ما دام صادقاً وعادلاً... إلى آخر القيم. إن من المناسب أن تعلم المدرسة الأطفال على ألا يثقوا في أية سلطة، وألا يخضعوا لإرادة أي إنسان. *** أحد أهم الطرق في أن تعلم المدرسة هذا هو أن تحط من قدر الذاكرة. بتعبير آخر ألا تعتمد في تعليمها على الحفظ. إنني أرى أن إحدى وظائف المدرسة الأساسية هي أن تبقي المدرسة الأطفال أطفالاً حتى حين يكبروا. ومن المفيد أن أذكر هنا بالكاهن المصري الذي نادى سولون اليوناني بعبارة اشتهرت في ما بعد. يا سولون. يا سولون. أنتم اليونانيون أطفال دائماً. وليس لديكم أي شيخ. والإشارة هنا إلى فقدان الذاكرة التي يعيبها المصري على اليوناني. لكن فقدان الذاكرة هو ما جعل اليونان في مقدمة الأمم القديمة إلى حد قيل فيه أن لا شيء لم يفكروا فيه. *** الناس ضحايا أسلافهم. كتلة تتعلق بالتقاليد القديمة. وبإمكان المدرسة أن تحررهم، أي أن تدربهم على أن يكون لكل واحد منهم إرادته الخاصة. تستطيع المدرسة أن تكون إرادة الطفل من خلال تدريبه اجتماعياً. ويحضرني هنا الطفل الذي يتعلم اللغة بسبب إذعانه إلى الجماعة، لكن في مرحلة ما من عمره يتحرر كأن يكون شاعراً يتمرد ويثور على اللغة التي تعلمها. *** لن يغدو الطفل فرداً مستقلاً ما لم يتدرب في المدرسة على أن يكون له لغته الخاصة، وأن يتحرر من تكرار الآخرين ومحاكاتهم. وإذا كنت أذهب إلى هذا فإن من واجب المدرسة أن تعلم الطفل أن مصدر القيمة هو نفسه؛ أي أن الطفل الراشد في ما بعد لا يجب أن يستمد قيمته لا من الله ولا من الدين ولا من الداعية ولا من المجتمع ولا من الدولة، إنما يستمدها من ذاته. *** إن هاجسي هو أن تتبنى المدرسة «نسبية» القيم في مواجهة كليتها التي تفرضها جماعة مهيمنة داخل المجتمع السعودي. تسعى هذه الجماعة إلى أن تعمم القيم وتفرضها بالقوة، لا على أفراد المجتمع السعودي فقط إنما على مجتمعات أخرى. إن الأخطر في ما تقوم به هذه الجماعة المهيمنة هي أن تحول القيم إلى عادة وعُرف وتقليد بزعم أنها تحمي المجتمع وتدافع عنه في مواجهة ما تعتبره غزواً من مجتمعات أخرى. لا يمكن أن نهمل كلمة «غزو» هنا التي تشير إلى أن القيم الإنسانية تفقد إنسانيتها وتتحول إلى عدو وتأخذ معها الأمان، ولن ينجو منها إلا من يتسربل بعاداته وتقاليده وعرْفه. وإني لأذهب أنه لا يوجد مكان أفضل من المدرسة لتفكيك هذا الوهم. * روائي وناقد سعودي.